تنفيذيات يتجهن لترك مناصبهن لفرط الإحباط والإجهاد

خروج قيادات نسائية من جيل إكس نكسة لجهود دامت عقوداً لزيادة حضور المرأة في المناصب العليا

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

فيما تتالت موجات الجائحة تضرب الولايات المتحدة ظهرت بيانات أقلقت أرباب الأعمال والاقتصاديين، إذ تشير إلى أن النساء يتركن وظائفهن بأعداد كبيرة، فقد انخفض وجودهن في القوى العاملة بنهاية 2020 إلى أدنى مستوياته منذ 1987.

تزايد معدل مشاركة الإناث بعد عامين إلى مستويات ما قبل الجائحة، لكن ذلك لم يحل المشكلة برمتها.

كما أن هناك مشكلة أخرى تطلّ من وراء الستار، وهي التراجع الحالي في عدد النساء اللائي يشغلن مناصب قيادية، فقد أُنهكن وتشتتن بين طموحاتهن المهنية وحياتهن الشخصية، لذا تتحول بعضهن إلى وظائف أقل تطلباً أو يغيّرن قطاع عملهن، بينما تدير أخريات ظهورهن للرواتب المُجزية ويتركن وظائفهن.

يثير ذلك قضايا مُقلقة تمسّ جهوداً وطنيةً استمرت عقوداً واستهدفت التنويع بين الجنسين بتولي المناصب العليا في الشركات. لقد وثّقت دراسات حديثة عديدة هذا التوجه المزعج، الذي لم ترصده البيانات الحكومية بشكل تام.

قالت ريشما سوجاني، مؤسِّسة مجموعات تدعم نهضة المرأة ومنها مجموعة "فتيات البرمجيات"، إن النساء العاملات لسن على استعداد بعد اليوم لتقبل الشركات التي لا تدعم أدوارهن كأمهات. يجب أن تشكّل مسألة مغادرة النساء للمناصب القيادية "بالفعل دعوة لإيقاظ الشركات الأميركية".

النساء يغادرن الوظائف القيادية في الولايات المتحدة بشكل قياسي

أظهرت نتائج دراسة استقصائية أجرتها شركة "ماكنزي أند كو" (.McKinsey & Co) في 2022 بتكليف من "لين إن دوت أورغ" (LeanIn.Org)، وهي مجموعة تدافع عن حقوق المرأة أسستها شيريل ساندبرغ، رئيسة عمليات "ميتابلاتفورمز" التي غادرت منصبها في 2022، أن النساء في المناصب القيادية تركن عملهن في الشركات بأعلى وتيرة منذ بدأت هذه المجموعات بجمع البيانات في 2017.

قالت ريتشيل توماس، رئيسة "لين إن دوت أورغ" التنفيذية: "هذه الحال هي مشكلة كبيرة للمؤسسات، لأن النساء ما زلن دون التمثيل المناسب لأدوارهن، وعلاوة على ذلك، تفقد الشركات حالياً عناصرها القيادية النادرة من صاحبات الخبرات القيّمة".

قياديات مستنزفات

في دراسة صدرت في 1 مارس عن مؤسسة "تشيف" (Chief)، وهي شبكة مديرات تنفيذيات يُموّل أرباب أعمال غالبية أعضائها، وعن معهد "آي بي إم لقيمة الأعمال"، رُصدت مشكلة مُقلقة بالقدر نفسه وهي خلو المناصب المتوسطة من قيادات نسائية، فيما تراجعت نسبة النساء في مناصب نائب الرئيس ونائب الرئيس الأول مقارنة عمّا كان عليه الحال قبل الجائحة.

تشمل قائمة الاستقالات النسائية من المناصب القيادية إضافة إلى ساندبرغ، كلاً من سوزان وجسيكي، رئيسة "يوتيوب" التنفيذية، وهي إحدى أبرز القيادات النسائية في "وادي السيليكون" وقد ساعدت بإنشاء نشاط الإعلانات في "غوغل".

"تمكين المرأة" يُضيف 20 تريليون دولار للاقتصاد العالمي

كما ستغادر إيمي هوك، الرئيسة التنفيذية للعلامة التجارية في "فيكتورياز سيكريت أند كو" (.Victoria’s Secret & Co) وشركتها الشقيقة "بينك" (Pink)، بعد أقل من عام في هذا المنصب ساهمت خلاله بالإشراف على عملية إعادة هيكلة كبرى.

أما على الساحة السياسية، فقد أعلنت اثنتان من أبرز الشخصيات القيادية في العالم، وهي رئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أرديرن والوزيرة الأولى في إسكتلندا نيكولا ستورغون، استقالتهما فجأة في الأسابيع الأخيرة وقلن إنهن استُنزفن.

