بيل هوانغ يسعى لتجنب السجن بعد تبديد 36 مليار دولار في أسبوع

مؤسس "أركيغوس" أزهق ثروته بلمح البصر وساهم بسقوط "كريدي سويس" ويقف الآن متهماً أمام القضاء لكن إيمانه لم يتزعزع

بيل هوانغ
بيل هوانغ المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

قال بيل هوانغ إنه شاهد في منامه دم المسيح يفيض على نيويورك ليطهر تلك المدينة الكبرى من خطاياها، وقد أثر هذا المشهد على المتداول الغامض، الذي كوّن وبدد إحدى أعظم الثروات في العالم، لدرجة أنه كلّف واحداً من مشاهير الفنانين بأن يرسم لوحة تُجسّد ما حلم به، كما لو كان سليلاً لآل ميديتشي في فلورنسا.

يزين هذا العمل الفني المذهل مكاتب مؤسسة خيرية مسيحية في وسط نيويورك أقامها هوانغ فيما كان يؤسس "أركيغوس" (Archegos)، وهو مكتب لاستثمارات أسرته جعله قوة لا يؤمن جانبها هزت الأسواق. يصور الرسم الدم يسيل عن البرج المدبب في ذروة برج مبنى إمباير ستيت وعلى ما يحيطه في الأفق الرمادي.

في هذا المكتب اجتمع 36 شخصاً حول طاولة قاعة الاجتماعات مع هوانغ ليستمعوا لحديث عن الكتاب المقدس قبيل عيد الفصح، حين كانت أولى أزهار الربيع في حديقة سنترال بارك باديةً عبر نافذة المكتب في الطابق 22. وقف هوانغ أمام شاشة عملاقة بكامل أناقته المعهودة تغطي عينيه نظارة سميكة أنيقة ويرتدي سترةً خضراء لها سحّاب قصير عند نحره وقد صفف شعره الأشيب باتجاه مؤخر رأسه، فأضفى عليه مسحة من غلاظة.

ظهرت على الشاشة عبارة: "فرغت الفضة" وهي مقتبسة من سفر التكوين في الإنجيل، وهي تكاد لا تكفي وصفاً للمسار الجامح الذي سلكه الممول غامض الشخصية، أو ما يوشك أن يحدث.

قصة صعود وانهيار

في سرية شبه تامة، جمع هوانغ ثروة تخطت 36 مليار دولار لفترة وجيزة، لكن تبددها كان علنياً لأقصى حد. في نهاية المطاف، سبب انهيار "أركيغوس" خسائر بمليارات الدولارات للبنوك التي تعاملت مع الشركة، كما سرّع تداعي مصرف "كريدي سويس".

هوانغ، واسمه الأصلي سونغ كوك هوانغ، سيمثل هذا الأسبوع أمام المحكمة الاتحادية في وسط مانهاتن لمحاكمة غالباً ستكون بين أكثر محاكمات العصر الحديث متابعةً في وول ستريت.

اقرأ أيضاً:القصة المفصلة لملياردير "وول ستريت" المفلس.. هكذا جمع "هوانغ" 20 مليار دولار وفقدها في يومين

اتهمت وزارة العدل هوانغ، وهو نجل قسّ كوري، بالكذب على بعض أقوى البنوك التي أغدقت عليه لتمويل رهانات تسببت بارتفاع وكذلك انهيار أسعار عدد من الأسهم. ما يزيد التهديد هو أن المدعين العامين الاتحاديين عمدوا لنصوص قوانين الاحتيال التي تشتهر باستخدامها للإيقاع بزعماء العصابات. قد تتسبب هذه النصوص بزجّ هوانغ في السجن لمدة 20 عاماً، وقد دفع ببراءته.

قال جوش نافتاليس، الذي كان مدعياً عاماً اتحادياً في ما مضى: "هذه إحدى أكبر قضايا التلاعب في السوق التي وُجهت فيها اتهامات... السؤال المهم الآن هو ما إن كان ذلك الرجل سيسجن".

ما يجعل هذه القضية أكثر إثارة للاهتمام هو أن هوانغ كان من المساعدين السابقين لأسطورة صناديق التحوط جوليان روبرتسون، وهم من درجت تسميتهم بأشبال النمر. قال نافتاليس: "يُعتبر هؤلاء أفضل المتداولين في السوق، ولهذا السبب يهتم الناس بالقضية".

