ماذا تعني الحرب الباردة الجديدة للبنوك المركزية؟

لاغارد تجيب.. والأمثلة عديدة على نجاة البنوك المركزية بعد التزام صف المصلحة الوطنية أثناء الأزمات

جندي يقف على طائرة حربية على حاملة طائرات في صورة تعبيرية عن منطقة الخطر.
جندي يقف على طائرة حربية على حاملة طائرات في صورة تعبيرية عن منطقة الخطر. المصدر: غيتي إيمجز ووكالة فرانس برس
Daniel Moss
Daniel Moss

Daniel Moss is a Bloomberg Opinion columnist covering Asian economies. Previously he was executive editor of Bloomberg News for global economics, and has led teams in Asia, Europe and North America.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد معركة ضد ارتفاع الأسعار استمرت ما يزيد قليلاً على العام، تحتاج البنوك المركزية إلى إعداد العُدة للمحنة الكبيرة المقبلة وهي خدمة بلادها في عالم يتسم بمنافسة ممتدة بين الولايات المتحدة والصين.

صُناع السياسة النقدية سيصبحون محاربين مكرهين في حربٍ باردة، فهم يستريحون أكثر إلى استهداف مستويات التضخم والعبث بالتوجيهات الاسترشادية حول أسعار الفائدة بدلاً من التصدي للخصوم الاستراتيجيين.

لكن لسوء حظهم أنهم لا يملكون ترف الانتظار حتى تنزاح الغمة.

العصر الاقتصادي الجديد اليوم يفرض تحدياً عميقاً أمام السلطات النقدية التي تتعامل مع تداعيات المحفزات الهائلة التي ضُخت في النظام المالي خلال الأيام الأولى للوباء، ولا يتطلب هذا العصر تحديد تكاليف الاقتراض استجابة لميلاد الدورات الاقتصادية وانتهائها فحسب، وإنما توقع العواقب طويلة الأجل لسلاسل التوريد التي تملأها الشروخ وتراجع حجم العمالة عالمياً.

مهمة مرهقة وليست مستحيلة

سيحتاج مصرفيو البنوك المركزية الاعتياد على توحيد مواقفهم توحيداً وثيقاً أيضاً مع المؤسسات الأخرى في الحكومة خاصة مؤسسات المالية العامة، وفي نفس الوقت الحفاظ على استقلالهم المقدس، وهي مهمة مرهقة لكنها ليست مستحيلة.

لاغارد: انقسام الاقتصاد العالمي ناقوس خطر للبنوك المركزية

كانت هذه الرسالة الضمنية لخطاب رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك الأسبوع الماضي إذ قالت: "نحن نشهد انقسام الاقتصاد العالمي لكتلٍ متنافسة فيما تحاول كل كتلة جذب أكبر قدر من بقية العالم على مصالحها الاستراتيجية وقيمها المشتركة.. كل ذلك قد يكون له تداعيات بعيدة المدى عبر العديد من مجالات صناعة السياسة"، ورغم أن ذلك يبدو وكأنه بيان لما هو بيّن، فإن مسؤولي البنوك المركزية لا يخوضون كل يوم في شؤون السياسة الدولية، كما أنهم يكرهون الخوض في السياسة محلياً أيضاً.

دعوة لحشد القوى

تصريحات لاغارد بمثابة دعوة لحشد القوى، وقد تكون هي الشخص المناسب في الوقت المناسب. باعتبار البنك المركزي الأوروبي مشرفاً على منطقة عملة موحدة، فهو بطبيعة وجوده، كيان عابر للحدود، وخبرة لاغارد كوزيرة للمالية في فرنسا أثناء الأزمة المالية العالمية وقيادتها اللاحقة لصندوق النقد الدولي تعزز مكانتها، وكلما أسرعت البنوك المركزية في تقدير التغير السريع الذي وصفته لاغارد، كان الانتقال أسهل، وقالت لاغارد فكروا في الأمر الآن قبل أن يصيب الجمود الكتلة فعلياً.

نورييل روبيني يحذّر من انهيار اقتصادي ومالي في أعقاب أزمة المصارف

الأنباء السارّة هي أن هناك أمثلة عديدة على نجاة البنوك المركزية بعد التزام صف المصلحة الوطنية في أوقات الأزمات، وتوجد بعض الأمثلة الرائعة في آسيا حيث عملت مؤسسات الحكومة معاً بشكل وثيق وبينما لاحقت تلك الأحداث ادعاءات بتآكل الاستقلالية، فلم تكن نهاية العالم لا للمصرفيين ولا الساسة.

مغامرة إندونيسية

وأبرز مثال هو مغامرة أندونيسيا في تسييل الديون خلال جائحة كوفيد. لطالما اعتُبر التمويل المباشر للموازنات الحكومية من قبل البنوك المركزية أمراً مرفوضاً من الطرفين إلا أن وزيرة المالية، سري مولياني إندراواتي، ومحافظ بنك إندونيسيا، بيري وارجيو، أطلقوا البرنامج رغم بعض الضجيج والعواء حول التضحية بالاستقلالية. لكن لم يعاقب حراس سوق السندات جاكرتا، وبفضل رد الفعل الحميد نسبياً، تشجعت الدولة ومررت قانوناً في ديسمبر يسمح بالاستخدام المستقبلي للمركز المالي لبنك إندونيسيا إذا استدعت الضرورة.

