سوق العمل الأمريكي بين إرث الماضي وتحديات المستقبل

 الرئيس الأمريكي، جو بايدن
الرئيس الأمريكي، جو بايدن المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

خطوة بدأتها الإدارة الأمريكية الجديدة دعماً للطبقة العاملة وقطاع التوظيف، فقد أصدر الرئيس بايدن مجموعة من الأوامر التنفيذية، تراجع فيها عن العديد من سياسات القوى العاملة للإدارة السابقة، التي تغطي فيها القوى العاملة الفيدرالية والنقابات رفع الحد الأدنى من الأجور إلى نحو 15 دولاراً في الساعة.

ومن المتوقَّع أن يقوم الرئيس بايدن باتّباع المزيد من الخطوات للإيفاء بوعوده الانتخابية، التي تهدف إلى مساعدة الشركات الصغيرة على النهوض مجدداً، إذ توظِّف هذه الشركات ما يقرب من نصف العاملين غير الحكوميين، بإعطاء هذه الشركات 15 مليار دولار كمنح مباشرة، قد تصل الى 15000 دولار لكل شركة، كما يسعى لتغيير القوانين، للحصول على 14 يوماً من الرعاية والإجازة المرضية مدفوعة الأجر، مع قيام الحكومة الفيدرالية بدفع فاتورة المنظمات التي يعمل بها أقل من 500 موظف، وصولاً إلى الخطط العملاقة الطامحة بالإنفاق على البنية التحتية والتحوُّل إلى الطاقة النظيفة.

ضعف المساواة

لاشك أنَّ هذه الإجراءات في حال دخولها حيز التنفيذ، ستقدِّم الكثير من فرص التوظيف، وخفض معدَّلات البطالة، وإعادة الكثير من الزخم والحيوية لسوق العمال الأمريكي، إلا أنَّ الوضع في واقع الأمر مغاير، ولم تطبق القوانين، فعلى الرغم من أنَّ الأجر المتساوي للعمل قد تمَّ إلزامه اتحادياً في عام 1963، فإنَّ سوق العمل لا يزال يعاني من مشاكل واختلالات تمييزية مزمنة، منها ما يتعلَّق باتساع فجوة الأجور ( بين النساء العاملات والعاملين من الذكور )، فمنذ إقرار المساواة في الأجور، فإنَّ الدخل الفعلي للرجال مقابل النساء، لا يزال يميل لصالح الذكور. وفي الربع الأول من عام 2020، كان متوسط الأجر الأسبوعي للنساء قد بلغ 80%، من دخل الذكور. وفي إحصائية شملت أكثر من مليون عامل في المجال نفسه، وعدد سنين الخبرة، ودرجة التعليم، والعمر,فقد كان الذكور يتقاضون أجراً أو راتباً في البلاد بلغ 1066 دولاراً، في حين بلغ متوسط دخل النساء العاملات 857 دولاراً في الأسبوع، بحسب بيانات مكتب إحصاءات العمل الفيدرالي.

و يعزى ذلك جزئياً إلى التمييز (النساء ذوات البشرة الملونة)، وكذلك ما يسمى بوظائف النساء، وهي الوظائف التي كان لها تاريخياً قوة عاملة بأغلبية نسائية، مثل مساعدات الصحة والعاملات في رعاية الأطفال، إذ تميل إلى تقديم أجور ومزايا أقل مما يسمى بوظائف الرجال، وهي وظائف كان لها في الغالب قوة عاملة من الذكور، بما في ذلك الوظائف في الحرف، مثل البناء والتشييد.

العنصرية

وجاءت أزمة كورونا لتعمِّق الشرخ وعدم المساواة في الوظائف، وزيادة أعداد البطالة، تبعاً للعرق(أبيض ، أسود)، وعلى الرغم من أنَّ أعداد البطالة تتراجع قليلاً، مع بدء تعافي بعض الاقتصادات، فإنَّه يتمُّ إعادة توظيف العمال البيض بمعدَّل وتيرة أسرع من الأعراق الأخرى (بلغ معدَّل البطالة للعمال السود 10.3% في نوفمبر 2020، بزيادة 4,5% عن فبراير، في حين كانت الزيادة بالنسبة للعمال البيض عن فبراير 2,8%)، وقد لعب تراجع دور النقابات في انخفاض أجور الأمريكين السود، لأنَّ مايكسبه العضو النقابي حوالي 25 % أكثر مما يكسب نظيره من غير النقابي؛ فقد كانت النقابات تمثِّل خمس العمال في عام 1983، و بحلول العام 2019 انخفض هذا الرقم إلى %6,2، وأثَّر ذلك على مستويات الأجور لدى العمال السود، الذين كانوا تاريخياً أكثر ميلاً للانضمام إلى النقابات العمالية.

وتبرز تحديات تكيُّف سوق العمل الأمريكي مع المتغيرات، كمثل تلك التي أفرزتها تأثيرات العولمة، وتحرير التجارة، والواقع الذي أوجدته في مجال التغيُّرات، والتقدُّم والمنافسة في صناعة التكنولوجيا، والزيادة في الاعتماد على الأتمتة أو التقنية، والرقمنة، والاستخدام المتزايد للروبوتات في التصنيع (يقلل روبوت واحد لكل ألف عامل من إجمالي نسبة العمال إلى السكان بنحو 2%، أي خفض العمال بنحو 3.3 عامل، وفيما يتعلَّق بالأجور، يقوم روبوت واحد لكل ألف عامل بخفض الأجور بنسبة (0,4 %).

