الاقتصاد العالمي يخسر تريليونات الدولارات بسبب ظاهرة "إل نينيو"

دراسة حديثة: 84 تريليون دولار خسائر الناتج المحلي الإجمالي القرن الحالي بسبب الظاهرة المناخية

بركة جفت بسبب موجة جفاف ناجمة عن ظاهرة "إل نينيو"، في مدينة جونز بمقاطعة إيزابيلا في الفلبين.
بركة جفت بسبب موجة جفاف ناجمة عن ظاهرة "إل نينيو"، في مدينة جونز بمقاطعة إيزابيلا في الفلبين. المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

قد يتمضخ عن قسوة الطقس المرتبطة بظاهرة "إل نينيو" أضرار تتسبب في خسائر بالمحاصيل وفيضانات وحرائق غابات واضطرابات أهلية، وعشرات المليارات من الدولارات في صورة تداعيات مباشرة على مدى شهور أو سنة.

تشير دراسة حديثة إلى أن التكلفة الحقيقية أعلى كثيراً –وتُقدر بتريليونات الدولارات– نظراً لأن المحاسبة التقليدية تخفق في تحديد أوجه الخلل الـ"دائمة" التي تلحق الناتج المحلي الإجمالي وتتكشف على مدى أعوام عديدة ومن الصعب التعرف عليها.

الورقة البحثية، التي أعدها عالما منظومة "دارتموث إيرث" (Dartmouth Earth) كريستوفر كالاهان وجوستين مانكين وصدرت يوم الخميس الماضي بمجلة "ساينس"، تأتي في توقيت ممتاز. أعلن مركز التنبؤ بالمناخ الأميركي في وقت سابق من الشهر الحالي احتمالات تتخطى 90% بأن ظاهرة "إل نينيو" ستحدث في وقت لاحق من العام الحالي. يمكن لهذه النوبات، التي تقع كل عدة أعوام، أن تجلب معها كافة الأمور بداية من طقس حار وجاف في أستراليا، وحرائق غابات في إندونيسيا، وأمطار بمنطقة شرق أفريقيا التي تعاني من الجفاف، وموسم أخف حدة من أعاصير الأطلسي، والعواصف الثلجية الشتوية بشمال شرق الولايات المتحدة، والحرارة المميتة للشعاب المرجانية.

حرارة الأرض

في ظل عالم أشد حرارة بنحو 12 درجة سلزيوس مما كان عليه قبل عصر النهضة الصناعية، تتسبب ظاهرة "إل نينيو" حالياً عملياً في ارتفاع درجة الحرارة إلى مستوى قياسي، وترى المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة أن هناك احتمالاً بنسبة 98% أن تكون إحدى الأعوام الخمسة المقبلة الأعلى حرارة في التاريخ المدون.

باتت ظاهرة "إل نينيو" -وهي من الناحية التقنية مرحلة أكثر دفئاً لمنطقة شرق المحيط الهادئ الاستوائي– نوعاً من الاستعراض السريع لبعض الأحوال الجوية القاسية التي ربما تجعل التغير المناخي مسألة شائعة خلال الأعوام المقبلة.

أستراليا تتوقع انخفاض صادراتها من القمح 20% بسبب الجفاف

تمحورت دراسة كالاهان ومانكين حول سؤال أوسع من الأضرار الجوية الفورية المُشاهدة، وهو كيف تؤثر التقلبات المناخية على النمو الاقتصادي؟ زودتهما ظاهرة "إل نينيو" بنوع من التجربة الطبيعية يمكن الاستكشاف بواسطتها، وهي فترة منفصلة من التغيير طويلة الأمد يمكنهما تتبعها عبر بيانات الأعوام اللاحقة.

يستخدم التحليل الجديد نموذجاً يقرن النمو الاقتصادي بالتقلبات المناخية خلال الفترة من 1960 إلى 2019 ويقارن نمو الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم قبل وبعد المجريات المرتبطة بـظاهرة "إل نينيو". تشير النتائج إلى تأثير "دائم" على النمو الاقتصادي للدول، لا سيما في بيرو، إذ اكتُشفت الديناميكية للمرة الأولى، بالإضافة للأجزاء المحيطة بالمناطق الاستوائية. ووجد الباحثان أن أحداثاً قوية بين 1997 و1998 هبطت بالناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 5.7 تريليون دولار وقلصت ظاهرة "إل نينيو" خلال 1982 و1983 النمو العالمي بقيمة 4.1 تريليون دولار.

أوضح كالاهان أن انخفاض النمو المتواصل بعد وقوع بعض الأحداث، خصوصاً في المناطق شديدة التأثر "تدل على وجود علاقة سببية بين ظاهرة (إل نينيو) وضعف النمو الاقتصادي".

أشار مانكين، الأستاذ المساعد بقسم الجغرافيا، إلى أن ظاهرة "إل نينيو" "لا تُعد مجرد أزمة تقع ثم تتعافى منها، بل أزمة ستغير مسار النمو بصورة دائمة، من وجهة نظرنا".

