مستثمرو النفط يجنون 128 مليار دولار مع تزايد الشكوك حول الوقود الأحفوري

إنفاق شركات النفط الأميركية على التوزيعات وإعادة شراء الأسهم يفوق الاستثمارات للمرة الأولى منذ عقد

شعلة غاز طبيعي تحترق بالقرب من مقبس ضخ النفط بحقل نيو هارموني في غرايفيل، إلينوي، الولايات المتحدة
شعلة غاز طبيعي تحترق بالقرب من مقبس ضخ النفط بحقل نيو هارموني في غرايفيل، إلينوي، الولايات المتحدة المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يتجه الطلب العالمي على النفط نحو أعلى مستوى له على الإطلاق، ويتوقع بعض أمهر العاملين في الصناعة أن يصل سعر برميل الخام إلى 100 دولار في غضون أشهر، لكن المنتجين الأميركيين يركزون على المدى القصير ويرغبون في تسليم المستثمرين أكبر قدر ممكن من النقدية.

حصد مساهمو شركات النفط الأميركية أرباحاً مفاجئة تصل إلى 128 مليار دولار في 2022 بفضل مزيج من الاضطرابات التي أثرت على الإمدادات العالمية مثل الغزو الروسي لأوكرانيا، وتكثيف ضغوط وول ستريت لمنح الأولوية للعوائد على حساب استغلال احتياطيات الخام غير المستغلة.

المديرون التنفيذيون في مجال النفط، الذين تمت مكافأتهم في الأعوام الماضية نظير استثماراتهم في مشاريع طاقة ضخمة وطويلة الأجل، يواجهون الآن ضغوطاً لتحويل السيولة إلى المستثمرين المقتنعين بشكل متزايد بأن نهاية نهضة الوقود الأحفوري أصبحت وشيكة.

"فيتول": النفط يتراوح بين 90 و100 دولار في النصف الثاني من 2023

توزيعات قياسية لشركات التنقيب الأميركية

لأول مرة منذ عقد على الأقل، أنفقت شركات التنقيب الأميركية خلال العام الماضي أموالاً أكثر على إعادة شراء الأسهم وتوزيعات الأرباح مقارنة بالمشاريع الرأسمالية، طبقاً لحسابات "بلومبرغ". كما يُعدّ إجمالي توزيعات 26 شركة، والذي تصل قيمته الإجمالية إلى 128 مليار دولار، هو الأكبر أيضاً منذ 2012 على الأقل، فهذه المدفوعات جاءت في عام ناشد فيه الرئيس الأميركي جو بايدن الصناعة بزيادة الإنتاج وتخفيف ارتفاع أسعار الوقود لكن دون جدوى. وبالنسبة لشركات النفط الكبرى، ربما لم يكن رفض طلبات الحكومة الأميركية المباشرة أكثر ربحية على الإطلاق.

في ظل هذا التباين، يتزايد قلق المستثمرين من بلوغ الطلب على الوقود الأحفوري ذروته بحلول 2030 ليغني عن الحاجة إلى مشاريع ضخمة بمليارات الدولارات تستغرق عقوداً لتحقق عوائدها بشكل كامل. بعبارة أخرى، تتعرض مصافي النفط ومحطات الطاقة العاملة بالغاز الطبيعي، بجانب الآبار التي تغذيها، للتحوّل إلى ما يُعرف بـ"الأصول العالقة" إذا ما استُبدلت بالسيارات الكهربائية ومحطات تخزين الطاقة.

تعطّش العالم للنفط يزيد احتمال بلوغ الأسعار 100 دولار للبرميل

طلبات المستثمرين

قال جون أرنولد، الملياردير الداعم للأعمال الخيرية وتاجر السلع الأساسية السابق، خلال مقابلة أجراها مع "بلومبرغ نيوز" في هيوستن، إن "مجتمع الاستثمار متشكك بشأن الأصول وأسعار الطاقة". وتابع: "إنهم يفضلون الحصول على الأموال عبر عمليات إعادة شراء الأسهم وتوزيعات الأرباح ليتم استثمارها في أماكن أخرى، وفي الوقت نفسه، يتعين على الشركات الاستجابة لمطالب مجتمع الاستثمار وإلا لن يطول تصدّرهم (الشركات)".

طفرة عمليات إعادة شراء شركات النفط لأسهمها تُعزز فورة إنفاق الشركات الأميركية الأوسع نطاقاً، حيث قفزت إعلانات إعادة شراء الأسهم بأكثر من ثلاثة أمثالها خلال الشهر الأول من العام الحالي لتصل إلى 132 مليار دولار، وهو أعلى مستوى مُسجل في بداية عام على الإطلاق.