الأتمتة

ومن التغييرات المهمة على المدى الطويل في أسواق العمل الأمريكي، قد نشاهد تراجعاً في المهن ذات المهارات المتوسطة، مثل وظائف التصنيع، والإنتاج، والنمو أعلى من المتوسط حتى عام 2025. وتعدُّ الوظائف المعرضة لخطر كبير من الأتمتة، تلك المهن التي تدور في مجال الخدمات. أما المهن التي في قطاع الرعاية الصحية كالتمريض، والجراحة الطبية، والمهن الهندسية، وحرف المهارة، كالسباكين، وميكانيكي التدفئة والتهوية والتكييف، ومشرفي البناء والكهربائيين، جنباً الى جنب مع مندوبي المبيعات، وكما من المتوقَّع أن تنمو وظائف علوم الكمبيوتر، وتكنولوجيا المعلومات، كمهندسي الشبكات، ومديري قواعد البيانات، والمحللين، والمطوِّرين بنسب 14% من عام 2019، حتى عام 2030 (إحصاءات مكتب العمل الأمريكي).

في اعتقادي، تعدُّ الوظائف المعرَّضة لخطر كبير من الأتمتة، هي تلك المهن التي تدور في قطاع الخدمات، وعلى المدى الطويل, ستتراجع أعداد البشر الذين يؤدون تلك الوظائف في الأسواق الأمريكية، لتستبدل الروبوتات لهذه الأسباب:

1-الروبوت زهيد التكلفة على الأمد الطويل، فهو لا يحتاج إلى تأمين صحي، وهو

لايمرض، وبالتالي لا يتغيَّب عن العمل.

2- الروبوت لا يأكل، ولا يشرب، ولايحتاج إلى التنقل، وبالتالي ساعات العمل مع الروبوت هي عالية الإنتاج، وينسجم مع البشر، ويطيع الأوامر، ولا يتذمَّر، ولا يتعب.

3- الروبوت ليس له أيّ مكافأة مالية أو نهاية الخدمة.

تضافر الجهود

يتطلَّب من الحكومة وأرباب العمل على حد سواء تضافر الجهود، وتوفير الدعم والتدريب المناسبين للعمال، لتوفير متطلَّبات المهارات الجديدة المتوافقة مع التغييرات التكنولوجية، لأنَّ التبني التكنولوجي سيؤثِّر حتماً على وظائف العمال، من خلال إزاحة بعض المهام التي يؤديها البشر إلى مجال العمل، الذي تؤديه الآلات، والأتمتة، والروبوتات. وينطبق الأمر ذاته على عمالة الوقود الأحفوري الذين إن لم يتم استيعابهم وتدريبهم؛ سيخلق ذلك انعدام وظائف جديدة، وزيادات في معدَّلات البطالة، لأنَّ الأشخاص المدرَّبين على العمل الأحفوري، قد لايمتلكون المهارات التي تتطلَّبها وظائف الطاقة المتجددة.

ويتطلَّب كلٌّ من الحكومات وأرباب العمل على حدٍّ سواء، تضافر الجهود، وتوفير الدعم، والتدريب المناسب للعمال، لكي تتوفَّر متطلَّبات المهارات المتوافقة مع التغيرات التكنولوجية.وذلك لأنَّ التبني التكنولوجي سيؤثِّر على وظائف العمال، من خلال إزاحة بعض المهام التي يؤديها البشر إلى مجال العمل، الذي تؤديه الآلات، والأتمتة، والروبوتات، وينطبق الأمر ذاته على عمال الوقود الأحفوري، الذين إن تمَّ تدريبهم، فإنَّ ذلك سيخلق انعدام وظائف جديدة، وزيادات في معدَّلات البطالة، لأنَّ الأشخاص المدرَّبين على العمل الأحفوري، قد لا يمتلكون المهارات التي تتطلَّبها وظائف الطاقة المتجددة.

ولابدَّ أيضاً التطرُّق إلى مجال العلاقة الخارجية، إذ يجب أن تكون هناك سياسة لتشجيع التصنيع داخل أمريكا، من دون الوصول إلى حروب تجارية، مثل ما حصل مع الصين.

وأدَّت قيود التصدير التي فرضتها الإدارة السابقة إلى تراجع واردات الصين من السلع المصنَّعة عالية القيمة من الولايات المتحدة، وخاصة أشباه الموصلات، والطائرات، وفي الوقت ذاته سيتعيَّن على الإدارة الجديدة النظر بجدية، ومعالجة القضايا العميقة الجذور لعدم المساواة في التمييز في الأجور، والوصول إلى الوظائف، بغض النظر عن العرق، أو اللون، أو الجنس، بل بدعمها بالقوانين والتشريعات اللازمة، لما لها من آثار قد تتجاوز أسواق العمل، وقد تصل إلى حدوث اضطرابات، وتعزيز الانقسام الطبقي والعرقي في المجتمع الأمريكي إلى درجة لا تُحمد عقباها.