حنق وول ستريت

ليست تلك المرة الأولى التي يصطدم فيها هوانغ، 60 عاماً، بالقانون. أقرّ صندوق التحوط "تايغر آسيا مانجمنت" (Tiger Asia Management) المملوك لهوانغ، والذي مهد لظهور "أركيغوس"، بضلوعه في عملية احتيال إلكتروني في 2012، فيما توصل هوانغ إلى تسوية في مزاعم مدنية في الولايات المتحدة بأنه شارك في عمليات تداول بناءً على معلومات داخلية. لم يُقرّ هوانغ بارتكاب أي مخالفات.

في قاعات التداول في وول ستريت وفي مكاتب المديرين ذات السجاد الناعم، أثارت أزمة "أركيغوس" حنق المسؤولين التنفيذيين فيما فاقت خسائر بنوكهم عشرة مليارات دولار. رغم الإشكالية التي وقع فيها المستثمر سابقاً، عاملت البنوك هوانغ على أنه عميل متميز متعطش للمخاطر التي تولّد دخلاً وفيراً.

لكن تلاشي "أركيغوس" في مارس 2021 أتى على أغلب الثروة التي بلغها هوانغ، والتي تقلصت إلى ما دون 100 مليون دولار، وفقاً لأشخاص مطلعين على وضعه المالي.

اقرأ أيضاً: الاحتياطي الفيدرالي: انهيار "أركيغوس" يكشف "نقاط ضعف" في البنوك العالمية

قال روبرتسون بعد فترة وجيزة من انهيار "أركيغوس": "أنا من كبار معجبي بيل، وقد يحدث ذلك لأي شخص، لكنني أشعر بالأسف لأنه أصاب بيل". في مقابلة خلال 2007، وصف روبرتسون، الذي توفي في أغسطس 2022، كلاً من تشيس كولمان من "تايغر غلوبال" (Tiger Global) و هوانغ بأنهما مستثمران شابان مُقدّر لهما النجاح.

جوليان روبرتسون
جوليان روبرتسون المصدر: بلومبرغ

ملاذ آمن

لطالما اعتبر هوانغ أنه رأسمالي مسيحي، أي أنه يسعى لكسب المال ليستخدمه لنشر الدين، ومنذ انهيار "أركيغوس"، أضحت مؤسسته "غريس آند مِرسي فاونديشن" (Grace and Mercy Foundation)، ملاذاً آمناً لموظفيها السابقين، كما كان مربحاً لبعضهم.

تظهر السجلات الضريبية أن بعض موظفي "أركيغوس" حصلوا على أكثر من نصف مليون دولار مقابل عملهم خلال 2022 في الإشراف على المؤسسة التي كانت تملك 528 مليون دولار بنهاية ذلك العام. مستوى الأجور هذا ليس غريباً في عالم العمل الخيري، لكنه أكثر شيوعاً في المؤسسات الأكبر أو الأبرز.

اقرأ أيضاً: بيل هوانغ قام برهان مصرفي "ضخم وسرّي" قبل انهيار "أركيغوس"

سعى المدعون العامون للحيلولة دون ذكر هوانغ لأي "أعمال خيرية سابقة"، بما في ذلك التبرعات والعمل الخيري.

أوضح أندرو فيلد، القسّ في كنيسة "ريديمر برسبيتريان" الذي سبق أن شاهد هوانغ في بعض الفعاليات في مدينة نيويورك، أن بعض الناس قد يعتقدون أن هوانغ يستخدم دينه درعاً، وقال: "إن رد التفسير اللحظي هو أنه متلاعب. وهناك الكثير ممن اتبعوا هذا الأسلوب. أما بالنسبة لي فهو حقيقي حتى النخاع ومشروع تماماً".

خسائر فادحة

ثمّة سؤال مهم يدور في أذهان العاملين في وول ستريت، وهو كيف اعتقد هوانغ أنه قادر على تخارج آمن من الاستثمارات الضخمة التي جمعها في شركة "فياكوم سي بي إس" (ViacomCBS) وعدة شركات صينية؟ بالنظر إلى ما حدث، تبدو استراتيجية هوانغ وكأنما كان يستخدم السوق سبيلاً للانتحار.

اقترضت "أركيغوس" بكثافة من مصارف آسيوية وأوروبية وأميركية بينما كان هوانغ يدفع أسعار الأسهم للارتفاع إلى مستويات هائلة من خلال الرهان عليها. لكن البيع كان سيؤدي لانخفاض أسهمها مجدداً. حين اتجهت أسعار بعض الأسهم للانخفاض، بدأ المقرضون يصدرون طلبات لتغطية الهامش، ما تسبب في الانهيار.

