أبناء الأثرياء في الصين يحاولون تفادي غضب الحكومة

مدينة شنغهاي - الصين
مدينة شنغهاي - الصين المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

ارتبطت الصورة النمطية لأبناء الأثرياء في الصين على مرّ السنين بمظاهر الثراء الفاحش، والتي تظهر في أفعال مثل نشر صورهم بجانب سياراتهم الـ"بنتلي" أو الـ"لامبورغيني"، وعرض رزم الأموال على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تقديم ساعات أبل ذهبية إلى حيواناتهم الأليفة، أمّا اليوم، فباتت مثل هذه الاستعراضات للثروة استثناءً للقاعدة العامة.

فبالرغم من أن هذه الفئة الشابة من الأثرياء، لا يزالون يمتلكون الكثير من المنتجات الفاخرة، وهم قادرون على شراء السلع باهظة الثمن، ومن حين لآخر قد يثير أحدهم موجة استياء عارمة عبر قيادة لسيارته المرسيدس داخل المدينة المحرمة في الصين، فقد بدأ هؤلاء الأثرياء الشباب يقتنعون بأنه من الأجدى لهم الابتعاد عن الأضواء، بالأخص بعد استهداف حكومة الرئيس شي جين بينغ، أصحاب المليارات في السنوات الماضية.

الابتعاد عن الأضواء أفضل

وفي هذا السياق، قال تو هاوران، البالغ من العمر 32 عاماً، ومؤسس شركة "فانتزي انترتايمنت"، وهي إحدى كبرى وكالات التنسيق الموسيقي في الصين: "لقد تعلمنا أن نحسّن سلوكنا حين رأينا عائلات أصدقائنا تتعرض للملاحقة والسجن".

وأضاف "شاهدت العديد من هذه الحالات حولي منذ عام 2016، والآن يحاول الجميع أن يبقوا بعيدين عن الأضواء. ولا داعي لأن يعرف العالم بأسره بأنك تملك المال، فلا أدري بماذا سينفعك ذلك؟"

وتشير التوقعات إلى أن أوضاع فاحشي الثراء قد تتزعزع في الصين، بدءاً من جاك ما، ونزولاً.

ويرجح أن يصبح الاقتصاد الصيني أكبر اقتصاد في العالم في غضون عقد من الزمن، إلا أنه يتسم بانعدام المساواة، وهي مشكلة تفاقمت أكثر في ظلّ جائحة كورونا.

ويكثف الرئيس شي جهوده لتحقيق مساواة أكثر على صعيد توزيع الثروة في دولة يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة، وذلك بحلول عام 2022، وهو الموعد المرتقب للتغيير في القيادة الذي يحصل كلّ خمس سنوات. حيث يتوقع أن يحصل شي على ولاية رئاسية ثالثة.

وقال شي في أكتوبر 2020، خلال اجتماع ضخم للحزب الشيوعي مخصص لمناقشة الخطط الاقتصادية المستقبلية، إن التطور الذي حققته الصين "غير متوازن وغير كافٍ".

وشدد على أن "الازدهار المشترك" يجب أن يكون الهدف الأسمى الذي تضعه البلاد نصب عينيها فيما تتطلع إلى الذكرى المئوية الأولى لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 2049.

فئات ثرية وفقيرة

ويشكل تصريح شي نقطة تحوّل عن المسار الذي كان يتبعه سلفه دنيغ شياو بينغ، الذي لم يرَ مشكلة في تحقيق بعض الأشخاص "للثروة قبل غيرهم" حين أطلق إصلاحاته الاقتصادية المشجعة للسوق في الثمانينيات، والتي حوّلت الصين إلى قوة كبرى في مجال الصناعة. إلا أن دينغ كان قد شدّد حينها على كون الصين دولة اشتراكية، وبالتالي لا يمكن أن تضمّ فئات ثرية وفئات فقيرة إلى الأبد، ذلك بحسب ما قالت كبيرة الباحثين الاقتصاديين في "Enodo Economics"، ديانا شوليفا.

وأشارت إلى أنه اليوم في عهد شي، ما عادت الصين في "مرحلة التسرع للنمو"، وبالتالي "لم يعد من المقبول أن يزداد الأثرياء ثروة، فيما يبقى الفقراء على حالهم أو يزدادون فقراً".

ويطرح هذا الأمر مشكلة بالنسبة لأبناء الطبقة فاحشة الثراء، والذين يعرفون بالصين عادة بتسمية "فوريداي"، وقد طلب العديد منهم الإشارة إليهم بأسماء عائلاتهم فقط في المقابلات التي أجريناها معهم في خلال الأشهر الماضية.

