تطوير الذكاء الاصطناعي للعقاقير قد يُدر 50 مليار دولار

الاستثمارات في شركات اكتشاف الدواء باستخدام الذكاء الاصطناعي ترتفع لثلاثة أضعاف على مدى أربعة أعوام

صورة تعبيرية عن استخدام الذكاء الاصطناعي في ابتكار الأدوية
صورة تعبيرية عن استخدام الذكاء الاصطناعي في ابتكار الأدوية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

عادة ما يتطلب اكتشاف دواء يجترح نجاحاً مبهراً سنوات من تحاليل مستفيضة في المعامل، فضلاً عن فرق باحثين تدقق البيانات ونتائج الاختبارات بشكل منهجي بحثاً عن عقار واعد.

لكن حين اشترت شركة "تاكيدا فارماسيوتيكال" اليابانية عقاراً لعلاج داء الصدفية مقابل أربعة مليارات دولار من شركة ناشئة في مدينة بوسطن الأميركية في فبراير؛ استطاعت الحصول على مرُكَّب انتقاه الذكاء الاصطناعي خلال ستة أشهر فقط.

سينتقل العقار، الذي اختير من بين آلاف الجزيئات الواعدة باستخدام الذكاء الاصطناعي وخوارزميات تعلُّم الآلة، إلى المراحل النهائية من التجارب السريرية خلال الأشهر المقبلة. إذا نجح العقار، فقد يصبح أحد العلاجات الأولى المستحصلة بمساعدة الذكاء الاصطناعي.

تشير تقديرات لمحللين في "جيفريز" (Jefferies) إلى أنَّه قد يُولِّد مبيعات سنوية بنحو نصف تريليون ين ياباني (3.7 مليار دولار).

رئيس "بيوجين" يريد عقاقير ريادية لكن ليس على حساب الربحية

يأتي مسعى صانعة الأدوية اليابانية فيما تتبنى شركات صناعة الأدوية على مستوى العالم الذكاء الاصطناعي، وذلك عبر إبرام صفقات مع شركات ناشئة تحسّن استغلال إمكانيات الحاسوب، وضم المزيد من علماء البيانات لفرقها.

تأمل تلك الشركات بأنَّ تخفض التكاليف وتسرع الوقت المطلوب لبلوغ العقاقير الأسوق. يُقدِّر "مورغان ستانلي" أنَّ استخدام الذكاء الاصطناعي على مدى العقد المقبل في المراحل الأولية من تطوير العقاقير قد يعني إضافة 50 علاجاً جديداً بمبيعات تتخطى 50 مليار دولار.

تشير تقديرات من شركة الأبحاث "ديب فارما إنتليجنس" (Deep Pharma Intelligence) إلى أنَّ الاستثمارات في شركات اكتشاف الدواء باستخدام الذكاء الاصطناعي ارتفعت إلى ثلاثة أضعاف خلال الأعوام الأربعة الماضية، وصولاً إلى 24.6 مليار دولار في 2022.

شراكات جديدة

في يناير 2022، وافقت "سانوفي" على دفع 100 مليون دولار مقدماً لشركة "إكسينتيا" (Exscientia)، ومقرها المملكة المتحدة، إلى جانب إمكانية دفع مبلغ أقصاه 5.2 مليار دولار على دفعات عند تحقيق إنجازات مهمة، وذلك لإجراء أبحاث على أدوية جديدة، وتطوير ما يصل إلى 15 عقاراً مرشحاً في علم الأورام وعلم المناعة باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

تعمل كل من "باير" (Bayer) و"روش هولدينغ" (Roche Holding) و"تاكيدا" مع "ريكرشن فارماسيوتيكالز" (Recreation Pharmaceuticals) في مدينة سولت ليك سيتي الأميركية لاستكشاف ابتكار أدوية باستخدام تعلُّم الآلة. كما، عقدت "أسترازينيكا" شراكة مع شركتي "بينيفولنت إيه آي" (BenevolentAI) في المملكة المتحدة و"إيلومينا" (Illumina) في مدينة سان دييغو الأميركية لذات الهدف.

