خديعة تزيد سمعة شرطة مومباي سواداً

حُمّلت جماعة إرهابية مسؤولية عبوة ناسفة عُثر عليها قرب منزل أمباني في مومباي.. لكن الحقيقة كانت أخطر بكثير

صورة تعبيرية لساشين وازيه  بعد أن ركن السيارة التي تحتوي على عبوة ناسفة قرب منزل أمباني.
صورة تعبيرية لساشين وازيه بعد أن ركن السيارة التي تحتوي على عبوة ناسفة قرب منزل أمباني. المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

حين كان جلّ أهالي مومباي يلتزمون منازلهم لدى اشتداد الوباء، لاحظ رامفيندر سينغ غيل وجود سيارة غريبة رُكنت قرب محلّة أثرى رجال تلك المدينة.

غيل عقيد سابق في القوات الخاصة الهندية بلغ عمره 53 عاماً وهو يتولى إحدى أهمّ وظائف الحراسة الشخصية في شبه القارة الهندية، حيث يشرف على فرقة أمنية عديدها 300 شخص تحمي رجل الصناعة الملياردير موكيش أمباني وأسرته.

يتركز عمل هذه المجموعة على قصر أنتيليا عمودي التصميم المؤلف من 27 طابقاً الذي تملكه عائلة أمباني، ويضمّ ثلاثة مهابط للمروحيات وصالة يوغا وصالة رقص وحتى صالة جليد شديدة البرودة. كان الحراس في حجر صحي لمدة 15 يوماً في فندق مجاور قبل أن يباشروا العمل في القصر لشهر، وذلك لتفادي تعريض عائلة أمباني لفيروس كورونا.

أمباني يُحدِّد أدوار أبنائه في مستقبل إمبراطوريته المقدرة بـ220 مليار دولار

كانت سيارة الدفع الرباعي خضراء اللون التي شككت غيل في ذاك اليوم من فبراير 2021 من طراز "ماهيندرا سكوربيو". لاحظ على الفور أنه رغم اتساخ السيارة بدت لوحة تسجيلها نظيفة، كما لو أنها رُكبت على المركبة توّاً.

وقع على ما هو أغرب من ذلك حين تحقق من رقم لوحة التسجيل، إذ جاء رقمها مطابقاً لرقم لوحة سيارة "رانج روفر" تستخدمها نيتا، زوجة أمباني. توجس غيل فاتصل بشرطة مومباي التي أرسلت فريقاً ليفتش السيارة فوجد داخلها حقيبة ظهر زرقاء تحمل شعار فريق كريكيت يملكه أمباني وفيها متفجرات صناعية.

لم تكن المتفجرات متصلة بصاعق، لكن من وضعها هناك ترك رسالة مرعبة بخط اليد كتب فيها: "في المرة المقبلة ستكون الأسلاك متصلة... وضعنا خططاً لتفجير أسرتك عن بكرة أبيها".

فساد مستشر

ازداد أعداء أمباني فيما راح يوسّع إمبراطورتيه "ريلاينس إندستريز" (Reliance Industries) الضخمة لتهيمن على مجالات كافة من البتروكيمياويات إلى تجارة التجزئة، حتى أصبح شريكاً أساسياً لرئيس الوزراء الهندوسي ذي النزعة القومية ناريندرا مودي.

لكن سرعان ما اتضح أن أمباني لم يكن يستهدفه خصم تجاري يسعى لإزاحته أو جماعة إرهابية تنقم منه لدعمه مودي. إذ تبيّن أن أحداث أنتيليا أتت في إطار واحدة من أضخم الفضائح المدوية في تاريخ مومباي، العاصمة المالية للهند.

عُثر على أحد المتورطين في القضية جثة هامدة، فيما قُبض على آخر، وهو محقق مخضرم يُدعى ساتشين وازيه ينتظر بدء محاكمته في تهم تتضمن التآمر الإجرامي والابتزاز والقتل. لقد أنهى الصخب الذي أثارته القضية المسيرة المهنية لمفوض الشرطة في المدينة، وأجبر وزيراً كبيراً في حكومة الولاية على التواري وأسهم في تراجع سطوة حزب "شيف سينا" الذي همين على المشهد السياسي في مومباي منذ تسعينيات القرن الماضي.