وحقق آبائهم ثرواتهم في خلال فترة صعود الصين، حيث تمكنوا من الوصول مبكراً إلى الأسواق الخارجية، فاحتكروا صناعات جديدة، أو بنوا محفظة أعمال ضخمة في أسواق الأسهم والعقارات الناشئة، ففي ذلك الوقت، كان الجميع يزداد ثراءً، وقد نجحت عائلاتهم أن تسبق غيرها.

اليوم، تشير الأدلة إلى انفصال طبقي في الصين، وهو ما يطرح تحدياً جديداً أمام الحزب الشيوعي.

تفاوت ملحوظ في الثروة بالصين

وبحسب مؤشر تقارب الطبقات الاجتماعية التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي في يناير 2019، حلّت الصين في المرتبة 45 من أصل 82 دولة شملها التقرير، بعد الولايات المتحدة وروسيا ومعظم أوروبا.

وكان تقرير صادر عن مجموعة "كريدي سويس" قد حذّر في أكتوبر الماضي من "الارتفاع السريع" في التفاوت بالثروة في الصين إثر انتقال البلاد إلى اقتصاد السوق.

وبلغ عدد أصحاب الملايين في البلاد 5.8 مليون شخص، بنهاية عام 2019، فيما بلغ عدد السكان الذين تفوق ثرواتهم الـ50 مليون دولار 21100 شخص، وهو ما يضعها في المرتبة الثانية مباشرة خلف الولايات المتحدة لناحية عدد الأثرياء.

وترعرع معظم الـ"فوريداي" أو أبناء العائلات فائقة الثراء، في عزلة عن باقي فئات المجتمع. مثلاً هوانغ البالغ من العمر 25 عاماً، والذي يقول إنه لم يعِ قطّ أنه ثريّ جداً، إلا حين بدأ بالتخصص في دراسات التمويل بجامعة نيويورك، فرع شانغهاي.

وكان والده قد حقق مئات الملايين من خلال الاستثمار في شركات الرعاية الصحية التي ازدهرت في التسعينيات، لذا لم يكن هوانغ يلتقي إلا بأولاد آخرين من الخلفية الاجتماعية نفسها.

وقال "لقد صدمت، لم أكن أدري أنني بهذا الثراء، لست مضطراً للعمل طوال حياتي".

وبعد التخرج من الجامعة، أطلق هوانغ صندوقاً استثمارياً مع عدد من أصدقائه، بتمويل من ذويهم وبدعم من واحد من أكبر البنوك الاستثمارية في الصين، ويضمّ الصندوق أيضاً أبناء قياديين في الحزب الشيوعي. وعلى الرغم من امتلاك الجميع ثروات طائلة، إلا أن هوانغ شدّد على أن أولويته هي إثبات أنه الأفضل في مجاله.

وقال "في الماضي، اشتريت قميصاً من "ديور" لأنني اعتقدت أنه سيجعلني أبدو أكثر قيمة، ولكن اليوم أريد أن يصبح القميص أكثر قيمة لأنني أنا أرتديه".

وتابع: "الأولاد الأثرياء اليوم يختلفون كثيراً عن أولئك الذين ترعرعوا في الثمانينات، فمعظم المحيطين بي يدركون ما يفعلونه وهم ليسوا مجرد شباب يهدرون أموال آبائهم"

صعوبة تسلق السلّم الاجتماعي

ولكن بالنسبة لمعظم الصينيين الذين لا ينتمون إلى هذه الطبقة من الأثرياء، فإن تسلق السلّم الاجتماعي بات أصعب اليوم. فكما هو الحال في معظم الدول التي تشهد تطوراً، فإن الأثرياء يمكّنون أولادهم من الحصول على تعليم أفضل، ومن امتلاك العقارات، وهما الطريقان الرئيسيان نحو صعود السلّم الاجتماعي.

وبحسب تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية صادر عام 2018، فإن الشخص المولود في الطبقة الأفقر والتي تشكل 10% من السكان في الصين، يحتاج إلى سبعة أجيال حتى يقترب من تحقيق متوسط الدخل في البلاد، وذلك مقابل خمسة أجيال في كوريا الجنوبية وأربعة أجيال في اليابان.

وعلى الرغم من تحقيق الصين مراتب متقدمة على صعيد مؤشر الحصول على التعليم، الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي، إلا أن جودة هذا التعليم لا تزال سيئة في المناطق التي تقع خارج التجمعات الحضرية، كما لا تزال الرواتب منخفضة نسبياً بالنسبة لجزء كبير من السكان مقارنة مع الدول الأخرى.

