محطة الفضاء الدولية.. نموذج لعالم أفضل

المحطة قد تساعدنا على تحديد الاتجاه الذي يسلكه الجنس البشري نحو المستقبل

صورة لمحطة الفضاء الدولية وكوكب الأرض في الخلفية من مكوك الفضاء "إنديفور" التابع لوكالة "ناسا"
صورة لمحطة الفضاء الدولية وكوكب الأرض في الخلفية من مكوك الفضاء "إنديفور" التابع لوكالة "ناسا" المصدر: غيتي إيمجز
Andreas Kluth
Andreas Kluth

Columnist at Bloomberg Opinion. Previously editor-in-chief of Handelsblatt Global; 20 years at The Economist. Author of "Hannibal and Me."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

إليكم أمراً من السهل نسيانه لكنه ملهم لمن يتذكره. حتى اليوم، هناك مكان يتمتع بمكانة خاصة للغاية حيث يتعامل الأميركيون والروس وغيرهما بمهنية وانسجام، رغم العدوان الروسي على أوكرانيا والمواجهة المريرة بين الكرملين والغرب.

هذا المكان ليس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي ترأسه روسيا هذا الشهر وتستغله بتهكم كمنصة لنشر الأكاذيب والدعاية. ولا هو مكان استخدمه الروس والأميركيون سابقاً لتبادل المعلومات كجزء من معاهدة "ستارت الجديدة" (New START)، وهي آخر معاهدة متبقية للسيطرة على الأسلحة النووية – وذلك لأن روسيا انسحبت منها الشهر الماضي. في الواقع، هذا المكان ليس موجوداً على كوكب الأرض.

المكان في السماء حرفياً. فهو عبارة عن هيكل بالغ الجمال من الوحدات ومصفوفات الألواح الشمسية، بحجم ملعب كرة القدم ويلف حول كوكبنا كل 90 دقيقة، وتمكن رؤيته أحياناً من الأرض بالعين المجردة، وهذا المكان هو محطة الفضاء الدولية.

تاريخ إنشاء محطة الفضاء الدولية

بعدما أسستها وكالتا الفضاء الأميركية والروسية في تسعينيات القرن الماضي، انضمت أيضاً وكالات الفضاء التابعة للاتحاد الأوروبي واليابان وكندا لاحقاً لمحطة الفضاء الدولية.

استقبلت المحطة 266 زائراً من 20 دولة (ليس من بينهم أوكرانيون حتى الآن). لذا تُعد محطة الفضاء الدولية أكثر بكثير من مجرد مختبر علمي في السماء، فهي أيضاً بمثابة برهان على الروح الإنسانية حينما تقرر أن تسمو فوق المضايقات الدنيوية وتتجه نحو الأقدار الأعلى، التي أجرؤ على وصفها بالسماوية.

الصين تكشف عن محطتها الفضائية الجديدة في سباق الهيمنة على الفضاء

هذه الطموحات كانت بالتأكيد روح العصر حين أُطلِقت محطة الفضاء الدولية في 1998. ساد الاعتقاد أن الحرب الباردة وسباق الفضاء قد انتهيا. وتعهد حلف شمال الأطلسي وروسيا بالثقة والتعاون المتبادلين – أصبح فلاديمير بوتين رئيساً بعد ذلك بعامين ــــ حيث بدا أن محطة الفضاء الدولية تمثل نهاية التاريخ وبداية عهد من التقدم السلمي للبشرية.

إلى أي مدى تصل السياسة للفضاء؟

بالتأكيد لم يتظاهر أي شخص على الإطلاق أن السياسة تتوقف عند أطراف الغلاف الجوي. على سبيل المثال، يمنع قانون أميركي وكالة "ناسا" من العمل مع وكالة الفضاء الصينية، ولم يزر أي رائد فضاء صيني وكالة الفضاء الدولية على الإطلاق.

عادةً ما تسببت أيضاً التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا في تعقيدات. في الأزمات السابقة، حذرت روسيا، التي اعتادت احتكار نقل رواد الفضاء إلى المحطة، من أن الأميركيين قد يستخدمون "الترامبولين" أو "المقشات" للوصول إلى المحطة.

كيف سيكون شكل الحياة الحضرية للبشر على كوكب المريخ؟

لكن روسيا لم تنفذ تهديداتها أبداً، وهذا هو الجانب الكاشف في الأمر. قد تكون محطة الفضاء الدولية على مسار محفوف بالمخاطر بالكاد يبتعد عن السياسة والاضطرابات على ظهر كوكب الأرض، لكنها لا تزال في الفضاء، وتشهد 16 شروقاً في اليوم.