الأثر الاقتصادي

قال المؤلفان إن نتائجهما تنطوي على تداعيات عديدة. أولها الاعتراف الجديد من نوعه بمدى حساسية الدول للتقلبات المناخية الطبيعية، حتى دون النظر لظاهرة الاحتباس الحراري. وكتبا أن الطقس القاسي محلياً المرتبط بظاهرة "إل نينيو" ينعكس إجمالاً "في تأثير اقتصادي كلي دائم عالمياً، ما يعني ضمنياً تكبد خسائر هائلة لم تُقدر حق قدرها".

ناقش الباحثان على مدى أعوام العلاقة بين الكوارث والنمو الاقتصادي. ربما لا يكون لبعض الكوارث، بسبب ما يُسمى "أثر التعادل"، أي أثر طويل الأمد على نمو الناتج المحلي الإجمالي. ربما تهب عاصفة وتدمر العقارات المشمولة بالتأمين، الأمر الذي يفاقم نفقات إعادة الإعمار، ويولد وظائف أكثر ونشاطاً اقتصادياً بوتيرة عادية أو أكثر مما كان قد يحدث لولا ذلك، وفق منهجية التفكير هذه. أوضح فريق "دارتموث" السنة الماضية أن موجات الحرارة لكل حالة فردية لها آثار مؤقتة.

تغير المناخ يخفض ناتج أميركا اللاتينية 20% بحلول 2100

تصنف ورقة كالاهان ومانكين البحثية الحديثة ظاهرة "إل نينيو" في فئة مختلفة، وهي فئة "أثر النمو"، حيث تتراكم الأضرار بوتيرة أهدأ على مر الأعوام. فلا يسترد الناتج المحلي الإجمالي معدل نموه الأصلي. ويُعزى ذلك جزئياً إلى أن الأضرار المرتبطة بها لا يمكن ملاحظتها بسبب صغرها مقارنة بالمباني المدمرة والسواحل المغمورة بالمياه. أعلى الأضرار تكلفة لا يمكن ملاحظته بحواس الإنسان. وفي مثال على ذلك، رصدت دراسة اقتصادية تعود لـعام 2022 شملت 40 سنة من هطول الأمطار تأثيراً هائلاً وغير مرئي. فرغم الفوائد الزراعية العامة للأحوال الجوية الأعلى رطوبة، فإن أسبوعاً أو أسبوعين من هطول الأمطار يمكن أن يحد من الناتج الاقتصادي الإجمالي بما يصل إلى 1%، لا سيما في الدول المتقدمة. بينت دراسة أخرى أن الأعاصير تظل قادرة على إضعاف النمو الاقتصادي بعد 20 سنة. إن مثل هذه التغيرات التدريجية الصامتة هي التي تساهم بالجزء الأكبر من أضرار ظاهرة "إل نينيو".

يؤكد أندرز ليفرمان، رئيس قسم علوم التعقيد بمعهد "بوتسدام" لبحوث تأثيرات المناخ (Potsdam Institute for Climate Impact Research)، المشارك في كتابة الورقة البحثية حول هطول الأمطار خلال 2022، ولا علاقة له بتقرير بتقرير "دارتموث" الجديد: "إن الدراسة قيّمة للغاية. إنها تكشف فعلاً مدى أهمية المناخ، وأنه لا يتعلق فقط بالشعاب المرجانية أو التنوع البيولوجي. إنه مهم للاقتصاد".

سيناريوهات مستقبلية

يتطلع كالاهان ومانكين أيضاً إلى سيناريو لمستقبل المناخ، اختير هذا السيناريو لأنه يواكب تقريباً تعهدات السياسة الوطنية الحالية، حسبما كتبا. يستخدمان أحدث النماذج العالمية المحدثة للمناخ لتصور ماهية الأضرار الناجمة عن ظاهرة "إل نينيو" والتي تراكمت خلال القرن الحالي، وربما تبلغ تكلفتها 84 تريليون دولار أو 1% خصماً من الناتج المحلي الإجمالي.

تحمل هذه التصورات قدراً من عدم اليقين أشد مما يظهره التحليل التاريخي. ويعزى ذلك لعدم اتفاق العلماء حتى الآن على ما قد تفعله أو لا تفعله ظاهرة الاحتباس الحراري ويؤثر على وتيرة وقوة دورة "إل نينيو"، والتي تمثل مع نظيرتها، ظاهرة "النينيا"، الأشد برودة، ما يطلق عليه تأرجح "إل نينيو" الجنوبي، المعروفة اختصاراً (ENSO). تبين غالبية النماذج المناخية وليس جميعها أن ظاهرة "إل نينيو" ستكون أسوأ، ما يثير حالة من عدم اليقين بالنسبة لمتوسط الأضرار المتوقعة وهو ما يُعد جديراً بالملاحظة.

يختتم مانكين: "يشكل هذا الأمر قدراً من التعقيدات الحقيقية، ولكن ما هو مؤكد أن حدوث موجات من "إل نينيو" سيستمر مستقبلاً. وعندما تقع سينجم عنها هذه التأثيرات باهظة الكلفة بشدة والتي نفهمها حالياً بطريقة أفضل".

أوصيا في ورقتهما البحثية بضخ استثمارات أكثر في التكيف مع طقس ظاهرة "إل نينيو"، حيث إن دولاً عديدة على ما يبدو لم توفق أوضاعها مع المناخ الحالي.