قال أليكس ديفرسون، وهو شريك في "ماكينزي آند كو" (.McKinsey & Co) يقدّم المشورة لشركات صناعة الأدوية بشأن العمليات الرقمية والتحليلات: "عندما تطبق شركات الأدوية الحيوية الذكاء الاصطناعي بنجاح في البحث والتطوير، قد يكون هناك تأثير واضح. كما نتوقَّع خلال خمس سنوات أن تصبح هذه الأساليب من صلب عمليات البحث والتطوير في صناعة الأدوية، وتؤدي إلى مزيد من التأثير على نطاق واسع".

لا يلغي الدور البشري

برغم أنَّ الذكاء الاصطناعي قد يقدّم العون؛ ما يزال على العلماء بذل الكثير من الجهد التقليدي بعد اختيار الجزيء. تطلَّب جزيء "تاكيدا" سنوات من التجارب السريرية على البشر وفحوص أخرى، كما أنَّ للذكاء الاصطناعي حدوداً أخرى. فهو لا يستطيع، على سبيل المثال، التنبؤ بمكونات حيوية معقدة، مثل فاعلية المركَّبات وتأثيراتها الجانبية.

مع ذلك؛ فإنَّ استخدام التقنية لتحديد العلاجات القادمة التي ستحقق نجاحاً باهراً قد يساهم بالقضاء على قدر من التخمين الذي يتطلب عادةً مئات التجارب المعملية التي غالباً ما تمتد لعدة سنوات لتحديد الجزيئات الواعدة.

كيف نجحت شركة أدوية يابانية مغمورة في الفوز على مرض الزهايمر؟

ازدادت جديّة كبريات شركات صناعة الأدوية في الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتعلُّم الآلة بعد 2018، حين استخدمت وحدة "ديب مايند" (DeepMind) لدى "ألفابت" مالكة "غوغل"، برنامج "ألفافولد" (AlphaFold) للذكاء الاصطناعي للتفوق على عالِم أحياء في التنبؤ بشكل البروتينات، وهي وحدة البناء الأساسية للأمراض.

يساعد اكتشاف شكل البروتينات، وهي من أكثر المعضلات المحيّرة في علم الأحياء، الشركات الباحثة عن أدوية جديدة على تقليص عدد الجزيئات التي قد تتفاعل مع البروتينات وتحديد الأدوية المطلوبة لمهاجمة المرض.

يُكلف طرح دواء جديد في السوق نحو ثلاثة مليارات دولار عادةً، فيما تفشل قرابة 90% من الأدوية التجريبية. لذا يمكن للتقنية التي تُسرِّع العملية أن تصبح عاملاً محركاً كبيراً للأرباح.

يتطلب تحديد الهيئة ثلاثية الأبعاد لأحد البروتينات الآن بضع ثوان باستخدام "ألفافولد"، مقارنةً بأشهر أو سنوات عدّة، وفقاً لما نسبه موقع "ديب مايند" لإيريك توبول، مؤسس ومدير معهد "سكريبس ريسيرش ترانسليشنال" (Scripps Research Translational Institute) في كاليفورنيا.

قوارير من لقاح "كوميرناتي" من تصنيع "فايزر-بيونتيك" لفيروس كوفيد-19
قوارير من لقاح "كوميرناتي" من تصنيع "فايزر-بيونتيك" لفيروس كوفيد-19 المصدر: بلومبرغ

وتيرة متسارعة

سرّعت جائحة كوفيد-19 وتيرة استغلال شركات صناعة الأدوية للذكاء الاصطناعي، إذ سارع القطاع إلى تطوير أسلحة لمكافحة الفيروس المجهول. خلال فترة الجائحة؛ اتجه "فايزر" إلى الذكاء الاصطناعي لتطوير لقاح "كوميرناتي" (Comirnaty) لمكافحة فيروس كوفيد، وعقدت شراكة مع "بيونتيك" لتصنيعه.

كما توسّعت الشركة بشراكتها مع "إكستال باي" (XtalPi)، وهي شركة متخصصة في اكتشاف الدواء مقرها مدينة شينجنن الصينية، لتسريع الاستحضار الكيماوي لحبوب "باكسلوفيد" (Paxlovid) المضادة لفيروس كوفيد.

