أخطاء أوروبا بشأن الاستثمار الملتزم دروس لأميركا

الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في أوروبا لا تولِّد صراعات سياسية كما في أميركا

رسم تعبيري
رسم تعبيري المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

ربما لاحظتم أن الاستثمار الملتزم بالحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية أضحى درعاً يستخدمه السياسيون في الولايات المتحدة ضدَّ من يشاؤون. يعتبر الليبراليون أنه يساهم في إبطاء الاحتباس الحراري ومكافحة الظلم الاجتماعي، فيما يرى المحافظون أنه يضر بالاقتصاد والحلم الأميركيين.

من هنا يأتي السؤال: هل ينقذ الاستثمار في الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية العالم، أم أنه يدمره؟ حقيقة الأمر هي أنه لا يضر ولا ينفع. لكن إن لم يتدخل أي طرف في القطاع المربح للصناديق التي تستثمر في شركات تمتثل لمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، سنجد أنه يسير في طريق التدمير الذاتي.

أشارت تقديرات محللي بلومبرغ إنتليجنس إلى أن الاستثمار في الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية على مستوى العالم قد يصل إلى 50 تريليون دولار في 2025، أي 3 أضعاف حجمه في 2014. لكن في ظل غياب تعريف مشترك لماهية الاستثمارات السليمة من حيث الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، باتت شركات الاستثمار تصنف كل الاستثمارات ضمن ذلك النطاق.

اختلاف الآراء

عادةً ما يوجِّه المستثمرون، الذين لا تساورهم شكوك، الأموال نحو شركات قد يرغبون بتجنبها في أحوال أخرى. حتى الملتزمين بهذا المفهوم يواجهون أحياناً صعوبة بالدفاع عنه، جزئياً نتيجة اختلاف الآراء بشأن ما يُفترض أن تقيسه المعايير.

يبدو أن الشركات، التي تفوز باستثمارات في الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، تنتابها الحيرة بالقدر ذاته. كان منتظراً أن تخفض إحدى وحدات شركة "إم إس سي آي" (MSCI) في نهاية أبريل تصنيفات 31 ألف صندوق استثمار وفقاً لمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية لديها.

الصناديق تحط من مكانة أسهم البيئة والمجتمع والحوكمة

أنشأت "إم إس سي آي" أول مقياس ليكون مؤشراً للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في 1990، وهي اليوم إحدى كبرى شركات تصنيف الصناديق والشركات فيما يتعلق بامتثال الشركات لمعايير تلك الحوكمة. (تُصدر "بلومبرغ إل بي"، وهي الشركة الأم لـ"بلومبرغ بزنسويك"، أيضاً تصنيفات مرتبطة بمدى امتثال الشركات لمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية).

تعني التغيرات أن 0.2% من الصناديق التي صنفتها "إم إس سي آي" ستحظى بأعلى تصنيف في المستقبل، مقارنة بنحو 20% في الوقت الحالي. يثير ذلك تساؤلات بشأن قيمة مثل هذه التصنيفات. تقول "إم إس سي آي" إن خفضها تصنيف بعض الصناديق كان مدفوعاً بقلق عملاء بشأن "الاتجاه الصعودي" الملموس في التصنيفات، وهي ليست مرتبطة باللوائح التنظيمية في أوروبا أو أي مكان آخر.

من المشاكل الأكثر جوهرية بالنسبة للمستثمرين في الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية هي أن "إم إس سي آي" تصنّف الشركات بناءً على قدراتها في إدارة المخاطر الناتجة عن الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، فيما تأخذ شركات أخرى معنية بضمان سلامة القطاع، مثل "ستاندرد آند بورز غلوبال" (S&P Global)، في الاعتبار تأثير الشركات على النظام البيئي التي تعمل في إطاره.

قد تكون النتيجة هي ظهور تصنيفات مختلفة بشكل جذري للشركة الواحدة. تقول "إم إس سي آي" أيضاً إنها تقدم أدوات لمن يسعون للاستثمار في الشركات أو الصناديق التي تراعي قيمهم.

