كيف أصبح الاحتياطي الفيدرالي الأميركي "أكبر من أن يفشل"؟

حوار مع مؤلفة كتاب "بلا حدود: الاحتياطي الفيدرالي الأميركي" حول تاريخ البنك والأزمات.. والحلول التي لم يفهمها الجمهور

استمرار التجديدات بمبنى مارينر إيكلز لمجلس "الاحتياطي الفيدرالي"، 19 سبتمبر 2022، واشنطن، الولايات المتحدة الأميركية
استمرار التجديدات بمبنى مارينر إيكلز لمجلس "الاحتياطي الفيدرالي"، 19 سبتمبر 2022، واشنطن، الولايات المتحدة الأميركية المصدر: غيتي إيمجز
Allison Schrager
Allison Schrager

Allison Schrager is a Bloomberg Opinion columnist. She is a senior fellow at the Manhattan Institute and author of "An Economist Walks Into a Brothel: And Other Unexpected Places to Understand Risk."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أجريت حواراً مع جينا سمياليك، مؤلفة كتاب "بلا حدود: (الاحتياطي الفيدرالي الأميركي) يستعد لعهد جديد من الأزمات" (Limitless: The Federal Reserve Takes on a New Age of Crises). إليكم الحوار بعد تحريره ليكون أكثر تركيزاً ووضوحاً:


- كتابك الجديد هو تأريخ حديث عن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، يركّز على التوسع الاستثنائي في دور البنك المركزي على مدى العقود الأخيرة وأثره على الاقتصاد الأميركي. أود أن أبدأ باقتباس من نهاية كتابك عن رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق، مارينر إيكلز، يقول فيه "نادراً ما تلاقي إجراءات الاحتياطي الفيدرالي قبولاً شعبياً. فنجاحه في مهمته يتطلب وجود قوة داخلية كبيرة في تركيبته، وشجاعة عظيمة في إجراءاته، وفهماً مستمراً للدور الذي يجب أن يلعبه في مجتمعنا ورأسماليتنا الديمقراطية".

هل ترين أن الاحتياطي الفيدرالي ما زال يتّخذ قرارات لا تلاقي قبولاً شعبياً؟

* لعب إيكلز دوراً محورياً في ترسيخ مكانة الاحتياطي الفيدرالي باعتباره مركز قوة، وفي تحديد مكانته في العالم. لقد فهِم أن مهمة الاحتياطي الفيدرالي الأساسية هي تحفيز الاقتصاد عند سوء الأوضاع، والمحافظة على هدوئه عند تحسنها. شعر إيكلز بالحاجة إلى استقلالية البنك عن الحكومة المنتخبة، والقدرة على تنفيذ مهمة إبطاء الاقتصاد الشاقة للسيطرة على التضخم. ما يقوله هنا هو توقعه للبنك بمستقبل حافل بالأحداث، ينفذ فيه الإجراءات التي يرفضها الجميع.

مهمة صعبة

- منذ سنوات عدة، التقيت بامرأة عملت في مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي مع بول فولكر. قبل انضمامها إلى المجلس، قال لها فولكر: "عليّ أن أتأكد من أنك قوية بالقدر الكافي لتولّي هذا المنصب، فالناس سيكرهونك". لا أظن أن هناك مَن سيقول هذا لشخص سينضم إلى المجلس اليوم.

* عندما ذهب فولكر لإجراء مقابلته مع الرئيس جيمي كارتر لتولي منصب رئيس الاحتياطي الفيدرالي، قال: "لن تحب أياً مما سأفعله في هذا المنصب. سأرفع أسعار الفائدة، وسأضر بالاقتصاد، وسأخفّض التضخم". تصوّر فولكر منذ البداية عدم شعبية البنك، ما يعني تنفيذ ما لا يفهمه الشعب أو يقبله. وبالتأكيد كان هذا صحيحاً، كره الناس فولكر بشدة. الآن، ننظر إليه باعتباره شخصية تاريخية، يكاد أن يكون بطلاً. لكن في تلك الأوقات، كان استياء الناس منه على أشده. أرسلوا إليه رسائل على قطع خشبية صغيرة من منازل لم يتمكنوا من بنائها، ومفاتيح سيارات لم يستطيعوا بيعها بسبب أسعار الفائدة المرتفعة التي فرضها، والتي كان الهدف منها خفض التضخم.

