الوضع الطبيعي الجديد للطاقة في أوروبا يظل صعباً نسبياً

أسعار الغاز مازالت مرتفعة رغم هبوطها عن ذروتها.. والشركات الأوروبية تخسر قدرتها التنافسية على المدى البعيد

مداخن الشعلة تطلق غازات قابلة للاشتعال في مصفاة ليونا والمجمع الصناعي الكيميائي، حيث تقع منشآت تديرها شركات بما فيها "توتال إنرجيز" و"شل" و"باسف" و"لينده" في ليونا، ألمانيا
مداخن الشعلة تطلق غازات قابلة للاشتعال في مصفاة ليونا والمجمع الصناعي الكيميائي، حيث تقع منشآت تديرها شركات بما فيها "توتال إنرجيز" و"شل" و"باسف" و"لينده" في ليونا، ألمانيا المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

عقب الاضطرابات التي شهدتها خلال 2022، دخلت سوق الغاز في أوروبا مرحلة جديدة على ما يبدو. هناك طريقتان لتوصيف البيئة الراهنة، حيث تشير الرؤية المتفائلة إلى تراجع الأسعار بنسبة 85% من مستويات ذروتها، مقابل رؤية متشائمة تشير إلى أنها تعادل ضعف المستويات التي كانت عليها قبل الأزمة. الرؤيتان صحيحتان؛ وللتوفيق بينهما، سأطلق على هذه المرحلة وصف "الوضع الطبيعي الجديد للطاقة الأوروبية".

في ظل هذا الوضع الطبيعي الجديد، يجري تداول الغاز الأوروبي عند سعر يتراوح من 45 يورو (ما يعادل 48 دولاراً) إلى 50 يورو لكل ميغاواط/ساعة. بالنسبة إلى الكثيرين من صناع السياسة النقدية الذين شهدوا صعود الأسعار إلى 350 يورو تقريباً في أغسطس الماضي وأصابهم القلق من حدوث عمليات انقطاع للتيار الكهربائي وتعرّض المنازل للتجمد بسبب انعدام التدفئة، يبدو هذا الوضع أمراً مفرحاً. لقد تبددت الأزمة، ولذلك يتبدل التفكير، بدءاً من بروكسل ووصولاً إلى لندن، إذ يُقال إن أوروبا انتصرت، وخسر فلاديمير بوتين.

أتمنى لو أن الأمر كان بهذه البساطة.

أسعار الغاز

على صعيد الشركات، التي دفعت في المتوسط 20 يورو لشراء الغاز في الفترة بين 2010 و2020، فإن الأمر أكثر تعقيداً. ما زالت الأسعار الحالية مرتفعة بالنسبة إلى الغالبية، رغم أنها قد تدفعها نحو الالتزام بقدر إضافي من التقشف. على صعيد الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة في المنطقة، على غرار الشركات الكيميائية ومصانع الزجاج، تبقى الأسعار مرتفعة على نحو كارثي.

%19 انخفاض طلب الاتحاد الأوروبي على الغاز في الشتاء

يشبه ذلك قصة أسواق الكهرباء. على ما يبدو، استقرت أسعار الكهرباء قصيرة الأجل في المملكة المتحدة عند مستوى أقل بقليل من 150 جنيهاً إسترلينياً (ما يعادل 180 دولاراً) للميغاواط/ساعة. تعد هذه الأسعار منخفضة مقارنة بـ550 جنيهاً إسترلينياً في أغسطس وديسمبر من العام الماضي، ولكنها تمثل 3 أضعاف متوسط الأسعار خلال الفترة من 2010 إلى 2020 والذي بلغ 45 جنيهاً إسترلينياً فقط.

تزيد الشركات من أسعارها للمحافظة على هوامش أرباحها في مواجهة صعود طويل الأجل على ما يبدو، وربما يكون دائماً، في التكاليف. بدأ هذا التوجه في العام الماضي، لكن زخمه زاد خلال 2023، إذ من المعتاد أن تعيد الشركات عملية التسعير الخاصة بها مع بداية العام الجديد. ويفاقم ذلك بدوره، معدلات التضخم في أوروبا، لا سيما على صعيد قطاع الخدمات وشركات التصنيع، ما يشوش على التوقعات بحدوث تراجع سريع. حتى أسعار المواد الغذائية آخذة بالارتفاع، إذ لا يمكن لبعض الشركات الزراعية تحمل تكاليف التدفئة المغلقة في فصل الشتاء، وهو ما أسفر عن نقص بالإمدادات وزيادة التكاليف. يتعرض البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا المركزي لمأزق، إذ أنه وعلى الرغم من النمو الاقتصادي الذي يمكن وصفه بالهزيل في أفضل الأحوال، إلا أن السوق تتوقع زيادات إضافية في أسعار الفائدة.