شركات الأدوية تجرب التصدي لألزهايمر قبل استحكامه

وافقت إدارة الدواء والغذاء الأميركية على الدواءين خلال أقل من عامين، وهي مدة أقصر بكثير من فترة 10 سنوات التي تتطلبها أغلب العقاقير للوصول إلى السوق. ساهمت في تسريع العملية أيضاً الجهات التنظيمية التي سارعت لتوفير أسلحة تكافح فيروس كوفيد للعامة.

سيكون عقار "تاكيدا" التجريبي، الذي اشترته من شركة "نيمبس ثيرابيوتيكس" (Nimbus Therapeutics) التي تتخذ من بوسطن مقراً بها، أحد العلاجات الفموية القليلة في العالم لعلاج داء الصدفية، وهو مرض جلدي يعانيه 125 مليون شخص حول العالم. يمكن لهذا العقار معالجة أمراض أخرى أيضاً، مثل داء كرون، وهو أحد أنواع أمراض الأمعاء الالتهابية.

نجح العقار، الذي يحمل حالياً اسم "تاك-279" (TAK-279)، في أول مرحلتين من مراحل التجارب على البشر. قال جيب كيبر، الرئيس التنفيذي لـ"نيمبس"، إنَّ الخوارزميات اختارت الجزيء الذي يُستخدم حالياً خلال نحو ربع المدة التي يتطلبها النهج التقليدي وتبلغ عامين.

مكتب "نيمبس ثيرابيوتيكس" في بوسطن بولاية ماساتشوستس
مكتب "نيمبس ثيرابيوتيكس" في بوسطن بولاية ماساتشوستس المصدر: بلومبرغ

فتوحات علمية

قال كيبر إنَّ العلماء الذين يفحصون المواد الكيماوية في الدوارق يحتاجون "عدداً كبيراً" من فحوص الجزيئات، وبدلاً من الحاجة لفحص عشرات آلاف المركّبات؛ تقترح أجهزة الكمبيوتر فحص 10 مركّبات في المختبر، ثم الحصول على معلومات من نتائج المختبر. تتعلم الآلات من تلك النتائج لتقدم توقُّعات أفضل لترشيح المركّبات المئة التالية لفحصها، واختيار جزيء واحد في نهاية المطاف.

يقضي أكثر من 500 خبير تقنية وعالم، ممن يعتمدون المنهج الكمّي في مراكز الأبحاث والتطوير لدى "تاكيدا" من بوسطن إلى سان دييغو إلى شونان في اليابان، أيامهم حالياً بتجهيز البيانات لاكتشاف أدوية تحقق فتوحات علمية جديدة وتطويرها وتصنيعها.

تستخدم صانعة الأدوية الذكاء الاصطناعي، وتعلُّم الآلة لتحديد أفضل الجزيئات لاستهداف البروتينات ولفهم خصائص الأمراض وكيفية تنوعها في مختلف مجموعات المرضى. تعمل الشركة مع معهد "ماساتشوستس" للتقنية وعدد من شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة.

تقول آن هيذرينغتون، رئيسة معهد "تاكيدا" لعلم البيانات: "أي تقنية تفتح المجال لاكتساب موظفينا مهارات متطورة وتقلّص الأشغال اليدوية واستبعاد المشاكل الموجودة في النظام، وتتيح مزيداً من الوقت لتحقيق قدر أكبر من المعرفة المتعمقة والاكتشافات على الصعيد العلمي؛ هي تقنية حيوية".

انضمام المنافسين

يستفيد منافسو "تاكيدا" الأكبر من الذكاء الاصطناعي أيضاً. قالت ليديا فونسيكا، الرئيسة التنفيذية للتقنية والرقمنة لدى "فايزر"، إنَّ شركتها تتوقَّع إبرام شراكة مع برنامج "ألفافولد" التابع لـ"ديب مايند" لمساعدة الشركة على وضع أهداف علاجية عالية الكفاءة لم تكن معروفة من قبل، والتحقق من فعاليتها.

قالت: "استخدمنا إمكانيات قوية في الحوسبة الفائقة مع نماذج الذكاء الاصطناعي، وتعلُّم الآلة لخفض إجمالي زمن المعالجة بما بين 80% و90%، وقد ساعد هذا على تسريع إقرار عقار (باكسلوفيد)".