استحوذت شركة "شيفرون" وحدها على 75 مليار دولار، وهو ما يزيد عن نصف الإجمالي. هذا الأمر أثار حفيظة البيت الأبيض الذي صرح بأنه كان من الأفضل إنفاق الأموال على التوسع في إمدادات الطاقة. من المقرر أن تدخل ضريبة أميركية قدرها 1% على قيمة عمليات إعادة شراء الأسهم حيز التنفيذ في وقت لاحق من العام الجاري.

تراجع الاستثمار في النفط

على صعيد آخر، ترى "إيفرسكور آي إس آي" (Evercore ISI)، أن الاستثمار العالمي في إمدادات النفط والغاز الجديدة من المتوقع أن يقل عن الحد الأدنى المطلوب لمواكبة الطلب بما يصل إلى 140 مليار دولار خلال العام الجاري. في غضون ذلك، توقعت إدارة معلومات الطاقة الأميركية نمو إمدادات النفط الخام بوتيرة ضعيفة إلى حد تقليص الهامش بين الاستهلاك والإنتاج إلى 350 ألف برميل فقط يومياً خلال العام المقبل من 630 ألفاً في 2023.

سوق النفط محاصرة في لعبة "صعود وهبوط" مملة للأسعار

من جهته، أكد الملياردير جون أرنولد: "يتعين على الشركات الاستجابة لما يطلبه مجتمع الاستثمار منهم وإلا لن يستمروا التصدر لفترة طويلة".

في الوقت نفسه، أعادت إدارات أكبر شركات النفط الأميركية التأكيد على التزامها بشعار عوائد المستثمرين بينما كشفت عن نتائج الربع الرابع في الأسبوع الماضي، كما أن تراجع أسعار النفط المحلية 36% منذ منتصف الصيف لم يؤد إلا لتعزيز هذه القناعات.

يصر المسؤولون التنفيذيون في مجالس إدارات الشركات الآن على أن تمويل توزيعات الأرباح وإعادة شراء الأسهم يحتل الأولوية الأولى على حساب ضخ مزيد من النفط الخام لتهدئة استياء المستهلكين من ارتفاع أسعار البنزين في محطات الوقود. ربما يشكل هذا الأمر مشكلة في غضون أشهر مع تسارع الطلب في الصين وبلوغ استهلاك الوقود العالمي أعلى مستوياته على الإطلاق.

إمدادات النفط الصخري

قال أرنولد: "من الممكن أن نكون قد لاحظنا نمواً كبيراً للغاية في إمدادات النفط على أساس سنوي قبل خمسة أعوام، لكن هذا الأمر لم يعد موجوداً الآن، وتُعدّ هذه إحدى أسباب التوقّع بارتفاع أسعار النفط، والتي تتعلق بتوقف نمو الإمدادات القادمة من الولايات المتحدة".

تعتبر الولايات المتحدة حاسمة بالنسبة لإمدادات النفط الخام العالمية، ليس فقط لأنها أكبر منتج للنفط في العالم. حيث يمكن استغلال مواردها من النفط الصخري بسرعة أكبر بكثير من الاحتياطات التقليدية، مما يعني أن القطاع في وضع مميز للاستجابة لارتفاع الأسعار. ولكن مع ابتلاع عمليات إعادة الشراء وتوزيع الأرباح المزيد والمزيد من التدفقات النقدية، لم يعد النفط الصخري هو الحل الأمثل لنظام النفط العالمي.

التوزيعات على حساب الاستثمار

في الأسابيع الأخيرة من 2022، أعادت شركات النفط الصخري استثمار 35% فقط من تدفقاتها النقدية في عمليات الحفر بجانب مساعي أخرى هادفة لتعزيز الإمدادات، مقارنة بـ 100% في الفترة بين 2011 و2017، طبقاً لبيانات جمعتها بلومبرغ. ويتضح هذا النهج بوضوح في الشركات الكبرى، حيث كثفت شركتا "إكسون موبيل" و"شيفرون" عمليات إعادة شراء الأسهم بينما تقيد الإنفاق الرأسمالي عند مستويات تقل عن تلك المسجلة قبل كوفيد.

