أطول موسم ملاحة في القُطب الشماليِّ ينبئ بكارثة بيئية

سفينة الأبحاث بولارستيرن أركتيك في أبريل 2020
سفينة الأبحاث بولارستيرن أركتيك في أبريل 2020 المصدر: معهد ألفريد فجنر للأبحاث القطبية والبحرية
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في ظلِّ تقلص الغطاء الجليدي في المحيط المتجمد الشماليِّ، سجَّل عام 2020 أطول موسم ملاحة بالنسبة لناقلات الغاز الطبيعي في القطب الشمالي، ما يؤشر إلى تسارع التغيُّر المناخيِّ في أقصى شمال الكرة الأرضية.

ويمتد الطريق البحري الشمالي على أكثر من 3 آلاف ميل بحري (1 ميل بحري = 1852 مترًا)‬ بين بحر بارنتس في غرب روسيا ومضيق بيرنغ في شرقها، ويكون سالكًا في العادة من شهر يونيو حتى شهر أكتوبر من كل عام، حيث يؤدي ارتفاع درجات الحرارة في هذه الفترة إلى ذوبان الجليد.

ولكن في عام 2020، بدأت الرحلات في شهر مايو، واستمرت حتى نهاية ديسمبر على الأقل. حيث سبب الارتفاع القياسي في درجات الحرارة باستغراق إعادة تكوّن الجليد وقتًا أطول في الخريف الماضي.

وعلَّقت سمانثا بروغيس، نائب مدير خدمة "كوبرنيكوس" لتغيُّر المناخ قائلة: "قد يكون عام 2020 نقطة تحوُّل بالنسبة للقطب الشمالي"، مشيرةً إلى أن "تلك السنة كانت استثنائية نسبيًا، بما أن الطقس الدافئ الأكثر من العادة، استمر طوال السنة، وهو أمر مثير للدهشة".

درجات الحرارة تسجل مستويات قياسية في 2020

ويُعتبر طول مدَّة موسم الشحن في القُطب الشماليِّ، إحدى العلامات الأكثر وضوحًا على ارتفاع درجة الحرارة في المنطقة القطبية بسرعة مضاعفة مرتين وأكثر، عن بقية أرجاء الكوكب.

ففي سنة 2020 التي يُعتقد أنها كانت بين أكثر ثلاث سنوات حرَّاً في التاريخ المعروف، هذا إن لم تكن الأكثر حرَّاً على الإطلاق، سجَّل القطب الشمالي الارتفاع الأعلى في درجات الحرارة، ما ينبئ بكارثة على الصعيد المناخي.

فدرجات الحرارة التي ارتفعت أكثر من 5 درجات مئوية عن معدَّلها الطبيعي في الأشهر العشرة الأولى من 2020، أدت إلى واحد من مواسم حرائق الغابات الأكثر انتشارًا.

كما أدى ارتفاع درجة الحرارة في الجو، إلى ارتفاع درجة حرارة المياه. كذلك، تقلَّص مدى الجليد البحري إلى أدنى معدَّلٍ مسجَّلٍ له في الفترة الممتدة من يوليو إلى أكتوبر 2020، ولثاني أدنى معدَّلٍ له في بقية العام.

هذا ويهدد ذوبان المناطق القريبة من الجليد، البنية التحتية الاستراتيجية الخاصة بالنفط والغاز، كما يهدد البنى التحتية المدنية في مناطق من شمال روسيا وكندا وألاسكا.

قطاع الغاز الطبيعي مستفيد من ذوبان الجليد.. ولكن ماذا عن الكوكب؟

إلا أن ذوبان الجليد الذي يهدد الكوكب، قد يعمل لصالح قطاع الغاز الطبيعي الذي تقدر قيمته بـ100 مليار دولار سنويًا، والذي يُعتبر القطاع الأسرع نموًا في مجال الوقود الأحفوري.

فمن أجل شحن الغاز الطبيعي عبر المحيط، أو إلى مسافات أبعد من تلك التي تصلها أنابيب الغاز، لابدَّ من تبريده على درجة ما دون الـ 160 درجة مئوية تحت الصفر، وذلك ليتحول إلى سائل.

وكان قطاع شحن الغاز الطبيعي المسال قد شهد فورة في السنوات الماضية، وازدادت السفن التي تنقل الغاز من حقول أفريقيا والشرق الأوسط وأستراليا نحو الأسواق المدرَّة للربح، بالأخص في آسيا.

ويسهم ذوبان الجليد في القطب الشماليِّ بتخفيض تكلفة الشحن، حيث يُجنِبُ السفن العبور عبر قناة السويس، أو الالتفاف حول أفريقيا.

وفي الغرب، بقي بحر "بارنتس"، وبحر "كارا"، خاليين من الجليد حتى شهر نوفمبر 2020، بحسب برنامج "كوبرنيكوس" للأقمار الاصطناعية المختصة بالمناخ التابع للاتحاد الأوروبي.

وفي الشرق، تقلص الغطاء الجليدي في بحر تشوكشي الفاصل بين روسيا وألاسكا بنسبة تتجاوز الـ45% بالمقارنة مع نهاية سبعينات القرن الماضي، وذلك وفقًا لـ"ريك ثومان"، الاختصاصي في الشؤون المناخية في مركز ألاسكا لتقييم المناخ والسياسات المناخية.