تفاقمت المشكلة بشدة لدرجة أن عدداً من الشركات، بما فيها "أمازون دوت كوم" و"غولدمان ساكس غروب"، قد أطلقت أو وسّعت برامج تُسمى "عودة الكوادر"، وهو عنوان لمجموعة متنوعة من الاستراتيجيات التي تساعد على جعل الوظائف أكثر جاذبية للنساء وغيرهم ممن غادروا قوة العمل من قبل، بما في ذلك إعادتهم إلى أدوار متوسطة أو قيادية.

برنامج "عودة الكوادر" أتاح لآراثي شانكري استئناف مسيرتها المهنية كمهندسة برمجيات في "أمازون" بعد ترك العمل لبعض الوقت.
برنامج "عودة الكوادر" أتاح لآراثي شانكري استئناف مسيرتها المهنية كمهندسة برمجيات في "أمازون" بعد ترك العمل لبعض الوقت. المصدر: بلومبرغ بيزنس ويك

الجيل إكس

يقول خبراء في سوق العمل إن تولي نساء من ما يُسمى جيل إكس، أي مواليد ما بين 1965 و1980، لمهام إضافية إبان الجائحة جلب عليهن تبعات متأخرة. المفاجأة كانت أن بيانات صادرة عن وزارة العمل الأميركية أظهرت أن النساء من تلك الفئة كانت أقل احتمالاً لمغادرة العمل أثناء الجائحة.

في بداية الوباء قادت جيني بلومنتال فريقاً قوامه 250 شخصاً، إذ كانت شريكة في شركة الاستشارات "برايس ووتر هاوس كوبرز (PricewaterhouseCoopers)، لمساعدة الشركات في صناعة الترفيه والضيافة المنهارة لإعادة اكتشاف إمكانياتها. وجدت العمل شاقاً ومجزياً في آن معاً مع ميزة فرعية هي أنها لم تعد تقضي أسبوع العمل تسافر جواً وتعيش في فنادق بعيدةً عن أطفالها.

ما الذي يبعد النساء عن المناصب الإدارية؟

لكن بعدما انقضت صدمة الأزمة الأولية وأصبحت مسؤولياتها مدفوعة بشكل أكبر بالمبيعات، شعرت بلومنتال، 45 عاماً، أنها منفصلة عن العمل. لقد أُتيحت لها الفرصة خلال الفترة التي قضتها في المنزل للتفكير في مسار حياتها المهنية.

تركت وظيفتها في أكتوبر 2020 وبدأت بتدريب المديرات تنفيذيات. كما قابلت 300 امرأة في مناصب تنفيذية يواجهن تحديات مماثلة، وهي مقابلات نُشرت في كتاب بعنوان "إعادة التأهيل المؤسسي" (Corporate Rehab) استعرضت خلاله قصصهن وقدمت إرشادات حول سبل إعادة تقييم المسارات الوظيفية.

قالت بلومنتال: "وصلتُ إلى مرحلة كنت أعاني فيها من الإنهاك الشديد. لكن الاستنزاف الذي أصابني كان مضاعفاً. الأمر كان يتعلق بقضاء وقت ونفاد طاقة على مر ساعات طويلة، لكن كان أيضاً هذا الانفصال عن الهدف الذي لم أدرك أنني شعرت به حتى بلغنا ذروة الجائحة".

جيني بلومنتال
جيني بلومنتال المصدر: بلومبرغ بيزنس ويك

بعد عقود من جهود خاصة وعامة لدفع مزيد من النساء نحو مناصب عليا في الشركات، تهدد مغادرتهن بتقليص عدد العناصر التي تغذي الجيل المقبل من النساء في وظائف القيادة التنفيذية.

أظهرت مثل هذه الجهود نتائج على مستوى الرؤساء التنفيذيين أخيراً، ووفقاً لبيانات جمعتها "بلومبرغ"، ارتفع عدد النساء اللواتي يرأسن شركات مدرجة في مؤشر "إس أند بي 500" 32% خلال العام الماضي. لكن هذا يعني أن هناك الآن ما مجمله 41 امرأة تدير أكبر الشركات في الولايات المتحدة، مقارنة مع 31 قبل عام.

رغم أن البيانات الحكومية لا تتابع وضع المرأة في مختلف المناصب العليا كما تفعل مجموعات القطاع الخاص، إلا أن الإحصاءات الأميركية بدأت تعكس تعثّر مسيرة التقدم. كان 29.2% فقط من الرؤساء التنفيذيين نساءً في 2022، وهو بالكاد يشكل تغييراً عن عام 2020، عندما كان 29.3%، وفقاً لوزارة العمل.

لدى احتساب جميع المناصب الإدارية، تتولى النساء 40.5% منها، بانخفاض طفيف عن 2021 حين كانت تلك النسبة 40.9%.

