كيف تضغط أزمة البحر الأحمر على البنوك المركزية في أوروبا؟

المخاطر الصعودية لتكاليف الشحن نتيجة أزمة البحر الأحمر تدعم رغبة البنوك المركزية بالإبقاء على أسعار الفائدة

صورة جوية توثق لحظة اختطاف سفينة غالاكسي في البحر الأحمر
صورة جوية توثق لحظة اختطاف سفينة غالاكسي في البحر الأحمر المصدر: بلومبرغ
المصدر: الشرق
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يبدو أن تأثير الاضطرابات في البحر الأحمر لن يقتصر على دول بعينها أو مجموعة من السلع، إذ قد يمتد إلى البنوك المركزية في أوروبا، وخاصة قراراتها المتعلقة بسعر الفائدة المرتقب تخفيضه خلال العام الجاري.

وبينما تشير البيانات الحالية إلى ارتفاع تكاليف الشحن، وبطء الإمدادات حول العالم بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وتجنب أغلب السفن العبور بها، يُنتظر أن تطال هذه الاضطرابات معدلات التضخم في أوروبا، وفق "بلومبرغ إنتليجنس".

دفعت أزمة البحر الأحمر عدداً من السفن إلى تحاشي مضيق باب المندب وقناة السويس المُحاطين بالمخاطر، لتسلك مساراً أطول حول رأس الرجاء الصالح. وسبب ذلك ارتفاعاً بأكثر من 300% في أسعار شحن الحاويات من آسيا إلى أوروبا، ليعيد إلى الأذهان الذكرى المريرة في 2021 و2022، عندما قفزت أسعار الشحن بما يزيد عن 700%، ووصل التضخم الأساسي إلى 8% في المملكة المتحدة، ونحو 7% في منطقة اليورو حينها.

بالطبع هناك اختلاف كبير بين القفزة الحالية في الأسعار، الناجمة عن اضطرابات إمدادات سفن الشحن، والارتفاع الناتج عن زيادة الطلب في السنوات التي تلت جائحة كورونا. كما أن المخاطر على أسعار السلع ومعدل التضخم أقل وطأة بكثير.

لكن فيما تسعى البنوك المركزية في أوروبا إلى التأكد من عودة الضغوط السعرية الضمنية إلى المستهدفات المحددة، قد تدعم المخاطر الصعودية الناتجة عن تكاليف الشحن رغبة هذه البنوك في الإبقاء على أسعار الفائدة كما هي في الفترة الحالية.

حللت "بلومبرغ إنتليجنس" أثر ارتفاع تكاليف الشحن على معدلات التضخم في المملكة المتحدة ومنطقة اليورو، وتبعاته على قرارات البنكين المركزيين العودة إلى التيسير النقدي.

تراجع التضخم الكلي هذا العام

شهدت أسعار شحن الحاويات المتجهة من آسيا إلى أوروبا ارتفاعاً حاداً بعد الهجمات في البحر الأحمر، وبالنظر إلى تركيبة الطلب على السلع الاستهلاكية في أوروبا وأثرها على الإنفاق العائلي، تقدّر "بلومبرغ إنتليجنس" أن تكلفة شحن تلك البضائع في 2023 مسؤولة عن نحو 0.13% من ارتفاع أسعار سلة السلع المكونة لمؤشر التضخم الأساسي في المملكة المتحدة، و0.10% في منطقة اليورو.

اقرأ أيضاً: لاغارد تتوقع خفض "المركزي الأوروبي" لأسعار الفائدة في الصيف

في ظل فرضية بقاء أسعار الشحن عند مستواها الحالي، وتحميل المستهلكين كامل الزيادة في التكاليف، تشير التوقعات إلى أن ذلك قد يرفع معدل التضخم الكلي في المملكة المتحدة بمقدار 0.42 نقطة مئوية، وفي منطقة اليورو 0.33 نقطة مئوية بدءاً من أواخر 2024 ومطلع 2025، ما سيضيف إلى توقعات التضخم قدراً ضئيلاً من المخاطر الصعودية.