أماطت قضية أنتيليا اللثام عن الواقع المرّ لاقتصاد الهند، إذ سلّطت الضوء على الفساد المستشري في أجهزة إنفاذ القانون الموكل بحمايته. بيّن استطلاع أجرته منظفة الشفافية الدولية الناشطة في مجال مكافحة الفساد في 2019 أن نصف الهنود على الأقل يدفعون الرشى سنوياً، وأن عناصر الشرطة الذين يحاولون دعم رواتبهم الضئيلة عبر ابتزاز الأموال بأي طريقة، هم الأكثر تلقياً للرشى.

زد على ذلك أنه غالباً ما يستخدم عناصر الشرطة هذه الأموال ليقدموا بدورهم الرشى، فكثير منهم يقترض كي يضمن تعيينه في مناصب مدرّة للأرباح. يهدد هذا الفساد المستشري تنافسية الاقتصاد الهندي الذي يعوّل عليه المستثمرون للدفع قدماً بالنمو العالمي.

غالباً ما يبتز عناصر شرطة فاسدون الشركات، كبيراتها وصغيراتها، حتى أن الشركات الدولية المتنفذة تتفادى اللجوء إلى المحاكم العقيمة في البلاد، التي تكدس لديها زهاء 40 مليون قضية عالقة.

تعهد عديد من الساسة بإصلاح أجهزة إنفاذ القانون بالتوازي مع جهود أوسع ترمي لتحديث الاقتصاد، إلا أن اقتلاع عناصر الشرطة الفاسدين، ناهيك عن المسؤولين الذين يعتقد عديد من المواطنين أنهم يتكسبون من الفساد، قد يكون مشكلة أصعب من بناء الطرق السريعة ومحطات الطاقة.

قالت ديفياني سريفاستافا، مديرة برنامج إصلاح الشرطة ضمن مبادرة حقوق الإنسان في الكومنولث في نيودلهي: "المسألة مسيّسة جداً". أشارت إلى أن قضية أنتيليا "مثال على شبكة الفساد المترسخة".

جماعة إرهابية

يهيمن موكيش أمباني على قطاع الأعمال في مومباي، فوالده ديروبهاي الذي أسس مجموعة "ريلاينس" في 1973 هو أسطورة في الهند وكان من أوائل روّاد أعمال القطاع الخاص الذين نجحوا بالاستفادة من ضخامة عدد سكان البلاد.

تسلّم موكيش زمام إدارة امبراطورية العائلة في بداية القرن الواحد والعشرين، واستمر يبني أركان قوتها التقليدية في قطاعيّ البتروكيماويات والنسيج، فيما قاد توسعاً جريئاً في قطاعات أخرى. يملك أمباني اليوم أكبر مجمّع مصافي بتروكيماويات في العالم، إضافة إلى شركة الهاتف المتنقل الأولى في الهند وامبراطورية في مجال تجارة سلع التجزئة والتجارة الإلكترونية سريعة النمو. كما يملك مؤسسات إعلام استقطبت استثمارات من شركات من أوزان "غوغل" و"ميتا بلاتفورمز" و"مايكروسوفت".

بالتالي فإن أي تهديد لأمباني يكاد يماثل تهديداً لمومباي واقتصادها.

ما هي إلا ساعات بعد اتصال غيل بالشرطة ليبلّغ عن السيارة المشبوهة، حتى كُلّف وازيه، رئيس وحدة الاستخبارات الجنائية المخضرمة في شرطة مومباي، بتولي القضية. في البداية، بدا أن التحقيق سيكون سريعاً، فقد تبنى حساب على تطبيق "تلغرام" يزعم أنه يمثّل مجموعة إرهابية مغمورة تحمل اسم "جيش الهند" المسؤولية. لكن بعد أيام نفت المنظمة أي علاقة لها، وقالت في بيان إن "معركتها ليست ضد أقطاب الأعمال الهنود".

كان رؤساء وازيه يضغطون عليه ليحل القضية، ومنطقي أن ينتظروا منه ذلك، فالرجل الذي كان سنه 52 عاماً آنذاك، كان قد التحق بشرطة ولاية ماهاراشترا، التي تضم مومباي، في أوائل عشرينياته. كما حال كثير من رجال الشرطة الشبان، عُيّن بدايةً في منطقة نائية في مقاطعة أدغال اسمها غادشيرولي، ثم نُقل بعد نحو عام إلى مومباي، حيث التحديات التي تواجهها أجهزة إنفاذ القانون مختلفة تماماً.