وفي هذا السياق، تبرز مشكلة سياسية أكثر إلحاحاً بالنسبة لشي، تتمثل بمضاعفة مدخول الفرد من المستوى الذي كان مسجلاً عام 2010، وذلك قبل احتفال الحزب الشيوعي بالذكرى المئوية لتأسيسه في عام 2021.

وأعلنت الحكومة الصينية مؤخراً، أنها تمكنت من القضاء على الفقر المدقع في المناطق الريفية، على الرغم من جائحة كورونا التي أدت إلى تعميق الفجوة بين الفقراء والأثرياء.

وكان رئيس الحكومة الصيني لي كه تشيانغ، قد أبلغ المسؤولين في الحزب الشيوعي، في شهر مايو أن 600 مليون مواطن صيني، أي ما يقرب من نصف سكان البلاد، يعيشون بمدخول شهري يبلغ ألف يوان (150 دولار فقط)، وقد أثار إعلانه صدمة في بلد ينتج مليارديراً واحداً على الأقل في الأسبوع.

وعلى الرغم من أن الصين تمكنت من احتواء الفيروس مبكراً، ما مكّن اقتصادها من التعافي قبل الاقتصادات الأخرى، إلا أن عشرات الملايين من العمّال منخفضي الدخل، عانوا بشكل متفاوت.

وكان من اللافت عودة الإنفاق على المنتجات الفاخرة، أسرع من الإنفاق على السلع الأساسية مثل الطعام والأدوات المنزلية، وهو ما يشير إلى أن الأثرياء يتعافون بشكل أسرع.

وفي مواجهة العدائية المتزايدة التي تظهرها الولايات المتحدة تجاه الصين، يسعى شي اليوم إلى تدعيم الاقتصاد المحلي، وجزء من هذا المسعى يشمل استهداف تركز الثروة في قطاع التكنولوجيا، الذي بات يضمّ اليوم بعض كبار أثرياء الصين.

وحين حصد جاك ما، لقب ملياردير في عام 2014، أشادت به مواقع التواصل الاجتماعي الصينية لتمكنه من تحقيق الثروة وخلق فرص العمل. إلا أن مستخدمي الإنترنت بدوا سعداء، وحتى شامتين في نوفمبر، بعد تعليق الطرح الأولي العام لشركة "آنت غروب" البالغة 35 مليار دولار في اللحظة الأخيرة، وانتقدوا جاك ما، لتجرئه على تحدي الحكومة الصينية.

العبث مع الحزب الشيوعي

ويدرك معظم الـ"فوريداي"، أن العبث مع الحزب الشيوعي يعني فقدانهم لكلّ ما يملكوه، كما قد يؤدي بهم إلى السجن أو الاختفاء، كما حصل مع الممثلة فان بينغبينغ، التي اعتقلت سراً لعدة أشهر في عام 2018، على خلفية التهرب الضريبي، ومع ذلك، هم لا يعتقدون أن الحكومة ستتسرع في مصادرة أموالهم، مشيرين إلى خطابات شي الكثيرة التي شدد فيها على أهمية ريادة الأعمال في تحقيق النموّ.

وقال وانغ، وهو نجل مليونير في مجال الإعلام، فيما كان يرتشف الشمبانيا خلال مأدبة غداء في شنغهاي: "موقفي هو اتباع المسار الذي ترسمه الحكومة، أدرك أن مصيرنا مشترك".

وأضاف: "استمرت ثقافة كره الأثرياء لفترة طويلة في الصين، وذلك منذ بدء الثورة الثقافية"، في إشارة إلى الثورة السياسية التي استهدفت الطبقة النخبوية في ستينيات القرن الماضي، وأدت إلى تحول اقتصادي.

وتابع وانغ: "بالنسبة لي ولأصدقائي من أبناء هذا الجيل، ما يجمعنا هو أننا نرغب في جمع ثروتنا بأنفسنا، بدل الخوف من أن تسلب منا ثروات آبائنا".

أمّا والد وانغ فهو يحرص على إبقاء ابنه بعيداً عن الأضواء، فالشركات التي تنضوي تحت إمبراطورية والده لا صلة لها باسم وانغ، ويحرص الأب والابن على عدم ذكر علاقتهما على شبكات الإنترنت.

وأضاف وانغ، أن والده يعطيه مصروفاً "محدوداً" ولا يعطيه بطاقة اعتماد، كي لا ينفق بشكل باذخ ويلفت الأنظار إليه.

وكان شي قد أطلق في بداية ولايته الرئاسية حملة لمكافحة الفساد، ألقي في خلالها القبض على آلاف المسؤولين، بينهم عضو سابق في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، الهيئة الأعلى في النظام السياسي الصيني.

