فوائد إحداث دولار رقمي لن تطالك شخصياً

قد يؤدي استخدام تقنية تشبه "بلوكتشين" في التعامل بالدولار الرقمي إلى تسريع وتبسيط المعاملات بين المؤسسات العملاقة

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لم يعد هناك سوى قلة قليلة تتحدث عن الدولار الرقمي بعدما انشغلت واشنطن قبل عامين بفكرة استحداث الاحتياطي الفيدرالي لعملة رقمية لأميركا حين بلغت العملات الرقمية ذرواتها، وفيما كانت الصين تجرب العمل بنسخة رقمية من اليوان.

تبخر الحماس للفكرة حين بدأ الناس يفكرون بالتفاصيل. رغم أن الدولار الرقمي قد يتيح نظرياً إمكانية أوسع للوصول إلى النظام المالي، فإن استخدامه عملياً قد يتطلب هاتفاً ذكياً وارتباطاً مع أحد البنوك، وهذا ليس في متناول بعض الفئات محدودة الدخل.

كما احتجّت البنوك من أن توفير طريقة آمنة للمستهلكين لتخزين النقود الإلكترونية قد يؤدي لاستنزاف الودائع، ما قد يقوّض استقرار البنوك إن وقعت موجة ذعر مالي. وأشار ساسةٌ لمخاوف من مراقبة الحكومة للمعاملات على مستوى الافراد. وبالطبع أتى انهيار قطاع التشفير، فأفقد المال الرقمي بريقه.

قال ج. كريستوفر جيانكارلو، وهو رئيس سابق لمجلس إدارة لجنة تداول السلع الآجلة ومؤسس مشارك في "ديجيتال دولار فاونديشن" (Digital Dollar Foundation)، وهي جماعة مناصرة غير هادفة للربح: "ما يزال وعد الشمول المالي موجوداً، لكنَّ موجة الهوس بالأمر سبقت الواقع".

ج. كريستوفر جيانكارلو، الرئيس السابق لمجلس إدارة لجنة تداول السلع الآجلة والمؤسس المشارك في "ديجيتال دولار فاونديشن"
ج. كريستوفر جيانكارلو، الرئيس السابق لمجلس إدارة لجنة تداول السلع الآجلة والمؤسس المشارك في "ديجيتال دولار فاونديشن" المصدر: بلومبرغ

طفرة تقنية

لكن الفكرة لم تمت. أنت شخصياً قد لا تنفق دولاراً رقمياً واحداً، لكن قد نكون على وشك أن نشهد قفزة تقنية للأموال التي تتحرك بين البنوك المركزية والمؤسسات المالية الضخمة. تخيل هذا وكأنه دولار رقمي للتعاملات الكبرى. تجري مجموعة من الباحثين لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك وثلّة من البنوك الكبرى تجارب تحاكي المدفوعات الرقمية منذ فترة. أظهرت المجموعة بأكملها أنَّه يمكن استخدام تقنية على غرار "بلوكتشين" لتحويل الأموال بشكل شبه لحظي حول العالم على مدار الساعة وطوال العام.

تطورات الدولار الرقمي تثير المخاوف حول تتبع المعاملات

بشكل ما هذه الدولارات قد غدت رقمية، إذ لا تحتفظ المؤسسات بالمبالغ الكبيرة على هيئة أوراق نقدية، فهي ببساطة مجرد رقم في حساب مصرفي، ولا ينطوي تحويلها إلا على تغيير بيانات عبر كمبيوتر. لكن نقل الأموال عبر الحدود قد يكون بطيئاً جداً في بعض الأحيان، إذ تنطوي كل عملية منها على تسجيل تغييرات موازية في ما لا يقل عن ثلاث قواعد بيانات منفصلة تماماً عن بعضها البعض، وقد يربو عددها على ثلاث في كثير من الأحيان. قواعد البيانات الثلاث هذه تخص بنكين والاحتياطي الفيدرالي، ويتطلب ذلك إرسال سلسلة رسائل لطلب وتأكيد كل حين نقل الأصول من طرف إلى آخر.