تختصر المدينة التي يقطنها 20 مليون إنسان وتمتد على شبه جزيرة تشبه المخلب، مشهد الهند المتباين، إذ تقوم قصور أصحاب المليارات على مرمى حجرٍ من عشوائيات مكتظة، وتتنافس مهرجانات جوائز بوليوود مع الاحتفالات الدينية على تصدر عناوين الصحف.

إعدامات ميدانية

فيما شرعت الهند بتحرير اقتصادها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، كانت الأموال الجديدة تُجنى في مومباي بداية، مطلقة العنان لطفرة اقتصادية مستدامة. نما العالم السفلي للمدينة جنباً إلى جنب مع الأعمال الشرعية، ما عزز أنشطة رجال العصابات من أمثال داود إبراهيم زعيم المخدرات الذي سبق أن تصدر قمة لائحة مطلوبي مكتب التحقيقات الفدرالية الأميركي.

أمّا رجال الأعمال والسياسيون الذين رفضوا الانصياع لإملاءات رجال العصابات فكان مصيرهم مروّعاً. في 1995، أُردي تقي الدين عبد الوحيد، مؤسس إحدى شركات الطيران قتيلاً بالرصاص على أيدي قتلة مأجورين على صلة بزعيم عصابات آخر هو شهوتا راجان الذي شكّ بأن وحيد يدعم إبراهيم.

انضم وازيه بعد فترة وجيزة من وصوله مومباي في 1992 إلى قوة عازمة على حزم في مواجهة الجريمة يتخطى ما يجيزه القانون.

عُرفت تلك المجموعة باسم "اختصاصيي المواجهة"، في إشارة لشرطيين نفّذوا ما يمكن وصفه بالإعدامات الميدانية. وثّق صحافيون هنود بشكل واسع تكتيكات أولئك الشرطيين. بعد أن يقضوا على المستهدف، كانوا غالباً ما يضعون مسدساً بيده وينثرون أغلفة الطلقات في المكان للإيهام بوقوع تبادلٍ لإطلاق النار، ليتمكنوا من الادعاء بأنهم تصرفوا دفاعاً عن النفس.

قال شيريش تورات، الشرطي السابق الذي تلقى تدريبه مع وازيه وأصبحا صديقين مقربين: "هنالك جاذبية طاغية جداً لصورة بطل فيلم (Dirty Harry)، وأعتقد أنك حين ترغب في أمر بشدة ستحققه".

قال ضباط سابقون إن قادة الشرطة غضّوا الطرف عن عمليات القتل لأنهم كانوا تحت ضغوط كبيرة لمكافحة الجريمة المنظمة، كما أن أولئك الشرطيين استجلبوا قدراً من امتنان سكان مومباي. كانت العصابات خطراً يخشاه الملايين، ونظراً لبطء النظام القضائي، لم تستطع المحاكم أن تفعل الكثير لمحاسبة أفراد العصابات.

أمكن لأي متهم بجريمة قتل أن يناور قضائياً بما يكفي حتى يُفرج عنه بكفالة مالية ثمّ يماطل في قضيته إلى ما لا نهاية. في ظل هذه الظروف، ارتأى بعض عناصر الشرطة أن اختصار الطريق وقتل المتهم في غرفة جلوسه أو تعذيبه في زنزانة مظلمة قد يجعلهم أبطالاً.

أصبح دايا ناياك، التحري مفتول العضلات الذي يتفاخر بقتل 83 شخصاً على الأقل موضوع ثلاثة أفلام بوليوودية، وعمل استشارياً في عديد من الأفلام الأخرى.

العودة إلى العمل

لم ينف وازيه، الذي لم يستجب لطلب مقابلة أُرسل إلى محاميه، أنه كان من "اختصاصيي المواجهة"، بل إنه أقرّ علناً أنه قتل ما يصل إلى 63 شخصاً، وقال في مقابلة مع صحيفة "الغارديان" في 2011 إن "كل واحد منهم استحق الموت".

أصدقاء وازيه يصفونه بأنه شخص متفكر ومتقد الذكاء هائج الطبع، ما قد يدفعه لتصرفات عنيفة جداً. كانت هذه السمة مفيدة لرجل في مجال عمله حتى بداية الألفية على الأقل، حين اضطر ساسة مومباي للجم الشرطة بعد سلسلة فضائح.