في كلا الاقتصادين، لن يؤدي ذلك إلى زيادة معدل التضخم الكلي فوق 2% خلال العام الجاري. وتتوقع "بلومبرغ إنتليجنس" أن ذلك سيمهد الطريق لخفض "بنك إنجلترا" أسعار الفائدة في مايو، ولبدء "البنك المركزي الأوروبي" التيسير النقدي في يونيو. يُرجح أن تمثل زيادة تكاليف الشحن خطراً صعودياً آخر لمعدل التضخم، ما يبرر التراجع عن خفض أسعار الفائدة في موعد سابق لأوانه وبمعدل كبير، خلال الفترة الحالية.

الهجمات التي تشنها جماعة الحوثي في البحر الأحمر أسفرت عن تحويل واسع النطاق لمسار السفن التي عادةً ما تمر عبر قناة السويس، وأصبحت الآن تسلك مساراً أطول حول رأس الرجاء الصالح.

وتقدّر "بلومبرغ إنتليجنس" أن يسبب تحويل المسار زيادة مسافة الرحلة بنحو 40%، ما من شأنه أن يزيد وقت الرحلة ويرفع تكلفة الوقود والتأمين. فضلاً عن ذلك، فإن المسارات الأطول تقلل من السعة الكلية للشحن، ما يفاقم الضغوط الصعودية على أسعار الشحن.

أوروبا تعاني الضرر الأكبر

من بين الاقتصادات المتقدمة، يقتصر هذا التحدي على الدول الأوروبية في الأغلب، إذ تشير البيانات التي نشرها الباحثون بجامعة أوكسفورد والتي يستخدمها صندوق النقد الدولي أيضاً في دعم منصة "بورت ووتش" (PortWatch)، إلى أن ما يزيد عن 20% من إجمالي قيمة الواردات التي تدخل موانئ أوروبا مرت أولاً عبر قناة السويس، مقارنة بنسبة 3% فقط من الواردات المتجهة إلى الولايات المتحدة، خاصة أن القناة تُعد الطريق الأقصر لسفن الحاويات التي تنقل البضائع المصنعة في آسيا إلى سوق المستهلكين الكبيرة في أوروبا.

اقرأ أيضاً: شركات التأمين ترفض تغطية السفن الأميركية والبريطانية والمرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر

نتيجة لذلك، كانت أسعار الشحن الفوري بين آسيا وأوروبا الأشد تضرراً من الاضطرابات التي وقعت في الآونة الأخيرة، مقارنة بأسعار الشحن بين آسيا وأميركا، أو الأسعار السارية لناقلات النفط والبضائع الجافة.

بالنظر إلى أن زيادة مسافة الرحلات التي غيرت مسارها للمرور عبر رأس الرجاء الصالح تصل إلى 40%، إلا أن تكاليف الشحن قفزت 320% بين آسيا وأوروبا مقارنة بنوفمبر 2023، وهو ما يمثل مبالغة مفرطة لتأثيرات العوامل المؤثرة الأساسية.

فضلاً عن ذلك، تشير أسعار العقود إلى أنه من المستبعد أن تعكس الأسعار السارية تلك الزيادة بشكل كامل، إذا اتضح أنها مؤقتة. مع ذلك، يُرجح أن تضع تكاليف الشحن المرتفعة ضغوطاً صعودية على أسعار السلع التي يشتريها المستهلكون الأوروبيون.

ونستكشف آليات نقل التكلفة في ما يلي:

الضغوط الصعودية على أسعار البضائع الاستهلاكية في أوروبا

باستخدام بيانات المبادلات بالقيمة المضافة الصادرة عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، توقعت "بلومبرغ إنتليجنس" قيمة السلع التي اشتراها المستهلكون الأوروبيون المرجح نقلها في مرحلة ما- باعتبارها مكوناً في التجميع أو سلعة تامة التصنيع- على متن سفينة حاويات بين آسيا وأوروبا. وأشارت التقديرات إلى أنها مثلت في 2018 نحو 8.1% من قيمة السلع الاستهلاكية المبيعة في المملكة المتحدة، فيما كانت نسبتها في منطقة اليورو 7.2%.

اقرأ أيضاً: اضطرابات البحر الأحمر تفاقم مشكلات إمدادات الغذاء العالمية

يُفترض أن تقارب تكاليف شحن الحاويات 5.5% من القيمة الإجمالية للبضائع المنقولة وفقاً للمعلومات التي جمعتها بلومبرغ إنتليجنس عن مجموعات البيانات الأخرى الصادرة عن المنظمة، وبيانات تكاليف النقل والتأمين لتجارة البضائع الدولية، وذلك مع مراعاة العناصر الحديثة للتجارة بين الصين وأوروبا.

