محافظو بريطانيا يراهنون بمستقبلهم على التشديد ضد الإضرابات

حكومة المحافظين تقترح مشروع قانون يزيد من صلاحياتها في مكافحة الإضرابات وسط تأييد شعبي للمضربين

بات كولين من الكلية الملكية للتمريض مع متظاهرين آخرين
بات كولين من الكلية الملكية للتمريض مع متظاهرين آخرين المصدر: زوما برس
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

حين أضرب الممرضون في بريطانيا عن العمل هذا الشهر، رفعوا لافتات وغنّوا أغنيات منها ما يتناول الاستمرار برغم الشدائد، كما ردّدوا شعارات مناوئة لحزب المحافظين الذي وجدوا أنَّه لم يترك لهم أي خيار آخر سوى الإضراب.

هتف المعتصمون من على سلالم مستشفى كلية لندن الجامعية "ماذا نريد؟ الأجور العادلة!... كيف نحصل عليها؟ بالإضراب!"

كان ذلك في الأول من مايو، عيد العمّال العالمي الذي تحتفل به معظم دول العالم، باستثناء الولايات المتحدة التي سمته "يوم الوفاء" منذ أيام الحرب الباردة. أطلق سائقو سيارات الأجرة والشاحنات والحافلات العنان لأبواق مركباتهم تحيةً للممرضين، كما أعرب المارّة عن دعمهم لهم برفع الإبهام تأييداً مع تلامس قبضات الأيدي.

هنّأت رئيسة نقابة الممرضين في كليّة لندن الجامعية بات كولين المحتشدين، قائلةً: "أنتم مدهشون جداً"، وذلك قبيل أخذ صورة جماعية للممرضين الذين لم يسبق أن أضربت نقابتهم يوماً قبل نهاية العام الماضي حين انضمت إلى أكبر موجة إضرابات تشهدها البلاد منذ عقود، وأضافت كولين "فلنستمر بإعلاء الصوت".

النموذج الأميركي

الامتناع عن العمل هو الأسلوب التقليدي الذي تتبعه القوى العاملة لإجبار أصحاب العمل (والجميع) على سماع صوتها، لكنَّ حكومة المملكة المتحدة تسعى إلى وضع العصا في العجلة. فقد تحججت حكومة حزب المحافظين بأنَّ الإضرابات تعرقل تقديم خدمات أساسية، وهي تسعى بالتالي إلى تمرير مشروع قانون يضمن الحفاظ على "حدّ أدنى من الخدمة" خلال فترة الإضرابات.

في حين يرى مؤيدو حزب المحافظين أنَّ مشروع القانون سيحدّ من الفوضى ومن قدرة النقابات على ارتهان البلاد، حذّر حزب العمّال من أنَّ المشروع يهدف إلى كمّ أفواه العمّال، ويشكّل انتهاكاً لحقوق الإنسان. لكنَّ الجانبين يتفقان على أنَّ مشروع القانون سيجعل بريطانيا أشبه بالولايات المتحدة.

قال أمين عام اتحاد النقل الذي يقف وراء العديد من إضرابات السنوات الماضية: "أخشى فعلاً من السير في هذا الاتجاه، فانهيار قوّة النقابات الأميركية أدى لإفقار كثير من الناس".

قال مادسين بيري، رئيس معهد "آدم سميث" في لندن المؤيد للسوق الحرّة، إنَّ التصدّي "للنقابات المتشددة" يصبّ في مصلحة الحكومة، مشيراً إلى سجلَي رونالد ريغان ومارغريت تاتشر. وأوضح أنَّ ذلك سيؤدي إلى "الحدّ من القدرة التفاوضية للنقابات، لأنَّ التهديد بتعطيل الخدمات بالكامل هو ورقة ضغطها على الحكومة".

إضرابات الممرضين والمسعفين تفاقم أزمة القطاع الصحي البريطاني

تخضع حقوق العمّال في بريطانيا لقيود أكثر من معظم أرجاء أوروبا، ولكنَّها أقلّ من الولايات المتحدة، حيث يخضع معظم العمّال هناك إلى مشيئة صاحب العمل الذي يمكنه تسريحهم لأي سبب.

في حين أنَّ لدى موظفي القطاع الخاص الذين يضربون عن العمل في الولايات المتحدة حماية قانونية من الصرف من الخدمة؛ لكنْ غالباً ما يمكن "استبدالهم بشكل دائم"، والأمران لا يختلفان كثيراً إذا كنت أنت من ستفقد وظيفتك.