رغم أن عديداً من التحويلات البنكية الدولية تتم خلال دقائق، فهي تتوقف تماماً خلال نهاية الأسبوع وفي الإجازات التي ترقبها أي من البلدان التي تلعب دوراً في التحويلات. تتطلب التحويلات من وإلى الدول الصغيرة فترات أطول عادةً، وذلك لأنَّ البنوك المحلية كثيراً ما تحتاج للعمل من خلال بنوك أكبر لديها حسابات في الاحتياطي الفيدرالي، وعادةً ما تكون تلك البنوك في دول منفصلة. كلما ازداد عدد البنوك الوسيطة والدول، يزداد معه احتمال تأخر إتمام المعامل بما يصل أحياناً لعدة أيام، كما تزداد مع ذلك نسبة وقوع خطأ ما.

تقليص هيمنة الدولار

كما يمثل هذا الأمر فرصة للدول الراغبة بتقليص هيمنة الدولار الأميركي في المدفوعات الدولية، والدولار عملة نحو نصف معاملات التجارة العالمية، كما أنَّ تفوق مكانة الدولار يساهم في انخفاض تكلفة الاقتراض في الولايات المتحدة، ويساعد في الحفاظ على استقرار العملة. كما أن مكانة الدولار تسهل تطبيق العقوبات الاقتصادية، بما أنَّ المعاملات الدولارية تمر في نهاية المطاف عبر بنوك تخضع للوائح تنظيمية أميركية.

تشمل جهود تسريع المدفوعات على المستوى العالمي "بروجكت إم بريدج" (Project mBridge)، وهي تجربة ينخرط فيها بنك الشعب الصيني والبنوك المركزية لكل من هونغ كونغ والإمارات وتايلندا. يختبر هذا المشروع، وهو الأكثر تطوراً من نوعه، طرقاً للتعامل مع معاملات بالعملات الأجنبية بعدة عملات رقمية.

هونغ كونغ تبدأ اختبار عملتها الرقمية مع شركات ومؤسسات مالية

قال جوش ليبسكي، المدير الأول لـ"جيو إكونوميكس سنتر" (GeoEconomics Center) التابع للمجلس الأطلسي في واشنطن: "المدفوعات الضخمة عادة عابرة للحدود... إن كنت قلقاً بحق بشأن دور الدولار في العالم، فإنَّ المشروع الذي يجدر بك التركيز عليه بشكل أكبر هو في الواقع مشروع المعاملات الضخمة لا الصغيرة".

يمثل تحويل الدولارات، التي تحتفظ بها البنوك التجارية كودائع في البنك المركزي، إلى رموز إحدى وسائل تسهيل المعاملات الضخمة، إذ يجري تحويلها إلى حزم رقمية تشبه "بتكوين" لكن دون إخفاء الهويات، الذي يجعل قطاع التشفير يحظى بشهرة كبيرة في التجارة غير المشروعة.

في جانبٍ من مبادرة باسم "بروجكت سيدار" (Project Cedar)، استخدم باحثون في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك احتياطيات محولّة إلى رموز في محاكاة لمعاملة بالعملة الصعبة مع البنك المركزي في سنغافورة، وفقاً لتقرير صدر في مايو.

تحويلات آمنة

يسمح تحويل عملة إلى رمز بنقل ملكية أصل والمعلومات المرتبطة به بأمان عبر الفضاء السيبراني، وتحويل احتياطيات البنوك المركزية إلى رموز أمر مهم، لأنَّ عمليات تحويل المبالغ بالدولار بين البنوك تُسوى لدى البنوك المركزية، إذ يخصم البنك المركزي مبلغاً من حساب بنك ليودعه في حساب بنك آخر.