ومع أخذ كليهما في الاعتبار، يشير ذلك إلى أن تكاليف الشحن من آسيا إلى أوروبا تمثل نحو 0.44% من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي على السلع الصناعية غير المرتبطة بالطاقة في المملكة المتحدة، و0.4% في منطقة اليورو.

بمراعاة تأثيرات 2023 على سلة السلع المكونة لمؤشر التضخم الرئيسي، يعني ذلك أن تكاليف شحن الحاويات من آسيا إلى أوروبا تمثل نحو 0.13% من السلة -أي 0.17% للتضخم الكلي- في المملكة المتحدة، و0.10% من التضخم الكلي -0.15% من التضخم الجوهري- في منطقة اليورو.

اقرأ أيضاً: تراجع تضخم الغذاء في بريطانيا إلى أدنى مستوى منذ يونيو 2022

نتيجة لذلك، إذا ظلت أسعار الشحن مرتفعة بنحو 320% عن مستواها في نوفمبر الماضي، وإذا حمّل المستوردون التكاليف الإضافية بأكملها للمستهلكين، فقد يرفع ذلك معدل التضخم الكلي في المملكة المتحدة بنحو 0.42 نقطة مئوية، وفي منطقة اليورو بما يقارب 0.33 نقطة مئوية، بفضل فئة السلع الصناعية غير المرتبطة بالطاقة. مع ذلك، وفي بيئة يتراجع فيها الطلب العالمي -على خلاف ما حدث في 2021 و2022- يُرجح أن يكون تحميل التكلفة هذا جزئياً فحسب.

حالة ارتفاع أسعار الشحن المسجلة في 2021 و2022 تشير إلى أن تحميل التكلفة للمستهلكين قد يستغرق ما بين 6 إلى 9 شهور تقريباً في المملكة المتحدة، و12 إلى 15 شهراً في منطقة اليورو، ما يضيف قدراً ضئيلاً من المخاطر الصعودية على توقعات التضخم خلال عام يبدأ في الربع الثالث من العام الجاري في بريطانيا، والربع الأول من 2025 في منطقة اليورو.

استقرار التضخم في 2025

في منطقة اليورو، حيث تتوقع "بلومبرغ إنتليجنس" أن في ظل تكهنها بتراجع معدل التضخم إلى أدنى من مستهدفات البنك المركزي عند 2% في 2025، يُفترض أن يكون للمخاطر الصعودية الضئيلة الناجمة عن ارتفاع تكاليف الشحن أثراً محدوداً على قرارات "المركزي الأوروبي" تجاه دورة التيسير النقدي، والتي يُتوقع أن تبدأ في يونيو المقبل. مع ذلك، وفي الفترة الحالية، قد تعزز تلك المخاطر من رغبة البنك المركزي في مخالفة توقعات السوق بخفض أسعار الفائدة في موعد أقرب.

أما في المملكة المتحدة، حيث يرُجح أن ينخفض معدل التضخم الكلي لأقل من 2% خلال الربع الثاني من العام الجاري، تتوقع "بلومبرغ إنتليجنس" أن يرتفع التضخم متجاوزاً هذا المعدل مرة أخرى في وقت لاحق من العام، وسيستقر عند المعدل المستهدف في أواخر 2025، وقد تزيد تكاليف الشحن الخطر المتمثل في تجاوز معدل التضخم التوقعات بنسبة طفيفة.

إدراكاً لحالة عدم اليقين المحيطة بسعر الفائدة المحايد، وترجيح تحرك بيانات التضخم في الاتجاه الخاطئ لاحقاً في العام الجاري، تتوقع "بلومبرغ إنتليجنس" أن يقلص "بنك إنجلترا" معدل خفض أسعار الفائدة بداية من الربع الرابع هذا العام إلى 0.25% حتى نهاية 2025. لكن الخطر في أن يثير احتمال عودة التضخم إلى الارتفاع نتيجة زيادة تكاليف الشحن، قلق "بنك إنجلترا" بما يكفي ليتحرك بوتيرة أبطأ من المتوقع في العام الجاري.