يُلزم عمّال النقل في القطاع الخاص بالحصول على إذن من لجنة حكومية قبل الامتناع عن العمل، وحتى إذا حصلوا على الضوء الأخضر من اللجنة؛ يمكن للكونغرس التدخل من أجل منع الإضراب، كما فعل مع عمّال سكّة الحديد في العام الماضي.

زدّ على ذلك أنَّ الإضراب محظور على كثير من الموظفين الحكوميين، كموظفي شركة البريد الأميركية، والأساتذة في فلوريدا. كذلك تمنع القوانين قادة النقابات العمّالية في الولايات المتحدة من تأييد الامتناع عن العمل من دون ترخيص أو حتى التغاضي عنه.

تحديد المشاركين

في حين تصعّب القوانين البريطانية المعاقبة على الإضرابات بالمقارنة مع الولايات المتحدة؛ فإنَّ الفجوة بين الدولتين راحت تضيق مؤخراً. ينص قانون بريطاني صدر في 2016، بأنَّه يجب التصويت على الإضراب عبر البريد في غضون ستّة أشهر قبل موعده، وذلك بمشاركة معظم العمّال، ويتعين إشعار الإدارة قبل أسبوعين من امتناع العمّال عن العمل.

لكنَّ مشروع القانون المناهض للإضرابات الذي اقترحه حزب المحافظين سيقوّض نفوذ النقابات أكثر بما أنَّه يعطي الحكومة صلاحية أوسع لتحديد الأشخاص الذين يمكنهم الإضراب، مما يمنحها بالتالي القدرة على التأثير على فعالية هذه الإضرابات.

بموجب مشروع القانون الذي يشمل موظفي قطاعات الطاقة النووية وحراسة الحدود والإطفاء والتعليم والنقل والرعاية الصحية؛ يحقّ لأصحاب العمل تحديد العمّال الذين يجب أن يواصلوا عملهم، وما يجب عليهم فعله لضمان استمرار المواطنين بالحصول على "حدّ أدنى من الخدمات" بموجب القواعد التي يحددها الوزراء. في حال لم يلتزم الإضراب في الحفاظ على حدّ أدنى من الخدمة؛ يمكن تسريح الموظفين المشاركين وتكبيد نقاباتهم غرامات طائلة.

القطاع الصحي في بريطانيا يدخل غرفة الإنعاش بأزمة هي الأكبر في تاريخ البلاد

كتب متحدث باسم وزارة الأعمال والتجارة في بيان عبر البريد الالكتروني: "يهدف هذا التشريع إلى حماية حياة المواطنين، ومصادر رزقهم، وضمان استمرارهم في الحصول على الخدمات العامة الأساسية". كما قال ديفيد سيموند، النائب عن حزب المحافظين إنَّه من المنطقي ضمان استمرار أعمال الحكومة بغض النظر عن النزاعات القطاعية، مشيراً إلى أنَّه لا يحق للجميع الإضراب، كما أنَّ "وظيفة الحكومة تتمثّل في السعي لإقامة توازن".

تقول النقابات إنَّ لديها تدابير لمعالجة حالات الطوارئ الحقيقية خلال الإضرابات، وتعتبر أنَّ المحافظين الذين يتولّون السلطة منذ أكثر من عشر سنوات هم من يحرمون المواطنين من "الحدّ الأدنى من الخدمات" بسبب عدم تمويلهم الكافي لهيئة الخدمات الصحية الوطنية وغيرها من أجهزة الدولة.

قالت طبيبة الطوارئ جوانا سوتون-كلاين إنَّ الامتناع عن العمل يمنح الأطباء النفوذ للمطالبة باتباع تدابير السلامة وزيادة الأجور، وهو ما يعدّ ضرورياً من أجل توظيف الأطباء والإبقاء عليهم، فيما يواصل كثير من زملائها الانتقال إلى أستراليا بحثاً عن مردود أفضل.