أُوقف وازيه عن العمل لأجل غير محدد في 2004 بعد وفاة مشتبه به بتهم إرهاب كان يحتجزه. فيما لم يُسرح من عمله، لم يتمكن من إقناع رؤسائه بإعادته إلى السلك، وسعى لكسب رزقه من خلال تأليف ثلاثة كتب ومحاولة دخول عالم صناعة الأفلام.

قال شخص ذو صلة به وقد طلب عدم كشف اسمه لأنه يتطرق لمسألة خاصة، إن وازيه وجد أن "كثيراً من هذه الأمور لا تُدر دخلاً كافياً". لم تكن بوليوود تحتاج وازيه لتتناول العالم الذي كان يعيشه، ففي رأيه "عاش آخرون على حساب حياته ومغامراته وحققوا نجاحات كبرى".

في 2020، أي بعد 16 عاماً على توقيف وازيه عن العمل، تلقى أخيراً حبل النجاة من لجنة مراجعة يرأسها قائد شرطة مومباي، عرضت عليه العودة إلى وظيفته، وعُيّن رئيساً لوحدة الاستخبارات الجنائية.

ظاهرياً، عُزيت عودة وازيه لنقص في عديد العناصر بسبب الوباء، إلا أن السياق السياسي ربما لعب دوراً أيضاً، فهو عضو في حزب "شيف سينا" اليميني الحاكم في مومباي الذي كان يخوض معركة محتدمة على السلطة ضد حزب مودي "بهاراتيا جاناتا".

على عكس عناصر آخرين، لم يكن وازيه متردداً بشأن الاعتقالات ذات الطابع السياسي. في 2020 على سبيل المثال، قبض على أرناب غوسوامي، مقدّم الأخبار الشهير الموالي لحزب "بهاراتيا جاناتا" بتهمة التحريض على الانتحار.

أُفرج عن غوسامي لاحقاً بموجب كفالة مالية بعدما أشار محاميه إلى أن احتجازه كان "قنبلة دخان تهدف لتلقين الرجل درساً". لم تجب قناة "ريبابليك وورلد" (Republic World) التي يرأسها على طلب للتعليق.

حطّت قضية أنتيليا على مكتب وازيه بعد بضعة أشهر من إعادة تعيينه، رغم جدل أثارته عودته إلى العمل فقد طالبت أم الرجل الذي كان مشتبهاً به بالإرهاب وتوفي فيما كان بعهدة وازيه، بتوجيه اتهامات إلى قائد الشرطة. بالتالي، بدا كشف خفايا قضية تتعلق بصاحب أكبر نفوذ في مومباي فرصة لوازيه كي يثبت أنه يستحق العودة إلى منصبه، وأنه ما يزال أحد أفضل عناصر الشرطة في المدينة.

الإقالة من القضية

أظهرت مستندات قانونية أن وازيه حقق في البداية مع منسوك هيران، مالك السيارة من طراز "سكوربيو" التي عُثر عليها قرب منزل أمباني. لم يبد أن لبائع إكسسوارات السيارات متوسط العمر الذي يقطن في ضواحي مدينة تاني أي علاقة مع تنظيمات إجرامية أو إرهابية.

أبلغ الرجل وازيه خلال التحقيق أن سيارته تعطلت قرب طريق سريع في إحدى الأمسيات في منتصف فبراير، وبما أن الوقت كان متأخراً، استقلّ سيارة أجرة إلى منزله كي يعود في اليوم التالي ليقطر سيارته ويصلحها، لكنها كانت قد اختفت حين عاد.

أخبر هيران وازيه أنه لا يعرف كيف وصلت السيارة إلى أنتيليا التي تبعد 40 كيلومتراً، ونفى أن تكون له أي علاقة بالتهديد الذي تلقته عائلة أمباني.

لم يقتنع زملاء وازيه بنفي هيران. في بداية مارس أي بعد شهر من حادثة أنتيليا، غادر هيران منزله بعد أن أبلغ أسرته أنه استُدعي إلى قسم الشرطة لاستجوابه مجدداً. حين لم يعد، بلّغت أسرته عن اختفائه. عثرت الشرطة في الصباح التالي على جثة منتفخة لرجل في جدول مياه قريب من منزل هيران، وكان وجهه مغطى بوشاح ولم يكن يحمل أي محفظة أو أوراق ثبوتية وقد حُشرت ستّة مناديل في فمه لسدّ مجرى الهواء. أثبت تشريح الجثة لاحقاً أن ذاك كان هيران.