إصلاح أوجه قصور البنوك المركزية عملية معقدة

الأمر لا يتعلق فحسب بالأسواق الناشئة حيث تكون حواجز الحماية المؤسسية مطلوبة أحياناً. باعتباره رجلاً أكاديمياً ورئيساً للاحتياطي الفيدرالي، حثّ بن برنانكي بنك اليابان والحكومة على العمل معاً لإنعاش الاقتصاد والقضاء على الانكماش، وأكد على أن الحالات الطارئة والمصالح الوطنية بعيدة المدى تتطلب تدابير قوية. في بحث عام 1999، ذكر برنانكي الصفقة الجديدة في ثلاثينيات القرن الماضي، وقال إنه كان "الوقت المناسب لبعض حلول روزفلت".

تكامل المؤسسات الوطنية

لا يتعلق الأمر فحسب بحشد القوى وإنما الفهم الأكبر لكيفية تكامل المؤسسات الوطنية المهمة مع بعضها البعض بشكل أفضل، وبقدر ما يبدو الأمر رائعاً نظرياً، فإن الرؤية قد تكون مشوشة. استغرق الأمر حتى 2013 لكي يتمكن رئيس الوزراء الراحل، شينزو آبي، الذي تحمس بشدة بعد عودته الدرامية للسلطة، من إنهاء الصراع مع بنك اليابان ووزارة المالية عبر تفاهم رسمي، وادّعى منتقدو الاتفاق أن استقلالية البنك تآكلت.

بنك اليابان المركزي والحكومة يتفقان على عدم مراجعة الاتفاق المشترك

لكن لو لم يذعن بنك اليابان، لكان آبي على الأرجح ليضغط أكثر ليكون ذراعاً للإدارة. لكن السياسة -واحتياجات- اللحظة لعبت دورها ضد البنك المركزي الياباني. أيضاً سيطرت فكرة تكامل الألوان السياسية المختلفة بدلاً من تنافسها على عمل لجنة تراجع أداء بنك الاحتياطي الأسترالي والتي أصدرت توصياتها يوم الخميس الماضي.

لكي نكون واضحين، لا تفكر لاغارد في إقحام السياسة النقدية في وزارات الدفاع أو القصور الرئاسية. وقالت: "بقدر ما تؤدي الجغرافيا السياسية إلى تجزئة الاقتصاد العالمي إلى كتل متنافسة، يستدعي ذلك مزيداً من التماسك السياسي.. ولا نساوم على الاستقلالية وإنما ندرك الاعتماد المتبادل بين السياسات وكيف يمكن تحقيق كل منها هدفها على أفضل وجه إذا اتحدت وراء هدف استراتيجي".

الدبلوماسية المالية

حان الوقت لأن تفيق الدبلوماسية المالية من سباتها، وخلال عقود عملي كصحفيّ في واشنطن ولندن وطوكيو وفي جنوب شرق آسيا، لطالما أدهشني قلة اكتراث أنواع السياسة الخارجية بالأسواق والرهانات النقدية، ومال خبراء الاقتصاد الكلي إلى إحالة دراسة فن الحكم لآخرين، لكنهم ينتمون إلى بعضهم البعض، وأبرز مثال على ذلك هو كيفية تبني الاحتياطي الفيدرالي مراراً دور البنك المركزي للعالم عبر خطوط مبادلة العملة.

رغم اعتراض الاحتياطي الفيدرالي بقوة على فكرة أن له دوراً في السياسة الخارجية، فلم يحصل أي خصم للولايات المتحدة على خط مبادلة دولار خلال الوباء أو ملحمة "كريدي سويس"، وفي أحدث تطبيقات لهذه الآلية -إن لم يكن كلها- كان المستقبلون إما حلفاء رسميين أو شركاء مقربين. أما الصين، فتبني شبكات خطوط المبادلة الخاصة بها وتتصرف كمقرض لمجموعة كبيرة من الدول النامية، فهل تعتقد أن إقرارات الديون تلك مجانية؟

القواعد التنظيمية لن تحول دون وقوع الأزمة المالية المقبلة

معظم البنوك المركزية لديها على الأقل درجة من الاستقلالية لكنها لا تتحمل الاعتراف بذلك، فالاستقلالية عادة ما يصاحبها محاذير أو لها درجات. ورغم أن تفرد البنك المركزي الأوروبي مكرس في معاهدة، فإن اليورو الذي يشرف عليه هو في حد ذاته تتويج لمشروع سياسي عميق. البنوك المركزية تعيش في عالم سياسي، وتميل لاشتقاق مهامها من الطبقة السياسية، وحتى أكثر القرارات تكنوقراطية لها تداعيات على مئات الملايين -إن لم يكن مليارات- البشر. لذا دعونا نحتضن هذا العالم الذي صورته لاغارد، فالسياسة حاضرة بالفعل.