طبيبة قسم الطوارئ والقيادية النقابية جوانا سوتون- كلاين أمام مستشفى مانشستر الملكي
طبيبة قسم الطوارئ والقيادية النقابية جوانا سوتون- كلاين أمام مستشفى مانشستر الملكي المصدر: بلومبرغ

تراجع شعبية المحافظين

قالت سوتون-كلاين، عضوة اللجنة التنفيذية لنقابة الأطباء إنَّه من دون القدرة على القيام بإضرابات فعّالة، لن يتبقى للأطباء خيارات كثيرة كي يحدوا من استنزاف هيئة الخدمات الصحية الوطنية التي تعاني من أكثر من 100 ألف وظيفة شاغرة. أضافت: "لن يكون هناك أي دافع لأصحاب العمل كي يلبّوا مطالبنا، إلا إن رغبوا بذلك".

نظراً لحيازة حزب المحافظين على غالبية 64 مقعداً في البرلمان؛ يُرجح تمرير مشروع القانون بصورة ما خلال الأشهر المقبلة. ولكن يصعب توقُّع كم من الوقت سيظلّ هذا القانون نافذاً، وكيف سيؤثّر على الحظوظ السياسية للحزب الذي يُتوقَّع أن يخسر الأغلبية البرلمانية في الانتخابات المرتقبة هذا العام.

لقد أظهرت البيانات الأخيرة من شركة "يوغوف" (YouGov) أنَّ 31% من المستطلعين يرون أنَّ رئيس الوزراء ريشي سوناك يبلي بلاء جيداً، مقارنةً مع 51% يرونه مخفقاً.

يمكن لتعاطف الناخبين مع المضربين عن العمل أن يصبّ في مصلحة حزب العمّال، الذي على الرغم من تجنّبه الإعلان عن دعمه الامتناع عن العمل؛ لكنَّه تعهد بإلغاء مشروع القانون المناهض للإضرابات.

قال جاستن مادر، وزير الظلّ في الحزب لشؤون مستقبل مسائل العمل: "سنلغي القانون إذا ما وصلنا إلى الحكومة"، معتبراً أنَّ النهج الذي يسلكه حزب المحافظين أشبه "بالنظام الاستبدادي".

واجه مشروع القانون اعتراضات أيضاً من أطراف غير متوقَّعة، فمجلس اللوردات البريطاني الذي ليس له كلمة الفصل في القضية، ولكن بإمكانه اقتراح بعض التعديلات، صوّت لصالح اقتراحات بتعديلات كبرى على مشروع القانون.

قال ريتشارد بالف، المحافظ المؤيد للنقابات في مجلس اللوردات، إنَّ "فلسلفة الحزب المحافظ تقوم على عدم التدخل في الأعمال العادية اليومية"، معتبراً أنَّ سعي الحكومة لتحديد الطيارين الملزمين بمخالفة الإضراب يهدد بكارثة، واصفاً مشروع القانون بـ"الفوضوي".

إلى ذلك، أصدرت اللجنة البرلمانية المشتركة لحقوق الإنسان تقريرها في مارس الذي اعتبرت فيه أنَّ بنود مشروع القانون تتعارض مع معايير حقوق الإنسان الأوروبية. وحذّرت اللجنة في تقريرها من أنَّ مشروع القانون سيمكّن أصحاب العمل من اتخاذ إجراءات انتقامية ضدّ الناشطين النقابيين من خلال مطالبتهم بالاستمرار في العمل خلال الإضرابات، وقد يشمل ذلك أعمالاً غير طارئة، مثل التعليم الخاص أو المعالجة المثلية.

قالت اللجنة إنَّه نظراً لأنَّ مشروع القانون لا ينطوي على تفاصيل محدّدة؛ فإنَّ السلطات التي تتمتع بها الحكومة ستكون "غير محدودة على أرض الواقع". لكنَّ المحافظين الداعمين لمشروع القانون يرون أنَّ بريطانيا ليست مضطرة لدخول منافسة على الشعبية مع دول أوروبا، لا سيّما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.

تأييد للمضربين

مارغريت تاتشر، إحدى أبرز رموز حزب المحافظين، انتُخبت رئيسة وزراء للمرّة الأولى في 1979 جزئياً بفضل تقديم نفسها كمدافعة عن المواطنين المرهقين ضد النقابات ذات المطالب غير المنطقية. لكنَّ استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت أنَّ معظم المواطنين يدعمون الموظفين المضربين، مما قد يظهر ربما تقديراً للعمّال الأساسيين، واعترافاً بمدى تخلّف الأجور عن مواكبة مستويات التضخم.

