أميركا المريضة لن تكون قادرة على منافسة الصين مستقبلاً

أكثر من ثلاثة أرباع الشباب الأميركي يعانون من مشكلات صحية تجعلهم غير لائقين للخدمة العسكرية

مركز الأزمات التابع لـ"وان فيفتين" في مدينة دايتون المخصص للمرضى المقيمين.
مركز الأزمات التابع لـ"وان فيفتين" في مدينة دايتون المخصص للمرضى المقيمين. المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

إذا كانت الصحة تعني الثروة، كما يقول المثل، فإن المستقبل الاقتصادي للولايات المتحدة يبدو قاتماً. كانت أميركا تتمتع في العادة بمستويات صحة مرتفعة.

في العصر الاستعماري، كان الرجال الأميركيون أطول بمعدل بوصتين إلى ثلاث بوصات في المتوسط من نظرائهم الأوروبيين، وذلك طبقاً للسجلات العسكرية، وهي حقيقة تبهر علماء الديموغرافيا التاريخيين ممن يعتقدون أن الطول يتناسب طردياً مع طول العمر والتطور المعرفي والقدرة على العمل.

اليوم تتحول تلك الميزة إلى عجز، فالرجل الأميركي أصبح أقصر في المتوسط من نظرائه في شمال أوروبا، وهذه الفجوة تزداد اتساعاً، حيث يعاني ستة من كل عشرة أميركيين من مرض مزمن واحد على الأقل، فيما يعاني أربعة من كل عشرة من مرضين.

يقول الكاتب ويليام غالستون، في مقال له بصحيفة "وول ستريت جورنال"، إن "أميركا مجتمع مريض حرفياً".

أصبح تدهور الصحة في الولايات المتحدة مشكلة اقتصادية متنامية. فقد انخفض معدل مشاركة الأميركيين في القوى العاملة إلى نسبة محبطة قدرها 62.4%، وبلغ عدد الوظائف الشاغرة 11 مليون وظيفة، مقارنة بـ5.7 مليون باحث عن عمل فقط، فيما اختفى 2.8 مليون شخص من سوق العمل الأميركية منذ فبراير 2020، طبقاً لغرفة التجارة الأميركية. كما يشتكي أرباب العمل من كثرة التغيب عن العمل واضطرابات الوظائف إضافة إلى صعوبة إيجاد عمال لشغل الوظائف الشاغرة.

القصور الصحي مشكلة أمن قومي

في الوقت نفسه، تواصل تكاليف الرعاية الصحية الارتفاع. يمثل القصور الصحي مشكلة أمن قومي أيضاً في الولايات المتحدة، في ظل تصاعد التوترات بينها وبين كل من الصين وروسيا. كشف مسح أجرته وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في 2020 أن أكثر من ثلاثة أرباع الشباب الأميركي، ممن تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 24 عاماً، يعانون من مشكلات صحية تجعلهم غير لائقين للخدمة العسكرية، حيث تُعد السمنة المشكلة الأبرز.

الوباء يزيد من معاناة السمنة في الولايات المتحدة

يمثل انخفاض متوسط العمر المتوقع العلامة الأبرز على تدهور الحالة الصحية في البلاد. لطالما افترضنا أن الحداثة تجلب حياة أطول، لكن الواقع يشير إلى أن العمر الأطول دليلاً على أن كل هذا التدمير الإبداعي كان يستحق كل هذا العناء. لم يكن هذا هو الحال في الولايات المتحدة منذ 2014. فقد انخفض متوسط العمر المتوقع في 2021 إلى 76.1 عاماً، وهو أدنى رقم منذ 1996، ليمحو بذلك ربع قرن من التقدم.

تتقدم الدول المتقدمة الأخرى أكثر، إذ يمكن أن يزداد عمر الألمان عن الأميركيين بـ4.3 عام في 2021 مقارنة بـ2.5 عام في 2018، فيما ارتفع عمر الفرنسيين عن الأميركيين بـ6 أعوام أخرى مقارنة بـ4 أعوام في 2018. كما أن متوسط العمر المتوقع في ولاية فرجينيا الغربية أقل من نظيره في المكسيك.

ارتفاع السمنة في الولايات المتحدة

تعاني الولايات المتحدة من أحد أعلى معدلات السمنة في العالم المتقدم، حيث ارتفع معدلها من 15% في 1980 إلى 30.5% في 2000 ثم إلى 41.9% في 2020. هذا المعدل يعتبر عشرة أضعاف المعدل المسجل في اليابان وأعلى بكثير من الصين. ترتبط السمنة بمشكلات صحية متعددة، مثل أمراض القلب والاكتئاب وارتفاع ضغط الدم والسرطان والسكري المرتبطان بنمط الحياة، والتي تصيب 13% من السكان، وتكبد أرباب العمل الأميركيين نحو 90 مليار دولار سنوياً.