قال المدعون العامون إن "أركيغوس" لم تكن صريحة مع المصارف بشأن حجم اقتراضها وتركُّز رهاناتها. خسر "كريدي سويس" 5.5 مليار دولار، وقد اقترن ذلك بزلاّت أخرى أفضت إلى استحواذ "يو بي إس غروب" العاجل على المصرف. كما خسر مصرف "نومورا" قرابة ثلاثة مليارات دولار، وخسر "مورغان ستانلي" أكثر من 900 مليون دولار.

اقرأ أيضاً: "يو بي إس" يسدد 387 مليون دولار غرامات مرتبطة بـ"كريدي سويس"

يرأس القاضي ألفين هيلرستاين، الذي أشرف على الدعاوى القضائية التي نجمت عن هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، المحاكمة في قاعة تقع قبالة المبنى الذي يشهد محاكمة الرئيس السابق دونالد ترمب بتهمة تقديم رشوة لإسكات أطراف أخرى. هيلرستاين، 90 عاماً، هو القاضي ذاته الذي رفض طلب ترمب بنقل محاكمته من ذلك المبنى.

بيل هوانغ خارج المحكمة الاتحادية في نيويورك في 2022
بيل هوانغ خارج المحكمة الاتحادية في نيويورك في 2022 المصدر: بلومبرغ

يصر أصدقاء هوانغ المخلصون على أنه لم يخالف القانون، ويقولون إنه اتخذ قرارات استثمارية سيئة، وإن المال هو من خذله في نهاية المطاف.

كانت تلك الفكرة مثار حديث هوانغ في المؤسسة خلال منتصف مارس، وشارك موظف في "غريس آند مِرسي" الصور على الإنترنت. ركز النقاش على قصة يوسف في العهد القديم، الذي كانت رؤاه وحكمته النبوية في زمن المجاعة تُروى تبياناً لقوة الله في كشف البلاء. قال إمرسون كولينز، الذي سافر جواً من مؤسسة خدمة مسيحية في كولورادو ليشارك في الفعالية: "تحدث بيل عن خذلان المال له فيما أن الإنجيل لا يخذل".

خطة بديلة

ازدادت أهمية المؤسسة لهوانغ فيما كان ينتظر المحاكمة. كثيراً ما يظهر هوانغ في اجتماعات نادي الكتاب وقراءات الكتاب المقدس هناك، وفقاً لبعض المشاركين. يركز نشاط يتبناه على القراءة العلنية للإنجيل، وهو يمتد إلى السجون.

لكن مبادرات كهذه ليست سوى جانب واحد من المؤسسة، فقد أضحت تشغّل بعض منسوبي "أركيغوس" السابقين. وفقاً لأحدث إقراراتها الضريبية، ضمت المؤسسة حتى عام 2022 تسعة من موظفي "أركيغوس" المخضرمين بين كبار مسؤوليها وموظفيها الأعلى أجراً.

اقرأ أيضاً: تنفيذيان موثوقان لدى "أركيغوس" ينقلبان على بيل هوانغ

تشمل تلك المجموعة باتريك هاليغان، الرئيس المالي السابق لمكتب العائلة وأحد المدعى عليهم الآخرين في قضية وزارة العدل، وقد تقاضى 539 ألف دولار إلى جانب مزايا أخرى مقابل دوره كأمين صندوق المؤسسة الخيرية. دفع هاليغان بالبراءة من التهم.

كانت ديانا باي، الرئيسة المشاركة السابقة لـ"أركيغوس" التي تولت قبل ذلك منصب العضو المنتدب في "غولدمان ساكس"، هي الأعلى أجراً بين الموظفين، إذ بلغ راتبها نحو مليون دولار. تقاضى أربعة موظفين سابقين آخرين بين 500 ألف و800 ألف دولار لقاء وظيفتهم كمسؤولي استثمار.

قبل انهيار الشركة، بينت الإقرارات الضريبية للمؤسسة غير الهادفة للربح أن كبار موظفي "أركيغوس"، مثل هاليغان وأندرو ميلز، قد عملوا لصالحها تبرعاً.

وضع الشركتين

قال أحد المصادر إن عديداً من موظفي "أركيغوس" كانوا يتداولون لصالح شركة الاستثمار والمنظمة غير الربحية كجزء من وظيفتهم السابقة، والآن لم يتبق سوى واحد من هذين الكيانين. أضاف أن المنظمة لا تستعين بمصادر خارجية لأنشطتها في التداول، وأن أصولها نمت بشكل كبير في 2023، إذ استفادت من الأسواق المتفائلة.