ويعني بقاء الطريق البحريِّ الشماليِّ مفتوحًا لفترة أطول، أنه يُمكن لناقلات الغاز الطبيعي المسال أن تستمر في التوجه مباشرة إلى آسيا، لتغذية قطاعيِّ الصناعة والطاقة في الصين واليابان وكوريا الجنوبية.

هذا وتسعى روسيا وقطاع الغاز الطبيعي المسال حاليًا إلى تمديد موسم الشحن من خلال الاستعانة بأكبر كاسرة للجليد في العالم ابتداءً من شهر أكتوبر القادم، لمرافقة ناقلات النفط لأشهر إضافية على امتداد السنة.

من جهتها، قالت "روس أتوم" (Rosatom)، مؤسسة الطاقة النووية الروسية المملوكة للدولة والمسؤولة عن إدارة الطريق البحري: "ممَّا لا شكَّ فيه أن بدء الملاحة مبكرًا، والاستمرار بها لوقت متأخر من العام، يُقربنا من تحقيق أحد الأهداف الأساسية للاستراتيجية التطويرية المرسومة للطريق البحريِّ الشماليِّ، ألا وهي تأمين الملاحة على طوال العام".

"أركتيكا" كاسرة الجليد العملاقة

وتتمتع كاسرة الجليد "أركتيكا" التي تعمل بالطاقة النووية بالقدرة على اختراق الجليد، الذي تصل سماكته إلى 2.9 متر، أي أكثر بالثلث مقارنة بالجيل الحالي من السفن التي يضمَّها الأسطول الروسي. وسيساعد ذلك شركة "نوفاتيك بي جي أس سي"، على نقل شحناتها من الغاز الطبيعي المسال من الحقول العملاقة في شبه جزيرة يامال في شمال روسيا نحو الأسواق العالمية.

وترافق كاسرة الجليد "أركتيكا" ناقلات الغاز الطبيعي المسال المصممة خصيصًا لعبور الجليد، حتى تساعد على فتح الطريق لها. وأشار استشاريون في شركة "إنرجي أسبكتس" إلى أن الرحلات نحو شمال شرق آسيا قد تصبح متاحة في الفترة من ديسمبر حتى نهاية أبريل.

ومن جهته، قال المدير المالي لـ"نوفاتيك" مارك غييتفاي في نوفمبر 2020، إنه في ظلِّ الارتفاع الاستثنائي في درجات الحرارة، سجَّل عدد الرحلات عبر الطريق البحريِّ الشماليِّ نحو آسيا رقمًا قياسيًا. حيث بلغ مجموعها نحو ثلاثين رحلة في عام 2020. وذلك أكثر بخمس مرات من العدد الذي كان متوقعًا سابقًا. وكان عدد الرحلات قد بلغ 17 في عام 2019، وأربع فقط في عام 2018. وبحسب الخطط الموضوعة، تنهي آخر سفينة رحلتها عبر القطب الشمالي نحو آسيا في شهر ديسمبر.

ويطرح قطاع الغاز، ومصدرو الغاز الطبيعي المسال هذا الوقود على أنه بديل أنظف من الفحم. وتقول "نوفاتيك": إن معمل الغاز الطبيعي المسال التابع لها، هو بين الأكثر كفاءة في العالم، وينتج أدنى مستوى من انبعاثات الكربون والميثان.

وتستخدم الشركة ناقلات نفط تعمل على الغاز الطبيعي المسال بدلًا من الوقود، ما يسهم في خفض التلوث الناجم عن سفنها بشكل كبير.

ولكن، على الرغم من أن كمية الكربون الناجمة عن الغاز هي أدنى من تلك الناجمة عن أي نوع آخر من الوقود الأحفوري، بدأ صنَّاع السياسات حول العالم في تشديد التدقيق على القطاع، وذلك للسعي إلى خفض الانبعاثات التي تُلحق الضرر بالغلاف الجويّ.

قلق بيئي من زيادة رحلات السفن عبر القطب الشمالي

وتُشكِلُ النجاحات التي يحققها قطاع الغاز الطبيعي المسال مصدر قلقٍ بالنسبة للعلماء، والمجموعات البيئية التي تخشى من "حلقة من الآثار المرتدة". حيث قد يسرِّع ازدياد عدد السفن، من ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة. حيث يكون ذلك من تبعات تكسير الجليد، وهو السطح الأبيض الذي يعكس ضوء الشمس ويساعد على تبريد الغلاف الجويّ، وحين يذوب، تحلُّ مكانه مياه المحيط الداكنة التي تمتصُّ أشعة الشمس.

وأشارت بورغيس إلى أن زيادة حركة الشحن في القطب الشماليِّ تتسبب بانبعاث المزيد من الغازات الملوثة، ما يؤدي إلى ارتفاع إضافي في الحرارة، والمساهمة في تسريع ذوبان الكتل الجليدية.

كما حذَّرت من أن تواجد السفن يزيد من خطر الحوادث والتسربات النفطية، في منطقة تعاني أصلًا من هشاشة التنوع البيولوجي.

وقالت: "ثمَّة اهتمام كبير باستغلال طرق الشحن هذه لكونها أكثر اختصارًا للوقت"، وشدَّدت على أهمية وضع سياسات تضمن القيام بذلك بطريقة "قانونية وآمنة، مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الأنظمة البيئية المعرضة لخطر".