الشدة والإرهاق

توشك هذه الأرقام أن تسوء، فقد جاء في تقرير من "لين إن دوتأورغ" صدر في أكتوبر أن امرأتين تغادران العمل مقابل كل امرأة تترقى لدور إدارة. وجد التقرير الذي استند لبيانات من 333 مؤسسة واستبيانات شملت 40 ألف شخص في الولايات المتحدة وكندا، أن حصة الوظائف التنفيذية التي تشغلها النساء زادت 6 نقاط مئوية فقط في السنوات الخمس منذ 2017 لتصل إلى 26%. بين هؤلاء، هناك واحدة غير بيضاء فقط من كل 20 امرأة.

كانت الشدة والإرهاق أكبر المشكلات التي ذكرتها النساء. قالت أكثر من نصف الموظفات على مستوى مدير أول فما فوق إنهن مسؤولات عن معظم أو كل الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال لأسرهن، مقارنة مع 13% من الرجال في المستوى نفسه.

قالت المشاركات في الاستطلاع إنهن كنَّ أعلى أداءً من زملائهن الذكور في العمل فيما يتعلق بدعم رفاهية الموظفين وتعزيز التنوع والشمول، ما أدى إلى مستوى أفضل من استبقاء الموظفين ورضاهم، لكن غالباً ما لم تحظَ هذه الجهود بتقدير مناسب في تقارير الأداء.

لا غرابة في أن 43% من القيادات النسائية قلن إنهن يعانين الاستنزاف، مقارنة مع 31% من الرجال في ذات المستوى الوظيفي. قالت أليسون روبنسون، مؤسِّسة ورئيسة مشروع "موم بروجكت" (Mom Project)، الذي يساعد الأمهات الراغبات بالعودة إلى سوق العمل لكنهن بحاجة إلى بيئة أكثر مرونة، أن هناك "حالة الإجهاد جماعية".

استعادة كوادر

تمحورت النصائح التي تلقتها النساء على مدى سنين حول خطوات يمكنهن اتخاذها، كاعتماد مرشدين وما إلى ذلك. أما الآن فيتزايد الوعي لضرورة أن تُحدث الشركات تغييرات هيكلية لمساعدة النساء على الازدهار مهنياً وأسرياً.

قالت سوجاني، وهي أيضاً مؤسِسة ومديرة تنفيذية لمنظمة "الأمهات أولاً" غير الربحية التي تدافع عن الحرية الاقتصادية للمرأة: "ما كنا نحتاجه هو إدارة مواعيد مهامنا. كنا بحاجة لمساواة بين الجنسين في الإجازات المدفوعة الأجر، وكنا بحاجة لرعاية أطفال مدعومة، وكنا بحاجة لإنصاف في الرواتب... لكن كنا مخطئين في أهداف جهودنا".

النساء يقلصن الفجوة في "وول ستريت" لكن تكافؤ الفرص ما زال بعيد المنال

تعاني الشركات من نقص العمالة فبدأت تجرب إعادة كوادر غادرتها. تقدم بعضها وظائف مؤقتة مدفوعة الأجر كنقطة انطلاق للنساء اللواتي ربما يفكرن بالعودة.

قالت تامي فورمان، مديرة "باث فوروارد" (Path Forward)، التي تساعد في إطلاق مثل هذه البرامج، إنها عملت مع عشرات الشركات بينها "أمازون" و"ديزني" و"أول ستيت" (Allstate) منذ 2016.

بيّنت فورمان إن الشركات التي ترتبط معها بشراكات تحوّل في المتوسط 80% من الكوادر العائدة إلى وظائف بدوام كامل.

آراثي شانكري امرأة أتاحت لها "أمازون" العودة واستئناف مسيرتها المهنية كمهندسة برمجيات في 2021 بعدما أمضت عامين بعيدة عن العمل لتلتفت لرعاية شؤون أسرتها وثلاث سنوات أخرى في تدريس البرمجة في إحدى الكليات المجتمعية.

عندما أرادت شانكري، 46 عاماً، العودة إلى قطاع التقنية في مجال البرمجيات، وجدت أن الشركات لا تقدّر خبرتها في التدريس وتلكأت بالرد. لكن برنامج "أمازون" الذي استمر 16 أسبوعاً سمح لها بتسخير الخبرة التي بنتها على مدى 17 عاماً.

عيّنت "أمازون شانكري بدوام كامل وأعطتها مسؤوليات أوسع، بما فيها إدارة فرق وقيادة مشاريع واسعة النطاق. قالت: "لا ينبغي أن تتراجعي خطوة لمجرد توقفك مؤقتاً، بل يمكنك أن تتابعي من حيث توقفتِ".