لعنة "كريدي سويس" تفرض واقعاً مصرفياً جديداً في العالم

الأزمة المصرفية دقت ناقوس الخطر.. والبنوك الأوروبية أكثر قوة من نظيرتها الأميركية لهذه الأسباب

شعار بنك "كريدي سويس" على ورقة بيضاء مظللة
شعار بنك "كريدي سويس" على ورقة بيضاء مظللة المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أدى إنقاذ بنك "يو بي إس" لنظيره "كريدي سويس" في عطلة نهاية الأسبوع الماضي إلى تراجع شهية مستثمري البنوك الأوروبية في بداية هذا الأسبوع، خوفاً من استمرار الأزمة، وبسبب صدمتهم مما حدث للتو في المؤسسة المصرفية العريقة التي تعمل منذ قرابة الـ166 عاماً، وكانت تبدو قوية من الخارج لكن تبين أنها مضطربة للغاية من الداخل.

رغم ذلك، وحتى مع تراجع حالة الذعر التي انتشرت في بداية الأزمة، وتعافي أسهم البنوك من كبوتها، إلا أن المشهد العالمي تغير، ليس فقط بسبب "كريدي سويس"، وإنما بمواجهة البنوك الأوروبية واقعاً مختلفاً الآن عما كانت عليه قبل تدخل الحكومة الأميركية لاحتواء أزمة "سيليكون فالي بنك" قبل 10 أيام فقط. انخفض مؤشر "ستوكس يوروب 600" للبنوك بأكثر من 10% منذ ذلك الحين.

الآن باتت تكاليف التمويل أعلى، ونمو القروض أضعف والأرباح أقل. ويمكن للبنوك والهيئات التنظيمية أن تصبح أكثر حذراً بشأن السيولة ورأس المال، على الرغم من أن أكبر هيئة تنظيمية في أوروبا قالت الثلاثاء الماضي إنه لا توجد خطة لمنع إعادة شراء الأسهم.

أزمة أوسع نطاقاً

عندما انهار "سيليكون فالي بنك" في الولايات المتحدة، بدا الأمر وكأنه حالة استثنائية، وأنه مجرد بنك أُدير بشكل سيئ وأوقع نفسه في مشكلات. لكن في مرحلة لاحقة، اتضح أن ذلك علامة مبكرة على وجود أزمة أوسع نطاقاً. ورغم أن ذلك لم يكن متوقعاً، أصبح هناك تركيز واضح على مخاطر خسائر الودائع وضغوط السيولة التي تعاني منها البنوك الأخرى في الولايات المتحدة وأوروبا.

يقول العديد من المستثمرين والمحللين إنهم على يقين من أن البنوك الأوربية لن تعاني من أي هروب حاد من الودائع، فالبنوك لديها أصول جيدة، وميزانيات عمومية قوية وسيولة وفيرة.

أسهم "دويتشه بنك" تتعرض لضغوط شديدة بعد مخاوف بشأن ديون البنك

لكن اللافت للنظر أن نفس تلك المواصفات كانت تنطبق على "كريدي سويس"، إلا أن البنك السويسري كان يعاني من مشكلات داخلية، مثل الخسائر الكبيرة التي تكبدها مؤخراً والفضائح المثيرة، فضلاً عن التوقعات الضعيفة للعائدات المستقبلية، وتفاصيل غير دقيقة عن كيفية تحقيقها. لكن الأزمة الأخيرة في "كريدي سويس" كانت القشة التي دقت ناقوس الخطر حول إمكانية تصرف المودعين والأطراف الأخرى بطرق غير متوقعة.

سيولة فائضة بالبنوك الأوروبية

الخبر الجيد هنا هو أن البنوك الأوروبية لديها الكثير من السيولة الفائضة وفقاً للمؤشرات التقنية. ويظهر ذلك على سبيل المثال في مقياس نسب تغطية السيولة، والتي تُظهر مقدار النقد والسندات التي يمكن بيعها بسهولة لدى البنوك مقارنة بحجم الودائع التي من المحتمل أن تخسرها على مدار 30 يوماً في حالة التعرض للخطر، ويعرف ذلك أيضاً باسم "الإدارة المصرفية المصغرة".

يعني وصول هذا المقياس إلى 100% أن سيولة هذه البنوك وسنداتها تتطابق تماماً مع التدفقات الخارجة المعرضة للضغط. وصل متوسط هذه النسبة في البنوك الأوروبية إلى 150% تقريباً قبل جائحة كوفيد-19، ثم قفزت إلى ما يقرب من 175% عندما أغرقت البنوك المركزية الأسواق بدعم إضافي، وفقاً لـ"سيتي غروب". ثم انخفضت بعد انتهاء عمليات الإغلاق، لكنها ظلت أعلى من 160% في أواخر العام الماضي.

كما استمر إجمالي الودائع في الزيادة بأوروبا حتى بداية هذا العام، فيما بدأ في الانكماش بالولايات المتحدة خلال أبريل الماضي، مما زاد من الضغط على تكاليف التمويل والسيولة.