تلت وفاة هيران سلسلة أحداث. وازيه، الذي بنى شبكة واسعة من العلاقات مع الصحافيين على مدى سنوات، قال لبعض هؤلاء إنه يرجح أن يكون هيران قد قتل نفسه لأنه لم يطق ضغط الاستجوابات. إلا أن فيلما، زوجة هيران، روت للمحققين ما يخالف ذلك: لم يكن زوجها مجرد مواطن عشوائي على صلة بأحداث أنتيليا بسبب سيارته، بل كان أيضاً يعرف وازيه قبلاً وقالت إنه كان يستعير سيارة هيران من حين لآخر في الأشهر التي سبقت العثور عليها قرب محلة أمباني. كانت فيلما متيقنة أن وازيه متورط بمقتل هيران.

هبّ حلفاء وازيه السياسيون للدفاع عنه. قال رئيس حكومة ماهاراشترا آنذاك أوداف ثاكيراي أمام مجلس الولاية التشريعي إن "وازيه ليس بأسامة بن لادن". مع ذلك لم يعد بوسع رؤساء وازيه أن يبقوه مسؤولاً عن القضية وسط هذه الادعاءات، فنقلوه إلى خارج مومباي وأحالوا قضية أنتيليا إلى وكالة التحقيقات الوطنية، المرادف الهندي لمكتب التحقيقات الفيدرالية في الولايات المتحدة.

المحقق المشبوه

في ظل تنامي الشبهات حول وازيه، قال زملاؤه إنه غير حالته على "واتساب"، ونشر عبارةً غامضةً بدا فيها أنه يقارن ما يحصل مع توقيفه عن العمل في 2004. كتب: "التاريخ سيعيد نفسه، أعتقد أن وقت توديع العالم يدنو".

اعتقل فريق من وكالة التحقيقات الوطنية وازيه بعد تسعة أيام من العثور على جثة هيران. فقد استندوا لسجلات هاتف وصور كاميرات مراقبة، ليصبح التحقيق في قضية أنتيليا منصباً على الرجل الذي كان مكلفاً بقيادته. لقد وجدت الوكالة أن كافة سلوكيات وازيه قبل العثور على العبوة وبعدها تدل بأن لديه ما يخفيه، منها على سبيل المثال استخدامه لأكثر من عشرة خطوط هاتف خليوي مسبقة الدفع للتواصل مع ثمانية رجال منهم شرطيون حاليون وسابقون.

اكتشفت وكالة التحقيقات الوطنية أن وازيه استلم مفاتيح سيارة الـ"سكوربيو" من هيران في 17 فبراير 2021، وركّب عليها رخصة تسجيل مزورة يتطابق رقمها مع لوحة تسجيل سيارة نيتا أمباني وتوجّه بها جنوباً نحو وسط مومباي.

وصل إلى منطقة كومبالا هيل المشجرة في الصباح الباكر، ودخل ما يُعرف بحيّ المليارديرات في مومباي وركن السيارة قرب مبنى في منطقة ألتاماونت رود على بعد نحو 300 متر من أنتيليا.

ترك وازيه الذي كان يغطي وجهه بكمامة طبية السيارة وفيها المتفجرات ليركب سيارة "تويوتا" بيضاء ويقودها مبتعداً. قال محققو وكالة التحقيقات الوطنية في الوثائق الاتهامية إنهم يعتقدون بأن دافع وازيه الأساسي كان الترويج لنفسه عبر إعداد جريمة تستقطب اهتماماً واسعاً لا يستطيع أحد غيره حلّها، وبهذا يستعيد مكانته كأحد أفضل المحققين.

بدا دور هيران أساسياً في استراتيجية وازيه. فيما كان رؤساؤه يضغطون عليه ليجد المذنب. طلب من هيران تحمّل مسؤولية زرع العبوة وقال له إنه سيحصل على إخلاء سبيل بموجب كفالة على الفور، ثم بفضل بطء المحاكم الهندية، لن يمثل أمام المحكمة قبل سنوات طويلة، هذا إن مثل أصلاً.