ومع ذلك، يرفض كبار المسؤولين في الحزب الشيوعي الدعوات التي تطلق من حين إلى آخر للإفصاح عن أصولهم، ولا يزال الكشف عن الثروات الشخصية لكبار المسؤولين موضوعاً حساساً لدى من هم في موقع السلطة.

هل تحل الضرائب مشكلة عدم المساواة؟

ويتم منذ سنوات دراسة مقترحات لفرض ضرائب على الميراث، أو ضرائب على العقارات والثروات، ولكن لم يتم تطبيق أي منها بعد، خوفاً من إلحاق الضرر بالطبقة الوسطى الناشئة في البلاد.

وبحسب شي فوزهان، رئيس الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وهي مؤسسة بحثية حكومية رائدة، فإن فرض مثل هذه الضرائب لن يحلّ مشكلة انعدام المساواة في الصين، مضيفا "برأيي، التحدي الأكبر هو كيفية جعل قطعة الجبنة أكبر، ونوزعها بشكل أفضل".

ومن جهتها، أشارت روبيرتا تشانغ، الشريكة في مكتب المحاماة "هوغان لوفيلز" في شنغهاي، إلى إن إعادة توزيع الضرائب قد يلحق الضرر بثروات الشخصيات العامة، أو يفضح ثرواتهم، وأضافت: "نعرف أن الأثرياء الصينيين، بالأخص المسؤولين الحكوميين يحبون شراء العقارات"، محذرة أنه "لابدّ من مراعاة الجانب السياسي لهذه القضية".

ومع ذلك، تراقب حكومة شي الأثرياء عن كثب أكثر من أي وقت مضى. وقد أنشأت أنظمة آلية لمراقبة التدفقات المالية، وفرضت تقديم كشوفات أكثر عند تحويل الأموال إلى الخارج، وهو ما يصعّب على الأثرياء الصينيين إخراج أموالهم من البلاد.

وبالرغم من ذلك، لا تزال تعتري هذه الإجراءات الكثير من الثغرات. حيث بإمكان الأثرياء الصينيين إنشاء صناديق ائتمانية، وتحويل أصول بمليارات الدولارات إلى أقاربهم، والحصول على جوازات سفر أجنبية.

ومن الأساليب المبتكرة التي يلجأ إليها أصحاب الشركات المدرجة في الصين، هي جعل وحداتها في هونغ كونغ تفلس، ومن ثمّ تقديم طلب للسماح لهم بضخ الأموال بفرع هونغ كونغ، من أجل تحسين سير العمل، وذلك بحسب ما كشفه موظف سابق في مصرف صيني مملوك من الدولة طلب عدم الكشف عن اسمه.

بينما قال رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ: إن أكثر من نصف سكان البلاد يعيشون بدخل شهري أقل من 150 دولار. تصوير: يان كونغ/ بلومبرغ

واليوم، بات حتى تحويل الأموال إلى الخارج مسألة محفوفة بالمخاطر، وذلك في ظلّ الشكوك التي يثيرها توسع الصين باتجاه الغرب في كلّ من الولايات المتحدة إلى أوروبا وأستراليا.

وبالنسبة للكثير من الـ"فوريداي"، مثل "تو"، مؤسس "فانتزي إنترتيمنت" فإن السبيل الأسلم له هو "أن نزاول عملنا، وندفع ضرائبنا، ونلتزم سلوكاً جيداً". وعلى الرغم من أن حلمه في تأسيس شركة تنشط في مجال التنسيق الموسيقي انطلق من حبه لحياة السهر والنوادي الليلية في خلال سنوات دراسته الجامعية، فهو اليوم يريد أن يُعرف فقط بتأسيسه لشركة تدرّ الربح.

وكان والد "تو" قد أعطاه مبلغ مليونيّ يوان (300 ألف دولار) ليؤسس شركته على الرغم من عدم موافقته على الفكرة في البداية، حيث اعتبرها محاولة من "تو" للاستمرار في حياة السهر تحت غطاء العمل. ولكن الشركة تحقق اليوم إيرادات تتجاوز الـ 12 مليون يوان في الشهر، بحسب ما قاله "تو"، وهو لم يعد مضطراً للاعتماد على عائلته مادياً.

وأضاف أخيراً: "الأشجار العالية هي أكثر عرضة للرياح، وهذا ما أخشاه اليوم"، في إشارة إلى المثل الصيني الذي يحذّر من لفت الأنظار، وتابع: "أن تكون ثرياً، ولكن ليس فاحش الثراء، هو الخيار الأكثر أمناً".