"الاحتياطي الفيدرالي": المزيد من زيادات أسعار الفائدة مطلوب لمحاربة التضخم

على النقيض، مررنا بعهد التضخم المنخفض نسبياً الذي انتهى في وقت قريب. شهدنا تضخماً بالغ الخمول على مدى عقدين ونصف العقد، وبذلك، اتبع الاحتياطي الفيدرالي هذا النمط حينما كان جُل تركيزه منصباً على سوق العمل، حيث لعب دور المراقب الشامل الودود للاقتصاد الأميركي. رفع أسعار الفائدة إلى حد ما عندما بدأ التضخم في الارتفاع، وخفّضها بعض الشيء عندما ساءت الأوضاع، لكنه في أغلب الأوقات لعب دور المنقذـ لا الشرير.

ما بين إرث فولكر وباول

- وهذا ما يعجبني في اسم كتابك. فكلمة "بلا حدود" تشير إلى سعي الاحتياطي الفيدرالي في الأعوام الأخيرة إلى مساعدة الفرد والمجتمع بأي شكل. إذا كنا نعتبر فولكر الآن بطلاً خلّصنا من التضخم، فهل تظنين أن إرث جيروم باول سيشابه إرث من خفّض معدلات التضخم؟

باول: لم نصل بعد إلى معدلات فائدة كافية لكبح التضخم.. ونناقش زيادتين أخريين

* لا أرى أن إرث باول قد انتهى أو جرى تسجيله حتى الآن. فالجزء الأكبر من الإرث يعتمد على ما سيحدث في الأوضاع التضخمية المفاجئة التي نمرّ بها حالياً. لا أعتقد أن أحداً يُحمّل الاحتياطي الفيدرالي المسؤولية الكاملة عمّا حدث لمعدلات التضخم نتيجة للإجراءات التي اتخذها خلال أزمة 2020. فمن الواضح أن الحكومة أنفقت الكثير من الأموال، ما حفّز زيادة الطلب، كما كان وجود مشكلات في سلاسل التوريد جلياً، ما شكل القوة الدافعة للتضخم الأساسي. مع ذلك، أظن أن هناك بعض القلق من أن يكون الاحتياطي الفيدرالي قد بالغ في جهوده، وساعد بذلك على تفاقم معدلات التضخم، إن لم يكن سبباً لذلك. لا نعلم كيف ستكون النهاية، سواء كانت بالقضاء السريع على التضخم، أو أن السيطرة عليه ستكون عملية حافلة بالصعوبات.

ما أحاول الوصول إليه أيضاً من خلال اسم الكتاب، هو فكرة أن الاحتياطي الفيدرالي بدأ في تجاوز مرحلة مجرد التفكير في التضخم. كانت الفكرة عند تأسيس البنك في 1913 أن يشكل حائط السد إذا ما ساء الوضع الاقتصادي، وقد اتسعت مهمته بشكل كبير في القرن 21 بصورة لا أعتقد أننا استوعبناها حتى الآن.

اتساع نطاق العمل

- تقولين إن الاحتياطي الفيدرالي بدأ صغيراً وبنطاق عمل محدود، والأرجح أنه قد بلغ أوسع نطاق له حالياً. هل كانت سياسة البنك دوماً قيد البناء المتمهل، أم إنها سياسة متذبذبة؟

* الأرجح هو عدم وجود خط ثابت لها. لكن، بالتأكيد هناك اتجاه متصاعد ووعر. في عام 1935، تولّى مارنر إيكلز رئاسة مؤسسة تفتقر إلى التنظيم ومنخفضة الكفاءة، فوحّدها، وأعاد تنظيمها، وحوَّلها إلى هيئة قوية. تزايدت أهمية الاحتياطي الفيدرالي بعد إلغاء معيار ربط الذهب بالعملة، ومجيء التضخم الكبير في السبعينيات والثمانينيات.

هل يحقق "الفيدرالي" هبوطاً سلساً أم حاداً؟ أو ما بين الاثنين؟

دخل البنك دائرة الأضواء في ظل رئاسة آلان غرينسبان خلال التسعينيات، لكننا لم نرَه يستعرض قوته إلا بعد وصول بِن برنانكي إلى رئاسة البنك في 2008، عندما كان العالم في حالة انهيار. درس برنانكي أوضاع الثلاثينيات، وعرف الكثير عن القوى التي جمعها إيكلز والبنك في فترة الكساد الكبير، واستغلها للدرجة القصوى ليُخرج الاقتصاد من أزمة شديدة. ثم شهدنا استئناف كل تلك البرامج وتطويرها عند بدء الجائحة في 2020. لم نرَ ثمار تنامي هذه القوة إلا في القرن الحادي والعشرين.

- هل تعتقدين أن هذه القوة قد تتزايد في المستقبل؟

* أعتقد أننا بدأنا نرى قدرات الاحتياطي الفيدرالي، وسيشكل هذا إغراءً في الأزمات مستقبلاً. بالاعتماد على هيكل نظامنا المالي فحسب، علينا أن نفترض وقوع أزمات مستقبلية.