يقود المستثمرون هذا السلوك، وهو ما يتضح من الرسائل الواضحة التي تم توجيهها إلى المنتجين المحليين في الأسبوعين الماضيين. فقد تراجعت أسهم "إي أو جي ريسورسز" (EOG Resources) و"كونوكو فيليبس" (ConocoPhillips) و"ديفون إنرجي" بعد الإعلان عن ميزانيات أعلى من المتوقع لعام 2023، فيما ارتفعت "دياموندباك إنرجي" (Diamondback Energy) و"بيرميان ريسورسز" (Permian Resources) و"سيفيتاس ريسورسز" (Civitas Resources) في ظل استمرارهم في مراقبة الإنفاق.

علاوة على مطالب المساهمين للسيولة النقدية، تعاني شركات التنقيب من ارتفاع التكاليف وانخفاض إنتاجية الآبار وتراجع حصص ملكيتها من مواقع التنقيب من الفئة الأولى. تعيد شركتا "شيفرون" و"بايونير ناتشورال ريسورسيز" (Pioneer Natural Resources)- اللتان تعتبران منتجتين بارزتين للنفط- تنظيم خطط الحفر بعد أن أظهرت الآبار نتائج أضعف من المتوقع. كذلك، أشارت جانيت ماركس، المديرة التنفيذية لشركة "إيرسويفت" (Airswift)، وهي إحدى أكبر الشركات المتخصصة في النفط بالعالم، إلى ارتفاع تكاليف العمالة أيضاً.

"أوبك" متحفظة بشأن نمو الطلب على النفط في 2023 رغم تفاؤلها بزيادة استهلاك الوقود

تتوقع إدارة معلومات الطاقة نمو إنتاج النفط الأميركي بنسبة 5% فقط خلال العام الجاري ليصل إلى 12.5 مليون برميل يومياً، قبل أن تتباطأ الزيادة إلى 1.3% فقط خلال العام المقبل.

الطلب محرك رئيسي للأسعار

بالرغم من أن الولايات المتحدة تضيف إمدادات أكثر من معظم أنحاء العالم، إلا أن هذا يُعدّ تناقضاً ملحوظاً مع عصر ازدهار النفط الصخري خلال العقد الماضي عندما كانت الولايات المتحدة تعزز إنتاجها اليومي بما يزيد عن مليون برميل كل عام، وتتنافس مع منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" وتؤثر على الأسعار العالمية.

قال دان يرغين، مؤرخ النفط الحائز على جائزة "بوليتزر" ونائب رئيس "ستاندرد آند بورز غلوبال"، في مقابلة، إن الطلب سيكون المحرك الرئيسي للأسعار هذا العام، وليس الجهات الفاعلة في جانب العرض مثل قطاع النفط الصخري الأميركي أو "أوبك".

في إشارة إلى مسار رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة وتعافي الصين من الوباء، أفاد يرغين أن "أسعار النفط سيحددها، مجازياً، جيروم باول وشي جين بينغ". وتتوقع "ستاندرد آند بورز غلوبال" أن يبلغ الطلب العالمي على النفط أعلى مستوياته على الإطلاق عند 102 مليون برميل يومياً.

تخلي الصين عن "صفر كوفيد" يفاقم أزمة شح الطاقة العالمية في 2023

الرئيس الأميركي جو بايدن لا تتوافر لديه سوى أدوات قليلة للتصدي للضربة التي يعاني منها المستهلكون في ظل توقع ارتفاع أسعار النفط. فقد استغل بايدن بالفعل 180 مليون برميل من احتياطي النفط الاستراتيجي في محاولة لتخفيض أسعار البنزين التي كانت آخذة في الارتفاع في 2022. كما أنه من المرجح أن تحظى وزيرة الطاقة جنيفر جرانهولم باستقبال فاتر في فعاليات "سيراويك" (CERAWeek)، الذي تنظمه "ستاندرد آند بورز غلوبال" في هيوستن في 6 مارس، إذا اتبعت خطى بايدن وهاجمت الصناعة نظير دعمها الكبير للمستثمرين.

تعليقاً على الأمر، قال دان بيكرينغ، كبير مسؤولي الاستثمار في شركة "بيكرينغ إنرجي بارتنرز" (Pickering Energy Partners)، إن نموذج العمل هذا "وُجد ليبقى".

وأوضح بيكرينغ: "ستحتاج الولايات المتحدة عند نقطة ما إلى إنتاج المزيد لأن السوق سيطلب ذلك، ومن المرجح أن يحدث ذلك عندما يتحول المستثمرون تجاه النمو، لكن حتى ذلك الحين يبدو أن إعادة رأس المال هي الفكرة الأفضل".