غموض في لوائح الاتحاد الأوروبي

في خضم كل هذا الارتباك، يجدر بنا الالتفات إلى جهود الجهات التنظيمية وصنّاع القانون الأوروبيين لمساعدة المستثمرين على تخصيص رأس المال الخاص بهم بالطرق التي تحقق الغرض من معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية.

الصورة ليست حسنة، برغم أن مفهوم الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في أوروبا لا يولِّد صراعات سياسية كما في الولايات المتحدة، فإن سوق الاستثمارات المعنية بهذه الممارسات في أوروبا تأثرت بالمراجعات المستمرة لقواعد غير مكتملة، ما يجعل العملاء يتساءلون عن مستوى الاستدامة في تخصيص مدخراتهم.

مخاطر الركود تدفع الشركات لتجميد خطط الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية

بدأ الاتحاد الأوروبي في 2021 يطبق لائحة الإفصاح عن التمويل المستدام، لمساعدة المستثمرين على اكتشاف مردود استثماراتهم في الشركات التي تمتثل لمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، وذلك من خلال تصنيف الصناديق إلى 3 فئات. الفئة التي تسري عليها المادة 9 هي الأعلى بين الفئات الثلاثة، وهي تضم الصناديق التي تضع معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية نصب أعينها.

يعني ذلك عملياً الاحتفاظ باستثمارات مستدامة فقط، مع إتاحة بعض المساحة للتحوط والسيولة. أما الفئة التي تنطبق عليها المادة 8، فهي تتطلب "ترويج" الصناديق لمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، وهو اشتراط يكتنفه قدر كبير من الغموض.

تنطوي الفئة التي تسري عليها المادة 6 على كل الأمور الأخرى، لكنها تتطلب تفكير مديري الصناديق ملياً فيما إذا كانت المخاطر المرتبطة بمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية ذات صلة.

كانت نتيجة تطبيق تلك القواعد أن أعادت شركات إدارة الأصول تصنيف مئات الصناديق في أواخر العام الماضي للإيفاء بمهلة تنتهي في 1 يناير تتطلب منها إثبات أي ادعاءات بالامتثال لمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية. تشير تقديرات شركة "مورنينغ ستار" لأبحاث السوق إلى أن تصنيف المادة 9 لم يعد يسري على صناديق تبلغ قيمة استثماراتها 175 مليار يورو (190 مليار دولار) خلال الأشهر الأخيرة من 2022.

التخطيط من جديد

ما يزال الاضطراب مستمراً. نشرت السلطات الأوروبية في منتصف أبريل سلسلة إيضاحات واقتراحات دفعت جانباً كبيراً من قطاع إدارة الاستثمارات في المنطقة للعودة إلى وضع الخطط من جديد، بل إن بعض مديري الأصول يشككون في ما إذا كان قرارهم بخفض تصنيف الصناديق التي سرت عليها المادة 9، مغلوطاً في المقام الأول.

قواعد أوروبية جديدة بشأن الاستدامة والحوكمة البيئية تُربك مديري الأصول

من الأمور الفاصلة في هذا السياق أن الاتحاد الأوروبي فشل منذ البداية في طرح تعريف واضح لماهية الاستثمار المستدام، وهو ما أفسح المجال لمديري الصناديق لابتكار تعريفات مختلفة بشكل كبير أثناء تخطيطهم للمحافظ.

حاولت المفوضية الأوروبية، وهي الذراع التنفيذي للاتحاد الأوروبي وأحد القائمين على وضع لائحة الإفصاح عن التمويل المستدام، توضيح النهج التي تود أن يسلكه المستثمرون في التعامل مع مبدأ "الاستثمار المستدام".

تبدو النتيجة أن مديري الأصول سيجدون منافذ لا يُستهان بها، وأن المسؤولية ستقع على عاتق المستثمرين لاكتشاف ما الذي سيستفيدونه من هذه السياسة الاسترشادية، التي تنص على الآتي: إذا حصلت شركة ما على جزء من إيراداتها من نشاط يتصف بالاستدامة، لكنها بخلاف ذلك لا تتسبب في أي أضرار كبيرة على المستويين البيئي والمجتمعي، يمكن للمستثمرين اعتبار ذلك الاستثمار مستداماً في المجمل.