إلا أن هيران رفض. حسب وكالة التحقيقات الوطنية، توتر وازيه جرّاء ذلك إذ إن هيران لم يرفض فقط أن يدعي المسؤولية، بل كان يعلم ما ارتكبه وازيه.

فضيحة على مساحة المدينة

بعدما رفض هيران ادعاء المسؤولية عن الجريمة، تواصل وازيه مع "عنصر مواجهة" سابق آخر يدعى براديب شارما. أُفيد أنه التقى شارما في مكتب جمعية خيرية في الضواحي الشرقية للمدينة وسلّمه حقيبة مليئة بأوراق نقد من فئة 500 روبيه، تعادل ستّة دولارات، وطلب منه أن يستأجر فريقاً للتخلص من هيران.

اتصل أحد الذين استأجرهم شارما مع هيران ليلة 4 مارس مدّعياً أنه شرطي، وعرض عليه أن يساعده على التواري لحين انحسار التغطية الإعلامية للقضية، وكان ذلك فيما كان وازيه يشارك في مداهمة حانة محليةً ليكتسب إثباتاً قوّياً لمكان تواجده إن احتاج ذلك. اتصل شريكه مع هيران عبر خطّ هاتف متنقل مسبق الدفع وطلب منه أن يتجه إلى حديقة ألعاب مائية.

حسب وكالة التحقيقات الوطنية، صعد هيران في سيارة فولكس واحن بيضاء توجهت به إلى نقطة اللقاء على بعد 8 كيلومترات، ثم صعد إلى سيارة كبيرة حمراء وكان ينتظره فيها مزيد ممن استأجرهم شارما.

قال المحققون إن أحدهم أخذ هاتف هيران، ثمّ خنقوه حتى الموت فيما كان السائق يقود السيارة عبر شوارع مظلمة في مومباي. توقفوا بعدها عند جسر وألقوا بجثته في المياه الملوثة، وقد عُثر عليها على بعد نحو 800 متر من هناك باتجاه مجرى المياه.

تعقبت وكالة التحقيقات الوطنية الرجل الذي زوّد وازيه والآخرين بخطوط الهواتف المتنقلة، وحققت معه ضمن مئات الشهود المحتملين. تمكّن المحققون تدريجياً من اكتشاف هويات المتورطين في القضية من خلال تحليل الدردشات عبر "واتساب" وبيانات تحديد موقع الهاتف.

بحلول يونيو 2021، أي بعد ثلاثة أشهر من اعتقال وازيه، اعتقلت الشرطة شارما والسبعة الآخرين الذي يُشتبه بضلوعهم بمقتل هيران. نفوا جميعاً التهم الموجهة ضدهم وهي تتضمن القتل والتآمر الإجرامي والخطف وإتلاف أدلة.

أصبحت القضية فضيحةً انتشرت في المدينة. سعى أنيل ديشموك، وزير شؤون إنفاذ القانون في الولاية حينها لاحتواء الغضب، فعزل قائد الشرطة الذي أعاد تعيين وازيه. إلا أن قائد الشرطة بارام بير سينغ رفض الانسحاب بهدوء، واتّهم ديشموك بتزعم شبكة ابتزاز كبرى تحصّل نحو 3600 دولار شهرياً من كلّ من أكثر من ألف حانة ومطعم وغيرها من المؤسسات. قال سينغ إن وازيه كان العنصر الرئيسي في تلك الشبكة وإنه كان من يحرص على أن تسدد كل مؤسسة ما يُطلب منها أو تواجه العواقب.

هزّت هذه الادعاءات حكومة ماهاراشترا، التي انهارت في نهاية المطاف بعدما أعلن حزب " بهاراتيا جاناتا" دعمه لعدد من المشرعين المنشقين. أمّا ديشموك الذي نفى أن تكون له علاقة بأي مخالفات، فقد ابتعد عن الأضواء لأشهر، ويتعاون وازيه حالياً كشاهد في قضية فساد متورط بها.