- هل تعتقدين أن في هذا الأمر استدامة؟ أعني أن مجال العمل الضيق هو ما يحافظ على استقلالية الاحتياطي الفيدرالي بصورة كبيرة.

* بصفتي صحفية، أجاهد كي لا أكوّن رأياً فعلياً عن كيفية إجابتنا عن تلك الأسئلة، لكن هناك موضوعاً وحيداً كونتُ رأياً عنه، وهو أننا لا نتحدث عن هذا الأمر في الحقيقة. لا نتحدث عن الخطوات التي اتخذها البنك في 2020، والأساليب التي نفذها بها، طمست الخطوط الفاصلة بين السياسة المالية والسياسة النقدية، والأرجح أننا نريد خوض تلك المناقشة. اختيار وضع سائد للسياسة النقدية أو المالية لن يفيد، بالأخص عند تطبيق سياسات بهذا الحجم والتأثير.

تنوّع مرغوب

- كتبتِ أيضاً عمّن يجب أن يكون عضواً في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وأظنك تفكرين في احتمال وجود تحيّز ضد الأكاديميين ذوي الخلفية المناسبة.

* أرى أن تنوّع الخلفيات أمر مرغوب، فبخلاف ذلك، سترجّحين كفة طريقة واحدة للتفكير في العالم. الاستفادة من المناقشات تأتي من تعدّد الآراء واختلاف وجهات النظر.

"الفيدرالي" لا يكترث كثيراً بالأسواق ومؤشراتها بقدر ما تفعل "وول ستريت"

- لكن ما قصدك بكلمة "خلفية"؟ السياسة النقدية هي مسألة فنية مملة، لفهمها نحتاج إلى معرفة واسعة بالشؤون المالية أو الاقتصاد الكلي، فيمكنك تكوين رأي مختلف في ما يخص وجهة نظرك الاقتصادية، لكنك تحتاجين إلى خبرة فنية كبيرة لتحقيق ذلك.

* بدايةً، يضم مجلس الاحتياطي الفيدرالي 17 مسؤولاً، لذلك، توجد مساحة لبعض الاختلاف في وجهات النظر بينهم دون التضحية بوجهات النظر الاقتصادية. إذا كانت الغالبية من خلفية واحدة، سيؤول بك الأمر بآراء مكررة. أما في حالة وجود أشخاص من مجالات تتسم باختلاف طفيف، مثل الأعمال والجانب الأكاديمي، أو خلفيات عرقية أو قومية أو نوعية مختلفة، سيؤدي هذا إلى تنوع النتائج. أعتقد أن هذا قد تكون له قيمة كبيرة.

تأثير المرأة

- كيف ستؤثر الخلفية المختلفة لامرأة في السياسة النقدية؟ هل يوجد رأي نسائي في السياسة النقدية؟

* هذا موضع جدال، إذ يمكن لتجارب الحياة المختلفة أن تشكّل وجهة نظر الشخص في المدخلات الاقتصادية، خصوصاً في أوقات التغيير الشديد، حيث لا نملك نماذج توضح العلاقات بين الأشياء. سأضرب لكِ مثالاً: لدينا سجلات من فترة أزمة الإسكان في 2007 و2008، نعلم ما فكّر فيه الاحتياطي الفيدرالي، وما كان محور حديثه، وكانت المناقشة في الغالب في صورة "نماذجنا توضح أن الأوضاع ستتحسن، سنحتوي هذا الأمر ولن يمثل مشكلة كبيرة، إلخ." لكن جانيت يلين كانت أحد من حذّروا مبكراً من أن الأوضاع في الحقيقة أسوأ مما تبدو عليه، هذا لأنها كانت رئيسة الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو حينذاك – ومقيمة فيها أيضاً- وكانت تشاهد فقاعة سوق الإسكان حولها، وملاحظاتها الفعلية كانت تغذّي وجهة نظرها فيما يحدث. هذا يوضح ميزة اختلاف منبع الأفكار والآراء.

- في النهاية، إذا تأخر شخص عن اجتماع ولم تملكي إلا جملة أو اثنتين عن كتابك لتقنعيه بقراءته. ماذا ستقولين؟

* كتابي عن تطوّر البنك الاحتياطي الفيدرالي في القرن الحادي والعشرين، وكيف زادت قوته وشفافيته في آن معاً، وأرى أن سبب أهمية الكتاب يكمن في أهمية الاحتياطي الفيدرالي نفسه، ليس بالنسبة للأسواق فحسب، بل وللديمقراطية أيضاً.