قال إريك بيدرسن، رئيس قسم الاستثمار الاجتماعي في "نورديا أسيت مانجمنت" (Nordea Asset Management): "أعتقد أن هناك شخصاً ما في المفوضية قد شعر بالقلق من أن هيكل لائحة الإفصاح عن التمويل المستدام برمّته قد لا يحظى بالاحترام الذي يستحقه، لذلك يحاول إصلاح بعض هذه الأمور".

ما الذي ينبغي إصلاحه؟

ما تزال قائمة الأمور التي ينبغي إصلاحها طويلة. يُفترض مثلاً أن تكون المادة 9 مخصصة للصناديق التي توجِّه كل أموالها نحو الاستثمارات المستدامة، لكن في أواخر يناير، قالت "مورنينغ ستار" إن نحو 6% فقط من تلك الصناديق تكاد تفي بذلك المعيار.

وجدت دراسة من "كلاريتي إيه آي" (Clarity AI)، وهي منصة لتقنية الاستدامة، في نوفمبر أن نحو صندوق من بين كل خمسة صناديق يفي بأحكام المادة 9، يصب أكثر من 10% من استثماراته في شركات تخرق مبادئ الاتفاق العالمي للأمم المتحدة أو إرشادات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية فيما يتعلق بالبيئة وحقوق الإنسان.

الرئيس التنفيذي لـ"بلاك روك": الشركات التي تتجاهل الاستدامة ستتخلف عن الركب

إحدى المشاكل الأخرى هي خفض تصنيف عدد من الصناديق إلى الفئة التي تسري عليها المادة 8 بتصنيفها الغامض، الذي ينطوي على "ضرورة الترويج للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية". تحاول الجهات التنظيمية اكتشاف طريقة لتطوير إطار عمل أجدى.

تسببت هيئة الأوراق المالية والأسواق الأوروبية، وهي أكبر جهة تنظيمية للأسواق في المنطقة، في مزيد من الفوضى في أواخر العام الماضي. قالت الهيئة إنه على الاتحاد الأوروبي تطبيق حدودٍ دنيا على أي صناديق تروج لنفسها على أنها معنية بالحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية أو الاستدامة.

لا بد أن يتكون 80% على الأقل من أي صندوق يباع تحت شعار الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، من مصادر يمكن التحقق من التزامها بهذه المعايير. إذا كان الصندوق يروج لنفسه على أساس أنه معني بالاستدامة، فلا بد أن يكون بالإمكان التحقق من استدامة نصف هذه النسبة على الأقل. أثارت هذه الفكرة استنكاراً شبه عالمي من اللاعبين في السوق.

عملية مطولة

تحقق الجهة التنظيمية تقدماً بطيئاً في التعامل مع آراء السوق، لكنها قالت إنها ما تزال تستهدف إحراز بعض التقدم عبر طرح صيغة لمقترحها هذا العام. إذا دخلت الخطة حيز التنفيذ في هيئتها الحالية، تعتقد "مورنينغ ستار" أن 27% فقط من أصول الصناديق، التي تفوق قيمتها 4 تريليونات دولار وتُقدِّر الشركة أنها مدرجة تحت المادة 8، قد تُروج على أنها تتصف بالاستدامة.

لا يعني أي من ذلك أن الاستثمار في الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية أمرٌ محكوم عليه بالفشل. قال بيدرسن من "نورديا"، إنه عندما نُعيد تصور قوانين تخصيص رأس المال، يكون من الخطأ توقع أي نتيجة بخلاف عملية يطول أمدها.

في نهاية الأمر، سيكون الاهتمام بالتفاصيل، وفي قول آخر بالبيانات والشفافية، هو الفارق في استيعاب المستثمرين للمعنى الحقيقي لمفهوم الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية. لذا ينبغي للولايات المتحدة أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار.