زخم التوسع الصناعي في أميركا والصين لن يفيد الجميع

شركات التصنيع الصغيرة ومتوسطة الحجم هي المتضرر حالياً كونها تعاني من ارتفاع تكاليف الاقتراض ونقص العمالة

سفن حاويات تنتظر قبالة ميناء لونغ بيتش، لونغ بيتش، كاليفورنيا، الولايات المتحدة.
سفن حاويات تنتظر قبالة ميناء لونغ بيتش، لونغ بيتش، كاليفورنيا، الولايات المتحدة. المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بدأت عملية استبدال سلسلة التوريد العالمية للمصانع تترسخ، فيما تواجه الشركات الخلافات الجيوسياسية المحتدمة، وحقبة جديدة للسياسات الصناعية، وتركيز متزايد على المرونة.

لكن هذا التجديد يحدث في ظل أوضاع اقتصادية غير مستقرة وارتفاع في تكلفة رأس المال اللازم لتمويل هذا الاستثمار، إذ إن شركات التصنيع صغيرة ومتوسطة الحجم في الولايات المتحدة والصين معرضة بشكل خاص لتلك الضغوط المتفاقمة المتباينة، وتواجه خطر التحول إلى مجرد أضرار جانبية.

تُعتبر النهضة التصنيعية في أميركا الشمالية حقيقية، حيث أشارت شركة "ميليوس ريسيرش" (Melius Research) إلى وجود "مشروعات كبرى" -والتي تُعرّف بأنها استثمار أكبر من مليار دولار- بنحو 380 مليار دولار، وبدأ 60% من تلك المصانع المخطط لها العمل بالفعل.

وسيزيد عدد المشروعات فيما يتغلغل تدفق كبير من تحفيز الحكومة الأميركية الموجه إلى البنية التحتية والطاقة النظيفة وأشباه الموصلات وإلى مشروعات محددة. في الوقت ذاته، تضخ الصين المليارات في استثمارات البنية التحتية، بينما تسعى الشركات لدعم التعافي المحلي بعد نهاية سياسات صفر كوفيد، فيما تعاني من تراجع الطلب الخارجي وضعف الميزانيات.

سلاسل التوريد

يجب أن تواكب سلاسل التوريد التطورات. وغالباً ما يُشار إلى زيادة الاستثمار في أميركا الشمالية باسم "الاستعادة"، لكنها تسمية خاطئة إلى حد ما. فالأغلب أن الغرض من رفع شركات التصنيع لسعتها الإنتاجية هو تعزيز قدرتها على تلبية الطلب في تلك المنطقة وزيادة مرونة سلاسل توريدها، لكنها لن تحل محل الإنتاج القائم في آسيا.

عملياً، يعني هذا أن على الشركات صغيرة ومتوسطة الحجم التي تشكل الجزء الأعظم من سلاسل التوريد العالمية للمصانع أن تتجه بشكل أكبر نحو العالمية وتُزيد قدرتها على دعم كبريات شركات التصنيع التي لديها مصانع في مناطق متعددة. فعند تراجع الطلب العالمي، لن يفيد شحن البضائع من مصنع في المكسيك إلى كانساس إذا كان المصنع يعتمد على مكونات أو خامات يجب شحنها من الصين.

محاولات استبدال سلاسل الإمداد الصينية محكوم عليها بالفشل

مفهوم قاعدة العملاء المتناقصة شجع قاعدة الموردين الكبيرة في آسيا على الاستثمار في دول أخرى. على سبيل المثال، أشارت شركة "كاريير غلوبال كورب" (Carrier Global Corp) صانعة مُكيفات الهواء إلى مورد كان يرغب في بناء مصنع آخر بجوار مصنعه في مونتيري، بالمكسيك، كمثال على "الدعم" الذي تتطلع إليه الشركة من شبكة توريد قطع الغيار.

وأعلنت شركة "سيتشوان ياهوا إندستريال غروب كو" لإنتاج الليثيوم الأسبوع الماضي عن شراكتها مع "إل جي إينرجي سوليوشنز ليمتد" لصنع منتجات في المغرب، بحيث يمكن استخدام هذه المنتجات في الولايات المتحدة وأوروبا، كما تكثف شركة "غوانشي يوتشاي ماشينري غروب كو"، إحدى كبريات شركات تصنيع المحركات في الصين، جهودها للدخول إلى جنوب شرق آسيا، وتوجه شركات التصنيع في كوريا الجنوبية أنظارها نحو الشرق الأوسط، فيما تواجه الشركات الصينية المُصنعة لقطع غيار السيارات ضغوطاً متزايدة من عملائها في الخارج لبناء مصانع في بلاد مختلفة، وفقاً لـ"بلومبرغ نيوز".

في حوار له قال كيفن ميرفي الرئيس التنفيذي لشركة "فيرغسون بي إل سي": "أغلب شركات التصنيع كان لديها مصدر واحد لمنتجات المكونات، والآن تبحث عن مورد قريب وآخر بعيد"، ما يعني أن وجود مورد "قريب أو في أميركا الشمالية، وآخر عالمي، الأرجح أن يكون في آسيا". يُذكر أن "فيرغسون" توزع أجهزة التدفئة والتهوية والسباكة والمستلزمات الصناعية الأخرى بقيمة 26 مليار دولار.

الارتفاع في حجم الاستثمارات العالمية يثير مسألة التوريد المستعصية وهي: من أين ستأتي المكونات والخامات والعمالة اللازمة لدعم هذه الطفرة في البناء؟ وما تكلفة هذه العناصر؟ وما العائد من تلك المشروعات؟ تلك قضايا أعقد بكثير للشركات الصغيرة. فالمصانع الجديدة ليست قليلة التكلفة، وغالباً ما يتعرض هذا النوع من الاستثمارات للتأخيرات وتجاوز التكاليف المقدرة في أفضل الأحوال، وهذا ليس أفضل الأحوال.

تراجع الطلب الخارجي

أشار مؤشر مديري المشتريات الصناعي الأميركي الصادر عن "معهد إدارة التوريدات" (ISM) إلى تفاقم الانكماش في مارس، ليحقق أسوأ قراءاته منذ 2009، باستثناء فترة الجائحة.

تشهد مواعيد تسليم الموردين تحسناً في الصين مع نهاية حقبة الإغلاقات المشددة، لكن الشركات لم ترغب بعد في تكوين المخزونات، ما يُبقي على معدلات الطلبيات الجديدة وحجم الإنتاج أدنى من أعلى مستوياتها قبل الجائحة.

بالنسبة لبقية آسيا، تتضاءل الأسواق الخارجية الكبيرة التي كان يمكن الاعتماد عليها في السابق. وتقول شركات التصنيع اليابانية إن هناك فائضاً في المعروض وإن الصادرات ستنخفض، وفقاً لأحدث استبيانات "تانكان" (Tankan) عن الأعمال. تتضح تلك المشاعر بشكل أكبر في الشركات الصغيرة.

أما في مجال الرقائق المفترض أن يساعد في قدر كبير من توسع الولايات المتحدة في المصانع، لم تحقق شركة "تايوان سيميكوندوكتور مانوفاكتشورينغ" المبيعات المتوقعة لثاني فصل متتالٍ، وقالت "سامسونغ إلكترونيكس كو" إنها ستخفض إنتاجها من رقائق الذاكرة بعد الإعلان عن أقل أرباحها الفصلية منذ 2009.

خفض "سامسونغ" لإنتاج الرقائق يعود بالنفع على شركات القطاع

لدى الشركات ذات الموارد الوافرة القدرة على الاطلاع على تلك التوجهات والمضي قدماً في إجراء استثمارات طويلة الأجل، وقد لا تملك الشركات الصغيرة ذات الموازنات المحدودة تلك الرفاهية.

تشدد البنوك معايير القروض التجارية والصناعية في الولايات المتحدة بمعدلات لم نشهدها منذ بدء الجائحة والأزمة المالية في 2008، وفقاً لتحليل صادر عن "ميليوس ريسيرش" استشهد فيه المحلل سكوت دافيس ببيانات الاحتياطي الفيدرالي.

بينما تشعر أكبر الشركات الصناعية بأثر أسعار الفائدة المرتفعة حينما ترغب في اقتراض مبالغ كبيرة، فكثير منها ممول ذاتياً تقريباً عبر التدفقات النقدية الحرة، ما يحد من الأثر المباشر لتشديد معايير الاقتراض على عملياتها أو خطط إنفاقها الرأسمالي. لكن موردي تلك الشركات يشعرون بالطبع بتلك الآثار. قال 9% من أصحاب الشركات الصغيرة الذين يقترضون بشكل متكرر إن الحصول على قرض في مارس كان أصعب من الحصول عليه قبل ثلاثة شهور، وتلك هي النسبة الأكبر منذ ديسمبر 2012، وفقاً لاستبيان صدر الأسبوع الجاري عن "الاتحاد الوطني للأعمال المستقلة" (NFIB).

مشكلات التمويل والعمالة

في استبيان آخر أجرته "الرابطة الوطنية للمُصنعين" (NAM)، صنفت الشركات المشاركة صعوبات الحصول على التمويل في المرتبة الأخيرة ضمن أشد مخاوفها، وكان مصدر قلقها الرئيسي هو جذب القوى العاملة مرتفعة الجودة والحفاظ عليها، وجاء بعدها زيادة تكاليف الخامات ومشكلات سلاسل التوريد.

اكتمل العمل الميداني للاستبيان في 7 مارس، لكنه جاء قبل أيام من انهيار "سيليكون فالي بنك" وفرض "المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع" (FDIC) الحراسة عليه والتسبب في مخاوف من أزمة مصرفية أكبر فاقمها الدمج القسري لمصرفي "كريدي سويس" و"يو بي إس".

مخاوف مستثمري رأس المال الجريء تهبط بتمويل الشركات الناشئة 55%

"لا أسمع كثيراً من الشكاوى حول الائتمان بوجه عام، لكن بالنسبة لتلك الشركات وبصفة خاصة شركات التصنيع الصغيرة، يشكل الأمر عائقاً كبيراً"، وفقاً لما قاله تشاد موتراي، كبير الاقتصاديين لدى "الرابطة الوطنية للمُصنعين" في حوار عبر الهاتف. الأرجح أن تكون للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم علاقات مع البنوك المحلية، والتي قد تخضع للوائح أشد صرامة في أعقاب انهيار "سيليكون فالي بنك".

يقول "موتراي" إن هذا يطرح سؤالاً عن مستقبل الحصول على ائتمان، كما أوضح أن بعض شركات التصنيع الصغيرة والمتوسطة الحجم تشعر بالقلق حيال تأثير التراجع في الإقراض على قدرتها على التوسع وتوظيف العمالة.

تفتقر تلك الشركات بالفعل للمزايا في سوق العمل مقارنة بشركات التصنيع الكبيرة التي تملك موارد أكثر والصناعات الأخرى التي يمكنها توفير مرونة أكبر. كما قال موتراي إن الشركات الصناعية الصغيرة "اضطرت لزيادة الأجور بشكل كبير وما زالت تواجه مشكلة في العثور على موظفين".

نهاية حقبة

في الصين، بينما يتدفق الائتمان بقوة وسرعة، إلا أن أغلبه يذهب للشركات الكبيرة التي تملكها الدولة، ما يُقصي شركات التصنيع صغيرة ومتوسطة الحجم في القطاع الخاص التي تمثل جزءاً كبيراً من قوة الصين الصناعية. ورغم تحسن أداء تلك الشركات في الشهور الماضية، فما زال وضعها المالي ضعيفاً وينخفض هامش ربحها مع تراجع ميزة تكلفة العمالة في الصين وسعي الشركات الكبيرة لحماية دخلها الصافي من خلال زيادة الضغط على الموردين.

نحن نشهد نهاية الحقبة التي كان يدفع فيها مصنعو المنتج النهائي "أي سعر" مقابل المكونات المتاحة، بل تزداد حدة البعض في طلب تخفيضات للأسعار مع تراجع حدة التضخم في أسعار الخامات والشحن، كما أن بعض الشركات، مثل "كاريير"، أصبحت صريحة بشكل علني في هذا الأمر، حيث تضخمت تكاليف شركة تصنيع مكيفات الهواء 500 مليون دولار في 2021 و1,5 مليار في 2022 بسبب التضخم، وللشركة "حق طبيعي" في استرداد تلك التكاليف، وفقاً لما قاله ديف غيتلن الرئيس التنفيذي في اجتماع "باركليز" في فبراير، وأضاف: "لدينا موردون إما أن ينضموا إلينا في هذه المسيرة على المدى الطويل أو لا، وسننتقل إلى موردين مستعدين لمساندتنا من منظور التكلفة ومنظور الجودة والتسليم".

من الصعب أن نرى كيف ستنقسم سلاسل التوريد العالمية إلى قسمين دون معاناة، لكن من قد يشعر بعبء الضغوط هي الشركات الصغيرة التي تحاول الاستمرار.