في مسعى منفصل، يعمل خبراء من الاحتياطي الفيدرالي مع متخصصين من مؤسسات مالية ضخمة على تأسيس سجل رقمي مشترك يربط بين الاحتياطي الفيدرالي والبنوك. الفكرة في ذلك هي تأسيس شبكة يمكن عبرها تسجيل كل الخطوات التي تنطوي عليها معاملة واحدة، بما في ذلك التغيرات في حسابات العملاء، في الوقت ذاته.

تمثل القدرة على تحويل مبالغ بالدولار خلال ثوانٍ معدودة، وفي الوقت نفسه تقليل مخاطر الأخطاء التي تقع خلال عملية تسوية الحسابات، عنصر جذب لأنشطة الأعمال التي تنقل مبالغ ضخمة على المستوى الدولي. سيكون لمسؤولي الخزانة لدى الشركات متعددة الجنسيات أيضاً قدرة أكبر بشكل ملحوظ على جمع الأموال غير المستغلة واستثمارها أو نقل الأموال بين الشركات التابعة حول العالم.

الصين تتباهى بتجربة اليوان الرقمي في الأولمبياد.. فهل يتمكّن الدولار الرقمي من المنافسة؟

تعتقد قلة قليلة أنَّ النقود الرقمية لدولة أخرى ستطيح بالدولار عن عرشه في وقت قريب. حتى لو كانت الصين تملك نسخاً من اليوان الرقمي لكل من المعاملات الضخمة بين المؤسسات والمعاملات بين الأفراد، مقترنة بمنصة مدفوعات دولية، فهي لن تجاري عناصر الجذب الرئيسية للدولار، وهي أسواق رأس المال المفتوحة التي تتسم بالسيولة في أميركا، واقتصاد الولايات المتحدة القوي، ومصداقية بنكها المركزي، وقوانينها المستقرة نسبياً.

قال داريل دافي، أستاذ المالية بجامعة ستانفورد: "لست قلقاً بشأن الصين إطلاقاً، وذلك لأنَّ قدرة الصين على تحويل اليوان إلى عملة ذات أهمية على المستوى العالمي تتطلب معايير أعمق بكثير". لكنَّ دافي أضاف أنَّ الأمر يستحق اتخاذ بعض الخطوات الآن لتجنب التراجع البطيء لسيادة الدولار. قال: "هذه ميزة ضخمة لا ينبغي التخلي عنها، حتى لو كنت تتخلى عنها تدريجياً على مدى عقدين أو ثلاثة عقود".

نهج حذر

تسلك الولايات المتحدة نهجاً حذراً حتى الآن. قال مسؤول في وزارة الخزانة، اشترط عدم كشف هويته لأنه ليس مخولاً للحديث عن الأمر علانيةً، إن الوزارة تتابع جهود الأبحاث عن كثب. وبيّن مسؤول في البيت الأبيض، طلب أيضاً عدم الإفصاح عن هويته، أنَّ مديرة المجلس الاقتصادي الوطني ليل برينارد لا تبدي اهتماماً كبيراً بالأمر، كما أنها على الحياد بشأن العملة الرقمية المطروحة للنقاش، رغم تركيزها على القضية حين كانت واحدة من محافظي الاحتياطي الفيدرالي قبل أن تغادره في فبراير.

ماذا يعني الدولار الرقمي بالنسبة لمستقبل محفظتك؟

ينظر البعض من خارج الإدارة إلى ذلك ببعض التشكك. إذ إن برينارد شددت حين كانت تعمل لدى البنك المركزي على أن واشنطن تريد أن يكون لها دور حين تتوصل الدول الأخرى إلى وسيلة لتحديث شبكات المدفوعات.

قالت برينارد أمام لجنة الخدمات المالية بمجلس النواب في مايو 2022: "مهم جداً لنا أن نشارك في تحديد معايير المعاملات العابرة للحدود، وقدرتنا على تشكيل تلك المعايير ستتأثر بما إذا كانت لدينا عملة رقمية أم لا".