مصداقية الاحتياطي الفيدرالي.. إما أن تكون أو لا تكون

إذا اعترفنا بعدم وجود مصداقية سيتطلب الأمر إعادة التفكير بشكل كامل في كيفية إدارة البنوك المركزية للسياسة النقدية

جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، خلال مقابلة أجراها في "برنامج ديفيد روبنشتاين: حوار بين النظراء" بالنادي الاقتصادي في واشنطن، الولايات المتحدة، يوم الثلاثاء الموافق 7 فبراير 2023
جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، خلال مقابلة أجراها في "برنامج ديفيد روبنشتاين: حوار بين النظراء" بالنادي الاقتصادي في واشنطن، الولايات المتحدة، يوم الثلاثاء الموافق 7 فبراير 2023 المصدر: بلومبرغ
Allison Schrager
Allison Schrager

Allison Schrager is a Bloomberg Opinion columnist. She is a senior fellow at the Manhattan Institute and author of "An Economist Walks Into a Brothel: And Other Unexpected Places to Understand Risk."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

هناك حالة إنكار للتضخم، إما بين المستثمرين أو صناع السياسة النقدية في بنك الاحتياطي الفيدرالي. غير أن هذا الانفصال، وبغض النظر عما ستؤول إليه الأمور، يشير إلى أن البنك المركزي الأميركي قد فقد مصداقيته، أو ربما أنه لم يحظ بهذه المصداقية منذ البداية، وإذا كان الأمر كذلك، فسواء حدث هبوط سلس للاقتصاد أو حاد، فإن نظام استهداف الاحتياطي الفيدرالي معدلاً للتضخم ربما يكون أحد ضحايا هذا الاقتصاد.

ليس سهلاً بالنسبة لي أن أقول ذلك، فقد ترعرعت على نظام يستهدف مستوى للتضخم، وكان هذا النظام هو عقيدة السياسة النقدية.

تعلم معظم الاقتصاديين من أبناء جيلي جيداً أننا اكتشفنا الأداة الأنسب أخيراً بعد أجيال من استخدام أدوات السياسة النقدية غير الفعالة أو الضارة. كان التواصل بمصداقية أحد أقوى أدوات بنك الاحتياطي الفيدرالي. فإذا التزم الاحتياطي الفيدرالي بهدف التضخم، سيصبح هذا الهدف تلقائي التحقق، حيث ستحتسب الأسواق هذا الهدف في أسعارها وستُحدد عقود الأجور وفقاً له، وهذا من شأنه منح صُناع السياسة السيطرة اللازمة لإبقاء التضخم عند معدلات مستقرة وقابلة للتنبؤ. بعد كل تلك الأعوام من الأخطاء، اعتقدنا أننا حللنا اللغز.

هل يحقق "الفيدرالي" هبوطاً سلساً أم حاداً؟ أو ما بين الاثنين؟

بدا الأمر جيداً من الناحية النظرية، لكن تاريخ معدل التضخم المستهدف ليس عظيماً. في 2012، تبنت الولايات المتحدة هدفاً للتضخم نسبته 2%. وبعد فترة وجيزة، تراجع التضخم إلى ما دون هذا المستوى وظل في الغالب عند معدل يقل عن 2% حتى تفشى الوباء.

لم تكن تجربة كندا أو المملكة المتحدة أفضل كثيراً. والآن، رغم أن المركزي الأميركي يبذل قصارى جهده، لا يبدو أن التضخم سيعود إلى معدل 2% في أي وقت قريب، وهو ما قد يدق المسمار الأخير في نعش مصداقية هدف التضخم في الأسواق.

توقعات متفائلة لا تتحقق

صحيح أن تأثير السياسة النقدية يستغرق وقتاً حتى يظهر في الاقتصاد، لكن الاحتياطي الفيدرالي كان جاداً في محاربة التضخم منذ أكثر من عام، ويواصل توقع تراجعه بمعدلات أسرع كثيراً مما يتحقق في الواقع.

تبدو توقعات الاحتياطي الفيدرالي الحالية البالغة 2.8% للعام الجاري، و2.5% للعام المقبل و2% بعد ذلك، متفائلة للغاية ما لم يخطط لزيادات كبيرة في أسعار الفائدة، أو إذا تحقق ركود، لكن هذا لا يتسق مع توقعاته ببلوغ البطالة ذروتها عند 4.6% فقط خلال العامين المقبلين مع استمرار النمو بمستويات إيجابية.

"الفيدرالي" لا يكترث كثيراً بالأسواق ومؤشراتها بقدر ما تفعل "وول ستريت"

ربما يواصل بنك الاحتياطي الفيدرالي تقديم توقعات متفائلة مع رؤيته سوق السندات ترجح انخفاض التضخم في الأعوام القليلة المقبلة لكن يجب أن يدرك البنك المركزي أن سوق السندات على مر التاريخ ليست ماهرة في التنبؤ بالتضخم، كما أنها لا تضع في حسبانها الزيادات الكبيرة اللازمة في أسعار الفائدة للوصول إلى هدف 2%. مايزال عائد السندات لأجل عامين أقل من 5% ولأجل عام يرتفع قليلاً عن 5%، وربما تتجه أسعار الفائدة على الأموال الفيدرالية إلى 6% على الأقل لكبح التضخم. ولكني أرى - وقد لا يكون لرأيي أهمية كبيرة - أن المستهلكين أصبحوا أكثر تشككاً في تراجع التضخم إلى 2%.

أربعة سيناريوهات محتملة

  1. يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بضع مرات أخرى، لتحصل الأسواق (والاحتياطي الفيدرالي) على الهبوط السلس الذي يبدو أنهم يعتمدون عليه حتى ينخفض التضخم ويستقر في النهاية عند 2% تقريباً دون زيادة كبيرة في البطالة أو انخفاض كبير في معدل النمو. ومن ثم يبدو رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول كبطل أنقذ الاقتصاد.
  2. يزيد الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة عدة مرات ومن ثم ينخفض التضخم لكن دون العودة إلى مستوى 2%، ثم يسمح الفيدرالي بسير الأمور على هذا النحو ويتعلم الجميع التعايش مع معدلات أعلى للتضخم.
  3. يتضح أن زيادات أسعار الفائدة حتى الآن بالإضافة إلى زيادة أخرى قدرها 0.5 نقطة مئوية كافية لإحداث ركود مع نفاد زخم النشاط الاقتصادي المزدهر، ما يؤدي إلى عودة التضخم إلى 2%. ستحظى السياسة النقدية بالثناء لخفض التضخم، لكنها ستتقاسم اللوم على الركود مع الاختلالات الاقتصادية العامة بعد الوباء.
  4. يواصل الاحتياطي الفيدرالي زيادة أسعار الفائدة حتى يتراجع التضخم إلى 2% بغض النظر عما يحدث في سوق العمل. فيكره الجميع الاحتياطي الفيدرالي، لكن مصداقيته تبقى.

السيناريو الأرجح

السيناريو الثاني هو الأرجح، فهو عبارة عن نسخة أكثر واقعية من الهبوط السلس الذي أصبح ممكناً بفضل قوة سوق العمل. مع ذلك، فإن الهبوط السلس قد يكون الشيء الذي يقضي على نظام وضع هدف للتضخم. لا شك أن خفض التضخم والوصول بمعدله إلى 2% أمران مختلفان.

العريان: الأسواق تشك في قدرة الفيدرالي على خفض التضخم إلى 2%

أتوقع أن ينطوي الهبوط السلس على استقرار التضخم عند مستوى جديد، لكنه أعلى، لنقل عند 3% أو 4% دون ركود أو خسارة كبيرة في الوظائف. هذا الأمر يبدو أكثر احتمالاً من الانخفاض إلى 2% لأن التضخم في المرحلة الحالية يأتي من زيادات الأجور وقطاع الخدمات، والتي يصعب إبطاؤها. كما أن هناك أسباباً هيكلية لتوقع نسبة أعلى للتضخم على المدى الطويل.

في هذه المرحلة، سيكون الاحتياطي الفيدرالي أمام معضلة، فقد يصبح أداء الاقتصاد جيداً في ظل معدل تضخم نسبته 3% أو 4%، بل يزعم بعض الاقتصاديين أن هذه المعدلات ربما كان استهدافها أفضل منذ البداية، لكنها ليست مستهدفة حالياً، وقبل عشر سنوات، كان يبدو أن نسبة 2% تُعد هدفاً ممكناً وقد سمح للاقتصاد بالنمو في ظل درجة معينة من الثقة، لكنها قد لا تكون مناسبة الآن.

ربما يضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى بذل قصارى جهده لخفض التضخم إلى هذا الحد، مع رفع أسعار الفائدة إلى مستوى يتجاوز 5% والإضرار بسوق العمل واحتمال تحسن أداء الاقتصاد، فقط للحفاظ على التزامه بتضخم نسبته 2% الذي حُدد عندما كان وضع الاقتصاد مختلفاً تماماً.

سوق العمل الأميركية تشير لنجاح "الفيدرالي" في تحقيق الهبوط السلس

استناداً إلى أسعار الفائدة الحالية، يبدو أن الأسواق لا تتوقع رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة كثيراً فوق 5%، بالتالي يبدو أنها تستبعد السيناريو الرابع. ولسبب وجيه، فإنه الأقل احتمالاً. تصريحات الاحتياطي الفيدرالي الصارمة سهلة عندما يقف معدل البطالة عند 3.4%. لقد مر أكثر من 40 عاماً منذ أن انتهج البنك المركزي الأميركي سياسة انكماشية ذات تأثير كبير وسلبي على الاقتصاد.

مصداقية الاحتياطي الفيدرالي

ربما يعتقد بعض الاقتصاديين أن الأمر يتطلب ركوداً اقتصادياً للحفاظ على مصداقية الاحتياطي الفيدرالي، لكن الأميركيين لن يتساهلوا مع فقدان وظائفهم بسبب بعض السياسات الغامضة للبنك المركزي. لا أدري كيف سيشرح الاحتياطي الفيدرالي هذا الخيار للعامة في جلسات الاستماع المقبلة.

"غولدمان" يخفض توقعاته لركود الاقتصاد الأميركي إلى 25%

لا عجب إذاً في أن الأسواق لا تأخذ في حسبانها سياسة متشددة من قبل الاحتياطي الفيدرالي.

لكن إذا لم يتمكن الاحتياطي الفيدرالي من إعادة التضخم إلى 2%، فإلى أين سيتجه هدف التضخم؟

فإذا غيّر الاحتياطي الفيدرالي مستهدف التضخم إلى 4% وأعلن النصر، فسيظهر بوضوح أنه فعل ذلك بسبب عدم قدرته على تحقيق مستوى 2%. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هدف التضخم لن يكون له معنى لأن الآلية بأكملها تعتمد على مصداقية الاحتياطي الفيدرالي في أن يفعل ما يقول.

انهيار نظام استهداف التضخم

اعتقد أن احتمال تحقق السيناريو الأول ضئيل، والذي يتوقع هبوطاً سلساً غير مسبوق لنشاط الاقتصاد مع انخفاض معدل التضخم فعلياً إلى 2% دون ركود اقتصادي، أو ربما نشهد وقوع السيناريو الثالث، حيث يكون رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة قد أدى المهمة المطلوبة وبدأ الركود بالفعل في الاختمار ما سيقود بدوره إلى تضخم نسبته 2%.

"بنك التسويات الدولية" يتوقع عودة تسريع وتيرة التشديد النقدي

إذا لم يتحقق أيٌ من ذلك، فإن مستقبل نظام استهداف التضخم لا يبشر بالخير.

ولن يكون ذلك بالأمر الهين، فاستهداف التضخم ومصداقية التواصل أصبحا سمات مميزة للسياسة النقدية الجيدة، فإذا اعترفنا بعدم وجود مصداقية، وربما لم توجد على الإطلاق، فإن الأمر سيتطلب إعادة التفكير بشكل كامل في كيفية إدارة البنوك المركزية للسياسة النقدية.