كان استطلاع أجرته مؤسسة "إبسوس" في مارس قد أظهر أنَّ 60% من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع يدعمون إضراب الممرضين، وفي استطلاع آخر يعود إلى أبريل؛ قال 52% من أولياء الأمور إنَّهم سيدعمون الأستاذة في إضرابهم (لكنَّ إضراب قطاعات الخدمات المدنية لم يلقَ القدر نفسه من التأييد في استطلاع مارس، إذ نال تأييد 33% من المستطلعين، مقارنة بمعارضة 38% منهم).

قال ستيفن كوستشين، الأستاذ المحاضر في كلية إدارة الأعمال في جامعة مانشستر، إنَّ المحاولة الحالية للسيطرة على النقابات "أشبه بمقاربة مقنّعة لسياسات الثمانينيات... اللافت هو أنَّني لا أظن أنَّها تحقق نجاحاً".

لا يقي منع الإضرابات دائماً من تعطيل العمل، كما أثبتته إضرابات عديدة قام بها موظفو قطاع النقل والأساتذة طوال العقود الماضية في نيويورك. قال أوناي كساب، المسؤول في اتحاد "يونايت" (Unite)، أحد أكبر الاتحادات النقابية في بريطانيا الذي يضمّ في صفوفه موظفين في مجال الرعاية الصحية واللوجستيات إنَّه في حال تمرير قانون مكافحة الإضرابات البريطاني؛ "فسنجد طريقة للالتفاف عليه"، منها تنسيق الالتزام التام بالقواعد التعاقدية، مما قد يؤدي إلى إبطاء العمل بشكل كبير.

كذلك يمكن للعمّال أن يتحدّوا القانون من خلال التوقف عن العمل بشكل غير قانوني، بحسب جون ماكدونال، الذي عمل مستشار ظلّ لصالح رئيس حزب العمال اليساري السابق جيريمي كوربين، معتبراً أنَّه "حين يكون الناس غاضبين بما فيه الكفاية، فهم يتجاهلون القانون".

تمسك بحق الإضراب

يرى كلايتون كلايف، موظف سكّة الحديد والقيادي النقابي المحلي في مانشستر، أنَّ كثيراً من الموظفين قد يرتدعون عن المشاركة في الإضرابات إذا لم يكونوا على ثقة بأنَّ وظائفهم بأمان. أضاف: "إذا ما فقدت وظيفتي، لن أتمكّن من إيجاد وظيفة أتقاضى فيها أجراً مماثلاً"، مع ذلك؛ قال إنَّه لن يخالف أي قرار بالإضراب حتى لو أجبرته الحكومة، مضيفاً: "إذا قال لي أحد ما إنَّ عليك الذهاب إلى العمل بينما جميع زملائك في حالة إضراب؛ فلن أذهب".

صوّت جيمس بيثيل، وزير الصحة السابق وعضو الحزب المحافظ ضدّ التخفيف من حدّة مشروع القانون في مجلس اللوردات، ووصفه بـ"المسعى للتخفيف من قبضة النقابات الطبية"، مع ذلك؛ أعرب عن قلقه من أنَّ المسّ بالطريقة التقليدية التي يستخدمها موظفو هيئة الخدمات الصحية الوطنية لإعلاء صوتهم قد يكون له عواقب غير متعمّدة.

قال: "إذا حطمت النموذج الذي يتفاعل من خلاله مليون ونصف موظف في مكان العمل؛ فليس واضحاً بما سيستبدلونه، قد يكون هذا نصراً باهظ الثمن".

فيما كان إضراب الممرضين على وشك الانتهاء في الأول من مايو، كان إضراب الأساتذة على وشك أن يبدأ. احتشد المئات أمام مبنى وزارة التعليم في لندن في ظهر 2 مايو يحملون لافتات يدوية الصنع كُتبت عليها شعارات، مثل "موّلوا مستقبل أطفالنا"، و"لست مضطرة للزواج من ثريّ عجوز حتى أقدر أن أعلّم في لندن".

تحدّث الأساتذة والقادة النقابيون عن التزامهم بالسعي لتحصيل ظروف أفضل لطلابهم، وتصميمهم على الدفاع عن أي أستاذ يُسرّح من عمله بموجب قانون مكافحة الإضراب. كما حثّوا الناشطين على المساعدة لحشد مزيد من الدعم للإضرابات، مثل الامتناع المنسّق عن العمل في سبتمبر. نظرت كارلي سلينغسبي، وهي معلمة مدرسة ابتدائية كانت المتحدثة باسم المعتصمين إلى الحشد المتحمّس، وتعهدت قائلة: "لن نستسلم".