شركة ناشئة تزمع إنتاج أدوية في مدار الأرض

لقد دخلت عدة عقاقير تعكف شركات ناشئة على تطويرها باستخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف أنحاء العالم مرحلة التجارب على البشر. تشمل تلك العقاقير خمسة من شركة "ريكرشن فارماسيوتيكالز" للأمراض النادرة والأورام، وثلاثة من "إكساينتيا" لأمراض مثل السرطان، واضطراب الوسواس القهري.

ثمة عقار لدى شركة "إنسيليكو ميدسن" (Insilico Medicine)، ومقرها هونغ كونغ، وهو قيد الاختبار في منتصف مراحل التجارب على البشر لعلاج أكثر أنواع التليّف الرئوي شيوعاً.

تُشغل "غلاكسو سميث كلاين"، التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً، أكثر من 160 خبيراً متفرغاً للذكاء الاصطناعي وتعلُّم الآلة، لدعم الأبحاث والتطوير والتصنيع في الشركة. قال كيم برانسون، الذي تولّى رئاسة قسم الذكاء الاصطناعي في "غلاكسو سميث كلاين" منذ 2019، إنَّ الشركة تولِّد بيانات لبناء نماذج تعلُّم الآلة الخاصة بالشركة وتغذيتها، لكي يصبح بإمكان كل عالِم الاستفادة من البيانات التي توصلت إليها الشركة في الماضي.

روبن لي، الرئيس التنفيذي لشركة "بايدو" يتحدث في إحدى فعاليات الشركة في 16 مارس 2023
روبن لي، الرئيس التنفيذي لشركة "بايدو" يتحدث في إحدى فعاليات الشركة في 16 مارس 2023 المصدر: بلومبرغ

مساعي الصين

تستهدف الصين استخدام الذكاء الاصطناعي أيضاً لتعزيز تنافسية شركات صناعة الأدوية في البلاد على مستوى العالم. تموّل عملاقة التقنية الصينية "تينسنت" شركة "إكستال باي" جزئياً، فيما أسّس روبن لي، الرئيس التنفيذي لـ"بايدو"، شركة "بايوماب" (BioMap) المتخصصة باكتشاف عقاقير اعتماداً على الذكاء الاصطناعي.

قال برانسون، الذي يعمل في "غلاكسو سميث كلاين"، إنَّه برغم قدرة الذكاء الاصطناعي الممتازة على الربط بين البيانات المستخرجة من مصادر متباينة؛ فإنَّ الأمور تصبح شائكة حين يُستخدم الذكاء الاصطناعي في أنظمة معقدة. يوضح برانسون أنَّ التجارب المعملية تصبح ضرورة في الأغلب لضمان السلامة.

كتب باحثون في جامعة ستانفورد، في دراسة منشورة بمجلة "نيو إنغلاند جورنال أوف ميدسن" (New England Journal of Medicine) العلمية في 2018، أنَّ البيانات المستخدمة لإعداد الخوارزميات قد تنطوي على انحياز ربما ينعكس في التوصيات السريرية التي تولِّدها البيانات. وجد الباحثون أنَّ الخوارزميات قد تُغيِّر النتائج أيضاً، بحسب الطرف المسؤول عن التطوير.

كل ذلك لا يصد الزيادة الكبيرة في الاستثمارات. يشير رَس ألتمان، أستاذ الهندسة الحيوية في جامعة ستانفورد، إلى ارتفاع أعداد أصحاب رأس المال الجريء ممن يطلبون تقييمات شركات اكتشاف الدواء المدفوع بالذكاء الاصطناعي على مدى السنوات الخمس الماضية تقريباً.

يؤدي ألتمان الفحص النافي للجهالة للشركات الناشئة في قطاع التقنية الحيوية لصالح أصحاب رأس المال الجريء منذ عقود. قال: "العدد ازداد من صفر إلى 100. لم أنجز أي فحص نافٍ للجهالة لشركات صناعة الأدوية المدفوعة بالذكاء الاصطناعي لمدة 30 عاماً. أما الآن؛ فقد أنجزت ما بين ستة وعشرة".