تُعد مشكلة السمنة أسوأ بكثير في مجموعة من الولايات الجنوبية والجنوبية الشرقية (مثل ألاباما وأركنساس وفلوريدا وجورجيا ولويزيانا وميسيسيبي ونورث كارولينا وساوث كارولينا وتينيسي وتكساس) ذات التقاليد العسكرية القوية. كما أنها تُعتبر أسوأ بين الطبقة العاملة والسكان السود واللاتينيين (فالأرقام الخاصة بالآسيويين أكثر تعقيداً نظراً لوجود فرق كبير بين جنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية). وقدّرت دراسة أُجريت في 2020 التكلفة الاقتصادية للسمنة بنحو 1.4 تريليون دولار في 2018، وهذا يعادل 7% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي.

وباء الأفيون

في الوقت نفسه، ارتفعت مشكلات تعاطي المخدرات والكحول في أميركا بسبب وباء الأفيون. حيث ازدادت حالات الوفاة الناتجة عن تناول جرعات زائدة من المخدرات من 17 ألفاً (62 لكل مليون) في 2000 إلى 92 ألف (277 لكل مليون) في 2020، مدفوعة بشكل كبير بإنتاج كميات كبيرة للمواد الأفيونية وتوزيعها من قبل شركات الأدوية الكبرى. لا غرابة في أن متعاطي المواد الأفيونية أكثر عرضة لأخذ إجازات غير مقررة أو التسرب من القوى العاملة تماماً وكذلك الموت مبكراً.

خطة "غوغل" منخفضة التقنية لحل أزمة الإدمان على الأفيونيات

ربما انتشر وباء الأفيون بين السكان الذين يعانون بالفعل من مشكلات صحية، حيث تُوصف الغالبية العظمى من المواد الأفيونية في الأصل للأشخاص الراغبين في تخفيف الشعور بالألم الناتج عن إعاقة أو مرض. كما يتركز الوباء بالتأكيد بشكل أكبر في فئات ومناطق معينة، حيث يكون العمل البدني المتكرر أسلوب حياة.

وتُعتبر معدلات الوفاة من تناول جرعات زائدة من الأفيون أعلى بخمس إلى سبع مرات لدى من لا يمتلكون شهادة جامعية، مقارنة بخريجي الجامعات، كما أنها أعلى بكثير في مجتمعات تعدين الفحم السابقة، خاصة في أبالاشيا، مقارنة بأي مكان آخر.

كوفيد دليل على تدهور الوضع الصحي

كانت جائحة كوفيد-19 دليلاً ثالثاً على تدهور جانب الصحية في الولايات المتحدة، التي ظل معدل الوفيات الناتجة عن كوفيد فيها أعلى بكثير من معظم الدول المتقدمة الأخرى. ففي الولايات المتحدة، بلغ معدل الوفيات 339 حالة لكل 100 ألف أميركي، مقارنة بـ254 في فرنسا، و201 في ألمانيا، و134 في كندا، وذلك بسبب ضعف نظام الرعاية الصحية الأساسية في البلاد.

وفيات كورونا في الصين تنخفض إلى النصف خلال الأسبوع الماضي

تراجع معدل المشاركة في القوى العاملة الأميركية (المنخفض بالفعل) بشكل حاد بسبب تفشي الوباء، وهو انخفاض لم تتعافَ منه البلاد حتى الآن. يبدو أيضاً أن الوباء ترك إرثاً طويل المدى يُعرف بـ"كوفيد الممتد"، وهي مشكلة لا يزال الأطباء يحاولون فهمها، لكنها تُصيب الأشخاص بمشكلات صحية مثل التعب وضيق التنفس والضباب الدماغي.

يُرجح معهد "بروكينغز" أن نحو ثلاثة ملايين أميركي، أو 1.8% من القوى العاملة المدنية، ربما يكونون عاطلين عن العمل بسبب "كوفيد الممتد"، وهو ما يعني تكبد الاقتصاد خسارة سنوية قدرها 168 مليار دولار.

في الوقت نفسه، تتفاقم مشكلات السمنة والمشكلات المتعلقة بالإدمان بسبب كوفيد، فأصحاب الوزن الزائد أكثر عرضة للوفاة من كوفيد أو المعاناة من عواقبه مقارنة بنظرائهم النحيفين. كانت الجائحة بمثابة حافز قومي للمواد المسببة للإدمان، حيث ارتفع عدد الوفيات بسبب الجرعات الزائدة من المواد الأفيونية والميثامفيتامين وحتى الكحول أثناء الوباء.

كما تشير إحدى الدراسات التي أُجريت في 2022 إلى أن ارتفاع تعاطي المخدرات أثناء فترة تفشي الوباء تسبب في تراجع مشاركة الأميركيين في سن الرشد في القوى العاملة بنسبة تتراوح بين 9% و26% في الفترة بين فبراير 2020 ويونيو 2021.

مشكلات الصحة العقلية

يبدو أن مشكلات الصحة العقلية في بلاد العم سام مُلحة بنفس قدر مشكلات الصحة الجسدية رغم صعوبة قياسها وتشخيصها بشكل واضح. وأظهر تقرير صادر عن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أن ما يقرب من ثلث طالبات المرحلة الثانوية فكرن بجدية في الانتحار في 2021. كما يعاني الشباب من الشعور بالاغتراب مع زيادة التسرب من المدرسة وانخفاض معدلات الالتحاق بالجامعة، ولا شيء من هذا يبشر البلاد بمستقبل جيد.

أمراض السمنة تطرق أبواب أفريقيا

إذا كان لكل هذا تأثير سلبي على مقرات العمل في الولايات المتحدة، فربما يكون لهذه المقرات أيضاً تأثير سلبي على صحة القوى العاملة. ينطبق هذا بشكل خاص على العمال ذوي الياقات الزرقاء والعاملين الميدانيين، أي الأشخاص الذين يعملون في العالم الواقعي بدلاً من العالم الافتراضي، والذين يصنعون الأشياء أو يسلمون البضائع.

في أحسن الأحوال، فإن المديرين الأميركيين مذنبون بتجاهلهم احتياجات العاملين الميدانيين، بينما يعيشون في فقاعة زملائهم المديرين. أما في أسوأ الأحوال، فهم كانوا يضغطون عليهم للعمل بجدية أكبر في وظائف رتيبة بالفعل. تعود فكرة ترك مثل هذه الوظائف جزئياً إلى أن الناس يجدونها قاسية، وسبباً جزئياً لمعانتهم من مشكلات صحية، أو ضرورة رعايتهم لأفراد الأسرة الذين يعانون من مشكلات صحية.

أمر صعب لكنه ليس مستحيلاً

ما الذي يمكن عمله حيال كل هذا؟

تُعد معالجة أزمة الرعاية الصحية في أميركا أكثر صعوبة من معالجة تدهور المستوى التعليمي. وتتمتع صناعة الوجبات السريعة بنفوذ قوي وتوفر للسكان (خاصة الفقراء) طعاماً مشبعاً بالدهون والملح، بينما تتحدث عن أشياء رائعة تتعلق بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات. كما أن صناعة الرعاية الصحية عبارة عن مجموعة من المصالح الضارة والحوافز المنحرفة.

كان إحجام اليسار عن إلقاء اللوم على الضحية سبباً في عدم رغبة المواطنين، (بما فيهم الأطباء)، في إقرار ما هو واضح، أن السمنة ناتجة عموماً عن تناول الكثير الطعام والقليل من الحركة. كما أن كراهية اليمين الفطرية للانشغال الحكومي بالصحة الجسمانية تُصعّب تقديم حتى النصائح الأساسية حول حماقة شرب غالون من المشروبات الغازية المحملة بالسكر.

لماذا تتساعد نساء من أصول أفريقية للهجرة من أميركا؟

مع ذلك، فإن الأمر الصعب لا يعني أنه مستحيل. فقد نجحت الولايات المتحدة في التصدي لنفوذ صناعة التبغ التي كانت ذات يوم قوية، لتتمتع الآن بمعدلات تدخين أقل من الدول المتقدمة الأخرى، خاصة في جنوب أوروبا، حيث لا يزال المواطنون يدخنون أثناء تناول وجباتهم.

في أوائل القرن العشرين، أدرك البريطانيون أنهم لا يستطيعون الحفاظ على مكانتهم كقوة اقتصادية وعسكرية رائدة في أوروبا ضد ألمانيا الصاعدة ما لم يفعلوا شيئاً حيال تدهور الحالة الصحية للمواطنين، فكما قال رئيس الوزراء البريطاني السابق لويد جورج "لا يمكن قيادة إمبراطورية من الطراز الأول بسكان من الطراز الثالث".

بالتالي، شنت حكومة ليبرالية إصلاحية حرباً ضد الأطعمة المغشوشة، وأنشأت رعاية صحية مدرسية وقدّمت حليباً مجانياً في المدارس (فكما قال رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل، الذي كان ليبرالياً آنذاك "ليس هناك مجتمع أفضل من ذلك الذي يقدم الحليب للأطفال").

التدريبات الرياضية "الافتراضية" تُغير صناعة اللياقة البدنية

يحتاج الأميركيون إلى التحلي بنفس العزيمة التي كانت لديهم عند محاربة التبغ، أثناء مواجهة الوجبات السريعة، كما أنهم بحاجة أيضاً لبدء التفكير في الحالة الصحية للسكان بنفس الطريقة التي اتبعها الليبراليون البريطانيون أوائل القرن العشرين، باعتبارها مسألة تتعلق بالكفاءة والتعاطف الوطنيين.

الصحة الجيدة ليست مجرد شيء ممتع، بل إنها عنصر حيوي في القدرة التنافسية الوطنية. كما أن اعتلال الصحة ليس مجرد مأساة للفرد، بل إنه يفرض قيوداً أيضاً على إنتاجية الدولة وقدرتها على الدفاع عن نفسها.