وصول وازيه إلى مكتب مفوّض شرطة مومباي في مارس 2021.
وصول وازيه إلى مكتب مفوّض شرطة مومباي في مارس 2021. هندوستان تايمز

تغير أولويات الشرطة

يقع مقرّ شرطة مومباي في مبنى قاتم فيكتوري الطراز قرب محطة القطارات المركزية. توجّه صحفيون من بلومبرغ بزنيسويك ليلتقوا قائد الشرطة العام الماضي هناك وانتظروا في غرفة استقبال سيئة التهوية، فيما كان عناصر يجولون حاملين بنادق كلاشينكوف، فيما تجاهل الموجودون لافتة تشير إلى منع استخدام الهاتف المتنقل. إن مهمة الشرطة في مدينة كبيرة وفوضوية مثل مومباي شاقة.

خلال مقابلة قصيرة مع مفوّض الشرطة سانجاي باندي، توافد عليه موظفون بلا توقف ليطلبوا توقيعه على مستند أو آخر. كان باندي الشخص الثاني الذي يتولى هذا المنصب منذ عزل سينغ وقد انتقل سلفه إلى وظيفة حكومية أخرى.

قال باندي الذي يخدم في الشرطة منذ الثمانينيات إن أولويات أجهزة إنفاذ القانون تغيرت تماماً، ولم تعد الجرائم العنيفة مصدر القلق الرئيسي في مومباي اليوم، بل تكمن المشكلة الأكبر في عمليات الاحتيال الإلكترونية وجرائم أخرى مثل الاحتيال العقاري المصاحب لارتفاع مذهل في أسعار العقارات.

قال باندي إن نشاط العصابات الذي أدى إلى ظهور أخصائيي المواجهة "لم يعد موجوداً"، وأنه يجب اعتبار وجود مثل أولئك الشرطيين والفضائح مثل أنتيليا على أنها "شذوذ عن القاعدة". قال: "لا تملك شرطة مومباي تصريحاً بالقتل، وإن عمل بعضهم بطريقة غير قانونية، فليكن... لكن هذا لا يعني أن 99% لا يعملون في إطار القانون".

تقاعد باندي في يونيو، لكن بعد شهرين من تقاعده اتضح أن محققي مديرية إنفاذ القانون في الهند التي تحقق في القضايا المالية لا يعتبرونه واحداً من الـ99% الذين ذكرهم، فقد قبضوا عليه مشتبهاً بالتورط بغسيل أموال في قضية بشأن مزاعم بمراقبة موظفي بورصة بومباي. أُفرج عن باندي بموجب كفالة مالية ولم يستجب لطلب التعليق.

خيارات عديدة لأسرة أمباني

لم تصدر عائلة أمباني أي تعليق علني على هذه القضية، التي ربطتها لفترة وجيزة ببعض أشرس أجهزة إنفاذ القانون في مومباي واكتفت بالقول إنها تتعاون مع الشرطة ونفت تقارير تداولتها وسائل الإعلام عن نيتها الانتقال من المدينة.

إلا أن التهديدات التي تواجهها العائلة ليست محصورة بمتفجرات أنتيليا، فقد قُبض في أوائل أكتوبر على رجل بعدما تلقى مشفى تموله مجموعة "ريلاينس" اتصالين يهددان بتفجيره وتفجير منزل أمباني. إذا ما قررت العائلة الانتقال لتقطن مكاناً آخر فلديها خيارات مفتوحة. لقد افتتحت أسرة أمباني مكتب استثمارات عائلياً في سنغافورة منذ أشهر وأبرمت أكبر صفقة في تاريخ العقارات السكنية في دبي، حيث اشترت فيلتين شاطئيتين مقابل نحو 250 مليون دولار. كما أبرمت "ريلاينس" صفقة للاستحواذ على ملعب الغولف الضخم "ستوك بارك" والأبنية التابعة له قرب لندن.

أمباني يشتري أغلى فيلا في دبي بـ 163 مليون دولار

ظروف وازيه الحالية تختلف أيما اختلاف عن حياته السابقة، فقد رُدّ طلب إخلاء سبيله مقابل كفالة مالية، وهو محتجز في سجن تالوجا المركزي على أطراف المدينة التي كان يوماً يحكم قبضته عليها بلا رحمة. حاول وازيه استخدام الجدل السياسي المحيط بقضيته لصالحه، بالأخص عبر موافقته على الشهادة ضد ديشموك. لكن في أي حال من الأحوال، سيمضي الرجل سنين طويلة في السجن قبل أن يحظى بفرصة لتبرئة نفسه. فوازيه أكثر من يعلم أن عجلات العدالة تسير ببطء في الهند.