لخصت شركة "باسف" (BASF)، عملاقة قطاع الصناعات الكيميائية الألماني، الموقف الأسبوع الماضي، عندما أعلنت خفضها للوظائف وعمليات إغلاق منشآت لديها. قال مارتن برودرمولر رئيس "باسيف": "القدرة التنافسية لأوروبا تواجه صعوبات بشكل متزايد، ويفاقم صعود أسعار الطاقة الآن الأعباء على مستويات الربحية والقدرة التنافسية".

غاز طبيعي

ما مدى استدامة الوضع الطبيعي الجديد للطاقة الأوروبية؟

نبدأ أولاً مع الأخبار الجيدة. تجاوزت أوروبا فصل الشتاء بصورة أفضل كثيراً من المتوقع، رغم نقص معظم الإمدادات الروسية المعتادة. قلصت المنطقة استهلاك الغاز بطريقة هائلة، كما تمكنت من استيراد كميات كبيرة من الغاز الطبيعي المسال من دول صديقة على غرار الولايات المتحدة وقطر، ولم تتعرض لأي منافسة تذكر على شراء أكبر كمية تحتاج إليها من الغاز الطبيعي المسال، بفضل الطلب الضعيف من الصين. أسفرت هذه المعادلة عن سحب أوروبا لكميات أقل من مخزون الغاز بالمقارنة مع فصول شتاء سابقة، ما جعل الأسعار تتراجع عن المستويات المرتفعة التي سجلتها في الصيف الماضي.

في ظل بقاء 4 أسابيع على نهاية فصل الشتاء، تصل نسبة امتلاء صهاريج تخزين الغاز الأوروبية إلى 61%، وهي النسبة الأعلى في تاريخها في مثل هذا الوقت من الموسم. ما لم يصبح الطقس بارداً بشكل استثنائي، ستخرج أوروبا من فصل الشتاء بنسبة احتياطيات من الغاز تبلغ 50% على الأقل، وهو ما يفوق بكثير ما كانت تتوقعه عند نسبة تتراوح من 20% إلى 30%. باستثناء عام 2020 الذي شهد طلباً ضعيفاً جراء تأثير عمليات إغلاق الاقتصاد لاحتواء وباء كوفيد-19، فإن أوروبا لم تمتلك الكثير من المخزون في نهاية أي فصل شتاء، وقد بلغت أعلى نسبة احتياطي سابقة 47% في 2014.

نتحول الآن للأخبار السيئة. ستواجه أوروبا صعوبات لتكرار هذا الإنجاز خلال فصل الشتاء المقبل. كان قدر كبير من توفير الطلب -وبالتالي تراجع الأسعار المترتب عليه– يعود للحظ المتمثل في الطقس الدافئ، والأضرار الاقتصادية (خفض الأنشطة الصناعية للإنتاج، بما فيها المنتجات الغذائية)، والرغبة في غض الطرف عن أزمة المناخ (الانتقال من الاعتماد على الغاز إلى الفحم). يقدر غريغ مولنار، محلل الغاز في وكالة الطاقة الدولية، أن 80% من وفورات الغاز في العام الماضي تعود إلى عوامل غير هيكلية. أضاف أنه، بصفة خاصة، "توضح تقديراتنا الأولية أن الطقس المعتدل مسؤول عن ثلث تراجع الطلب تقريباً خلال 2022". ويُعزا 20% فقط من هذه الوفورات، لكفاءة استهلاك الطاقة والتغير في السلوك العام. شهدت سوق الغاز الطبيعي المسال وفرة نظراً لأن الصين، التي أغلقت اقتصادها بشدة، لم تنفذ عمليات شراء. لن يتكرر حدوث ذلك على الأرجح في العام الجاري وخلال 2024.

ستسفر ظروف الطاقة الجديدة عن تكاليف أقل كثيراً مما كان عليه الأمر في ذروة الأزمة خلال 2022. لكن على الأرجح، ستبقى الأسعار مرتفعة لمدة أطول بالمقارنة بمستويات ما قبل الأزمة، ما يجعل الشركات الأوروبية عرضة لخسارة طويلة الأمد في القدرة التنافسية، وستواجه المنطقة تضخماً راسخاً. هذا الوضع، لا يُعدّ أمراً مفرحاً.