كأنما تؤكد أن لها سحراً خاصاً، قالت روسيا العام الماضي – بعد غزو بوتين لأوكرانيا وفرض الغرب لعقوبات – إنها ستنسحب من المحطة، لكنها غيّرت رأيها هذا الشهر، إذ أعلنت أنها ستستمر في التعاون حتى 2028.

أجواء مختلفة في محطة الفضاء

ذلك إلى جانب أن السمو الحقيقي، وبالتالي الإلهام، لا يحدث على الأرض، بل في الفضاء. بحسب أفضل ما يمكننا أن نستشفه مما يذكره رواد الفضاء، فإن الأجواء بينهم تميل لأن تتسم بالمهنية والمؤانسة والألفة والطرافة، بغض النظر عن جنسيات رواد الفضاء الموجودين في المحطة، فالعلماء ببساطة منشغلون بما لا يتيح لهم الوقت للرد بسخرية أو بحقد.

ففي نهاية المطاف، فهم يقومون بأبحاث عن كل ما قد يتيح لنا يوماً ما – ليس نحن الروس أو الأميركيون لكن جنس البشر – استعمار المريخ. ويشمل ذلك تأثيرات الإشعاع وانعدام الجاذبية على البشر، إلى جانب الزراعة في الفضاء وديناميكيات السوائل.

تغير المناخ يطلق سباقاً للبذور المتحورة في الفضاء

بالصدفة، في تلك الفئة الأخيرة، صنعت رائدة الفضاء الإيطالية، سامانثا كريستوفوريتي، التاريخ في 2015 عندما شربت أول إسبريسو فضائي من كوب منعدم الجاذبية. سأحتاج ذلك المشروب قبل حجز تذكرة ذهابي للمريخ.

أيام المحطة معدودة

هل يبذل رواد الفضاء جهداً أحياناً للابتعاد عن السياسة والآراء السائدة المتضاربة أثناء تجوالهم في وحدات محطة الفضاء؟ أتساءل عن ذلك أحياناً.

قبل عام، أثار ثلاثة من رواد الفضاء الروس الدهشة على المستوى العالمي، حينما وصلوا إلى محطة الفضاء الدولية ودخلوا وهم مُرتدون بِدَل فضاء بألوان ملفتة من الأصفر والأزرق، وهي ألوان العلم الأوكراني. أكانت هذه صدفة أم رسالة مشفرة؟

وحتى بعيداً عن الأمور الجيوسياسية، أصبحت أيام محطة الفضاء الدولية معدودة. فالتكنولوجيا التي تعمل بها المحطة تتقادم. ولا تبني روسيا فقط محطتها الفضائية الخاصة، بل أيضاً الصين والهند، ما يؤمم بشكل متزايد المدارات الأرضية المنخفضة.

تقييم "سبيس إكس" يصل إلى 137 مليار دولار في أحدث جولة تمويل

في الوقت نفسه، تعتزم عدة شركات خاصة إنشاء محطات تجارية. الفضاء القريب من الأرض على وشك أن يصبح سوقاً ناشئة وحدوداً لا تخضع لقوانين ولوحة ألعاب تستنسخ الخلافات الموجودة على ظهر كوكب الأرض.

ما مصير محطة الفضاء؟

كانت الخطة لمحطة الفضاء الدولية دوماً هي إسقاطها في نهاية هذا العقد. في تلك المرحلة، ستدفعها وكالة "ناسا" تجاه الغلاف الجوي حيث سيحترق أغلبها. وإذا حالفنا الحظ، سيهبط الحطام المتبقي في جنوب المحيط الهادئ بالقرب من نقطة نيمو، وهي أبعد منطقة عن الأرض في الكوكب كله.

بهذا اليقين، قد نأخذ لحظة للتفكر. هل نرغب في عالمٍ، هنا على الأرض وهناك في الفضاء، تتصارع فيه دولنا، وتستولي فيه على هذا أو ذاك أو تحاول استرداده، وتتبع مصالحها المحدودة؟ أم أن علينا تجديد العزم على التعاون، وهو ما تمثله محطة الفضاء الدولية؟ لست أقصد في الفضاء فقط، بل أيضاً في المحاكم الدولية ومعاهدات حظر انتشار الأسلحة النووية وإيقاف تغير المناخ، وغيرها من المساعي.

في وقت الحرب خصوصاً، فإن محطة الفضاء الدولية بمثابة منارة مضيئة في سماء الليل، وإن كان لمعانها غير واضح. لكن خلال سنوات قليلة، سيلمع ضوء ذلك المصباح ثم سينطفئ. وبهذا الشكل، يجب أن تُذكِّرنا المحطة جميعاً – ليس فقط كأميركيين أو صينيين أو روس ولكن كبشر – أن نقرر أي الاتجاهات نود أن نسلك كجنس بشري.