نيودلهي ترى نفسها وسيطاً قوياً وسط الصراعات الجيوسياسية الكبرى ولها تأثير على بوتين والغرب
بدأت الحرب الباردة في الخمسينيات، وأصبحت الهند المستقلة حديثاً أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز، وهي الدول التي لم تنحز إلى واشنطن ولا موسكو.
حالياً يطرح رئيس الوزراء ناريندا مودي نسخة معكوسة من هذه السياسة باختيار العلاقات مع المعسكر الأنسب لمصلحة الهند، حيث تعمق الدولة الجنوب آسيوية علاقتها الأمنية مع الولايات المتحدة الأميركية، فيما تسارع بشراء المعدات العسكرية والنفط الخام من روسيا.
السؤال هنا هو إلى متى يمكنها الإبقاء على التقارب مع الجانبين مع زيادة تباعدهما بسبب الحرب في أوكرانيا؟ ومع ترأس الهند مجموعة العشرين العام الجاري، أصبح الموقف أكثر حساسية.
كانت الهند "حليفاً استراتيجياً" للولايات المتحدة لعقدين على الأقل، لكن هذا التحالف غير رسمي. فبينما يوجد كثير من أوجه التشابه بين البلدين، فهما دولتان ديمقراطيتان كبيرتان متباينتان، لا تشعر نيودلهي بحتمية توافق نظرتها إلى العالم مع رؤية واشنطن. لطالما زاد ارتياب الهند في الولايات المتحدة بسبب علاقاتها الأمنية الوثيقة مع باكستان، جارة الهند وألد خصومها.
مسؤولون أميركيون: الهند تشتري النفط الروسي بأقل من سقف السعر الغربي
تحسنت العلاقات بين الدولتين بقدر كبير نظراً للمخاوف المشتركة من تنامي نفوذ الصين. ترى واشنطن نيودلهي على أنها حصن دفاعي في المنطقة وأدرجتها كعضو في "المجموعة الرباعية للدول الديمقراطية في المحيطين الهندي والهادئ" مع أستراليا واليابان. فيما انتقدت الصين المجموعة باعتبارها "عصبة" قد تشعل حرباً باردة جديدة.
رغم عدم التوافق المعلن، تقاربت الهند مع الدوائر الروسية خلال الحرب الباردة، واتبعت الهند لعقود استراتيجية اقتصادية على غرار الطراز السوفييتي في شكل خطط خمسية، كما توطدت الروابط الثقافية والشعبية بين البلدين. لكن اعتماد نيودلهي الطويل على موسكو بصفتها المورّد الرئيسي للسلاح هو جوهر العلاقة، وما زالت روسيا تحتل نفس المكانة حتى مع تراجع ذلك الاعتماد، إذ انخفضت واردات السلاح الروسية 19% ما بين 2018 و2022 مقارنة بالخمسة أعوام السابقة وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI). حيث تولي نيودلهي ذلك الأمر أهمية خاصة، نظراً للتوترات الحدودية مع أكبر جيرانها، الصين وباكستان.
كما أن الهند هي ثالث أكبر مستوردي النفط في العالم، وأخذت تستورد النفط الروسي الرخيص منذ غزو أوكرانيا، وهي تجارة تصب في مصلحة المشتري والبائع على حد سواء.
برزت الهند بين الدول الديمقراطية الكبرى لاستيائها من انتقاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتجنبت جهود عزل روسيا عالمياً التي تقودها الولايات المتحدة وأوروبا وحلفائهما. كما يلقي كثيرون في الهند باللوم على حلف شمال الأطلسي –"الناتو"- وواشنطن في الغزو الروسي لأوكرانيا أكثر مما يلومون بوتين، وفقاً لاستقصاء أجرته شركة "مورنينغ كونسلت" (Morning Consult) للمعلومات المهنية والتي يقع مقرها بالولايات المتحدة.
يعي مودي أنه في موقف دقيق، مع ذلك؛ امتنعت نيودلهي عن التصويت على إدانة الحرب، رغم تصريحها في المنتديات العالمية أن الصراع يجب أن ينتهي لأنه يضر بالدول النامية اقتصادياً بتعطيل سلاسل التوريد ورفع أسعار السلع.
الهند تحذر من الانقسامات العالمية والديون غير المستدامة
تغيب مودي عن القمة الثنائية السنوية مع بوتين العام الماضي عقب تهديد الرئيس الروسي باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، لكن الهند قد تكون في موقف صعب عند استضافتها لقمة مجموعة العشرين في سبتمبر إذا حضرها بوتين (الذي تغيب عن آخر قمتين في ظل الضغوط من الولايات المتحدة وحلفائها بسبب الحرب).
كما أن الهند قلقة بسبب التبعات المباشرة لعدوان بوتين، حيث تتراجع إمدادات قطع الغيار العسكرية الروسية للعملاء مثل الهند، وفقاً لرئيس الأركان الهندي مانوج باندي.
لا يبدو أن لعلاقات الهند وموسكو كلفة اقتصادية ملحوظة في واشنطن، والسبب في ذلك إلى حد ما هو النفوذ الاقتصادي والسياسي المتنامي لدولة من المتوقع أن تتفوق على الصين وتصبح الدولة الأكثر سكاناً العام الجاري، فعلى سبيل المثال:
بيان متأخر لمجموعة العشرين يظهر انقسامات حول الحرب والنفط
قبل كل هذا بمدة طويلة، رفعت الولايات المتحدة عن الهند في 2008 حظراً امتد 3 عقود على التجارة النووية المدنية، رغم أن الدولة لديها أسلحة نووية ولم توقع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
إذا كانت الهند حديثة الاستقلال قد سعت للابتعاد عن تكتلات القوى العظمى، فإن الدولة متزايدة النفوذ في عهد مودي تسعى لعقد روابط تخدم مصالحها. ترى نيودلهي في نفسها وسيطاً قوياً وسط الصراعات الجيوسياسية الكبرى لديها تأثير على بوتين والغرب، وراعياً لصوت الجنوب العالمي. فمودي مُرحب به في البيت الأبيض وأوروبا، رغم سجل حكومته المتذبذب في حقوق الإنسان، بالأخص فيما يتعلق بمعاملة الدولة للأقلية المسلمة، والتضييق على وسائل الإعلام.
كتب وزير الخارجية سوبراهمانيام جايشانكار في كتابه "الطريقة الهندية" (The India Way) أنه على الهند تجنب التحالفات في عالم يتزايد فيه تعدد الأقطاب، وبدلاً عن التحالفات أيد تحديد وانتهاز الفرص الناتجة عن الخلافات العالمية بهدف جني المكاسب من أكبر عدد ممكن من العلاقات.