"كريدي سويس" و"يو بي إس" بين بنوك تحقق معها أميركا بشأن روسيا

لكن الثغرة التي تمثل مصدر تهديد هنا هي اقتراب موعد سداد الأموال التي أقرضها البنك المركزي الأوروبي بمعدلات فائدة رخيصة للغاية للبنوك من خلال عمليات إعادة التمويل المستهدفة طويلة الأجل، أو ما يعرف اختصاراً باسم (TLTROs). ويُستحق سداد تمويل بقيمة 1.65 تريليون يورو (1.78 تريليون دولار) في 2023، وتدين البنوك الإيطالية والفرنسية بأكبر حصتين من هذه الأموال، وفقاً لـ"سيتي غروب".

كيف استخدمت المصارف الأموال الإضافية؟

السؤال الأهم هنا هو ماذا فعلت البنوك بكل هذه الأموال الإضافية؟ في الولايات المتحدة واجه مصرفا "سيليكون فالي بنك" و"سيلفر غيت" مشكلات لأنهما استثمرا الكثير من أموال المودعين الجديدة في سندات عالية الجودة ولكن طويلة الأجل. أما في أوروبا، فأودعت المصارف الجزء الأكبر من السيولة الإضافية التي جاءت من عمليات إعادة التمويل المستهدفة طويلة الأجل مجدداً لدى البنك المركزي الأوروبي، وبهذه الطريقة تمكنت من كسب الفائدة بطريقة بسيطة ومنخفضة المخاطر، وفقاً لتأكيد "موديز إنفستورز سيرفس".

على الجانب الآخر، نمت حيازات البنوك الأوروبية من السندات بنسبة أقل كثيراً من نظيرتها الأميركية، حيث بلغ مجموعها نحو 12% فقط من إجمالي الأصول، مقارنة بأكثر من 30% للبنوك التجارية الأميركية.

كما يمكن للبنوك الأوروبية أن تسدد الكثير من أموال عمليات إعادة التمويل المستهدفة طويلة الأجل باستخدام النقود التي تحتفظ بها في البنك المركزي الأوروبي، بدلاً من التسرع في جمع التمويل في مكان آخر أو بيع السندات. وتقول "موديز" إن 16% تقريباً من أصول البنوك الأوروبية عبارة عن أموال نقدية مُحتفظ بها في البنوك المركزية.

هروب المودعين من البنوك الصغيرة

رغم ذلك، لا يمكن التنبؤ بسلوك المودعين، وستكون بعض البنوك الصغيرة أكثر عرضة لهروب المودعين المتذبذبين مقارنة بمن سواها.

هناك صفة مشتركة جمعت بين "كريدي سويس" و"سيليكون فالي بنك" في هذا الصدد، وهي أن كلا البنكين ركزا على نوع معين من العملاء، حيث كان لديهما الكثير من كبار الأثرياء ذوي الحسابات التي تزيد قيمتها عن حد تأمين الودائع البالغ 100 ألف فرنك (ما يعادل 108248 دولاراً).

بعد ضياع قيمتها.. من يحمل سندات الشريحة الأولى في "كريدي سويس"؟

عادة ما يطالب الأثرياء والشركات ذات الودائع الكبيرة بنقل الأموال بصورة أسرع عمن سواهم، أو يطالبون بأسعار فائدة أعلى بشكل عام. وإذا شعروا بالخوف؛ قد يحولون أموالهم بسرعة إلى بنوك أكبر وأكثر أماناً. على سبيل المثال، شهد "يو بي إس" تدفقات كبيرة من الودائع في الأيام التي سبقت استحواذه على "كريدي سويس" وكان ذلك على الأرجح بسبب شعورهم بالخوف.

ودائع الشركات في أبرز البنوك

لم تكن هناك علامات على حدوث ذلك السيناريو في جميع أنحاء أوروبا حتى الآن. وتتركز ودائع الشركات بالفعل بشكل أكبر بين أيادي بعض البنوك البارزة في المنطقة، لأنها توفر جميع الخدمات التي تحتاجها الشركات. على سبيل المثال، يأتي 70% من الودائع الموجودة لدى "بي إن بي باريبا" من الشركات المالية وغير المالية. والأمر نفسه ينطبق تقريباً على "سوسيتيه جنرال"، فيما يأتي أكثر من 50% من ودائع كل من "دويتشة بنك" و"يوني كريديت" (UniCredit) من الشركات، وفقاً لبيانات "سيتي غروب".

مع استمرار ارتفاع تكاليف الودائع للبنوك الأوروبية؛ سيؤدي ذلك إلى الضغط على هوامش الإقراض والأرباح. وصعدت بالفعل تكلفة تمويل السندات للبنوك مقارنة بالشركات العادية بشكل حاد.

في الأسواق التي تتعامل بالدولار، بلغت الفجوة بين سندات البنوك مقارنة بالشركات العادية أكبر حد لها منذ 2013، وفقاً لـ"دويتشه بنك".

ختاماً، يمكن القول إن كل ما سبق يؤثر على أرباح البنوك، ورغبتهم في الإقراض، وينعكس بالتالي على النمو الاقتصادي في نهاية المطاف. ورغم أن هذا لا ينبغي أن يكون سبباً في حدوث أزمة ثقة وسيولة، إلا أننا نعيش أوقاتاً غير عادية، ومن الصعب التأكد من الكيفية التي ستؤثر بها سلسلة الارتفاعات الحادة في أسعار الفائدة على سلوك المودعين والنظام المالي الأوسع نطاقاً.