يدفع هوانغ لهؤلاء الموظفين أجوراً تشبه نطاق الأجور في منظمات أكبر حجماً بكثير. على سبيل المثال، دفعت "مؤسسة فورد" (Ford Foundation)، التي تبلغ قيمتها 16.4 مليار دولار، لرئيسها 1.2 مليون دولار في 2022. كما بلغ راتب كل من مدير العمليات وأمين الصندوق 630 ألف دولار.

اقرأ أيضاً: بعد سنة من كارثة الإفلاس.. اعتقال بيل هوانغ مالك صندوق "أركيغوس"

زعم برندان سوليفان، وهو موظف سابق في "أركيغوس" رفع دعوى ضد هوانغ يطالب فيها بالحصول على تعويض قدره 50 مليون دولار، في دعواه أن هوانغ أخبر الموظفين خلال عطلات الخلوات الخاصة بالشركة في عامي 2018 و2019 أن مؤسسة "غريس آند مِرسي" كانت "خطته البديلة" في حالة حدوث شيء لشركته الاستثمارية.

خلال مؤتمر عبر الهاتف في 29 مارس 2021، وتفاصيله مذكورة في دعوى سوليفان، أبلغت باي الموظفين أن بإمكان 15 إلى 30 موظفاً منهم أن ينتقلوا للعمل في المؤسسة.

قال سوليفان في مزاعمه: "أساء هوانغ وباي تقديم تلك الفرص كوسيلة لمحاولة فرز المخاطر القانونية التي كانا يعلمان أنهما يواجهانها، على المستويين المدني والجنائي، وذلك من خلال استمالة الموظفين الذين قد يرفعون دعوى قضائية ضدهما أو يتجهون للسلطات".

قال محامي هوانغ في أحد سجلات المحكمة إن سوليفان لم يقدم إثباتاً على أن هوانغ أساء تقديم أي شيء، "ناهيك عن أين قام بذلك ومتى ولِمَن".

"نايكي" و"غوتشي"

يدل محيط هوانغ على استمراره بتجنب مظاهر الثراء الفاحش. فمنذ انهيار "أركيغوس"، عاش هوانغ في المكان ذاته الذي كان يعيش فيه حين كانت ثروته في أوجها، وهو منزل متواضع في ضواحي نيوجيرسي، كما استأجر شقة في مانهاتن من أجل المحاكمة.

يمر الزوار الذين يدخلون "غريس آند مِرسي فاونديشن" بجوار العمل الفني الذي يصوّر رؤيا هوانغ، وهو يمتد تقريباً من الأرض وحتى السقف ويغطي جانباً كبيراً من الحائط. شارك جيمس ليليس، أحد كبار القساوسة في إحدى كنائس كونتيكت، صورة للعمل الفني ومصدر الإلهام وراءها مع متابعيه على الإنترنت بعد أن زار هوانغ في المؤسسة خلال مارس.

اقرأ أيضاً: "دويتشه بنك" ينجو من أزمة انهيار "أركيغوس كابيتال"

صمم الفنان الكوري المعروف سيونغمو بارك هذا العمل الفني، الذي كُلف به في 2016، باستخدام شبكة معدنية. كما صمم بارك عملاً فنياً بمقاييس أكبر من الواقع للعدّاء الأولمبي سيباستيان كو لصالح مقر شركة "نايكي" في ولاية أوريغون، وأيضاً واجهة متجر "غوتشي" الرئيسي في عاصمة كوريا الجنوبية سول. يزين أحد أعمال بارك المنزل الفخم الذي دارت فيه أحداث الفيلم الكوري الجنوبي (Parasite) الذي تلقى جائزة أوسكار في عام 2019.

قال كولينز، الذي جاء من كولورادو لحضور نقاش هوانغ، إن هوانغ وضيوفه لم يناقشوا الدعوى الجنائية التي كانت تلوح في الأفق خلال اجتماعهم الذي تناول قصة النبي يوسف. أمضى هوانغ وقته مع ضيوفه طيلة الفعالية، كما ذهبوا لزيارة معبد يهودي للاستماع لقراءة التوراة وللتأمل وللاقتداء في القراءة العلنية لنصوص الإنجيل. قال كولينز: "لا نزال مثابرين على الدعاء له".