"لا تحاول أن تبقى متفائلا".. نصائح الأخصائيين النفسيين لمواجهة أخطار "الإيجابية السامة"

نصائح لمواجهة الإيجابية السامة
نصائح لمواجهة الإيجابية السامة المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

حين طلب منها أحد مرضاها تقريراً طبياً، ليحصل على إجازة مرضية، قررت أخصائية علم النفس العصبي "جودي هو"، أن عليها التدخل بشكل ما. فمريضها كان رجل أعمال ناجح ثري، سعيد بزواجه، و يحظى بتقدير زملائه.

كان الرجل يشعر بالإحباط والإرهاق في بعض الأحيان، وكانت مشكلته أنه لم يملك القدرة على الاعتراف بذلك. وكانت الطريقة الوحيدة التي وجدها لمعالجة الموضوع، هي الانسحاب قليلاً. وكان يفعل ذلك كتلميذ بالمدرسة، فيلتمس عذراً طبياً من الطبيب، ليتمكّن من إعادة استجماع نفسه. وقالت جودي: "كان يعلم أنه لا يعاني من مرض. مع ذلك كان يأتي ويقدم ذرائع، لمجرد أن يأخذ يوم عطلة دون أن يؤنبه ضميره".

الإيجابية السامة

أدركت جودي أن مريضها يعاني من مرض عصري ينتشر بسرعة. حيث قالت: "هو يسعى دائماً لإثبات قيمته للآخرين". وأضافت: "كان يعتقد أن عليه أن يعكس صورة النجاح والحياة السعيدة التي يعرفها عنه الجميع، ولا يريد أن تتغير هذه الصورة"، واصفة ذلك بـ"الإيجابية السامة".

وتعرف هذه الحالة تحت مسميات عدّة مثل تزييف السعادة، أو الخوف من النظرة السلبية أو الإيجابية السامة. حيث يحرص الأشخاص على التعبير عن سعادتهم المفرطة، مهما كان الوضع سيئاً، وكأن ما يهم، هو رسم ابتسامة ثابتة على الوجه، حتى لو كانت زائفة.

يمكن ملاحظة هذا النهج بسهولة على تطبيق "انستغرام"، حيث يرفق الأشخاص صورهم بوسم (#سعادة) مهما كانوا يشعرون. ونسمعه أيضاً من مدرب "سول سايكل" الرياضي الذي يطالب راكبي الدراجات بالشعور بالفخر الشديد والسعادة، على الرغم من التعب. وكررته كذلك المديرة الإبداعية الجديدة لشركة "فايتل بروتيين" الممثلة جنيفر أنيستون، التي قالت إن تجدد النشاط لا يستمد من منتجات الشركة فقط، بل هو يأتي "من داخلنا".

وربما تكون قد سمعت شيئاً مشابهاً من مديرك في العمل، الذي يطلب من المشاركين في اجتماعات "زوم" مشاركة خبر جيد مع زملائهم، بغرض رفع المعنويات في ظلّ هذا الوضع القاتم.

وانطلاقاً من هذه العقلية، يتم التعامل مع كافة المخاوف، أو الأحزان لدى البشر، بطريقة سطحية متفائلة لا تقبل المساومة. وما إن ينتابك أي شعور "سلبي" ستبدأ بسماع العبارات التبريرية التي تبدأ بجملة "على الأقل"، فمهما كنت تشعر بالسوء، لديك "على الأقل" أمور أخرى تعوّض وتخفف عنك. حتى أن التشديد على فكرة أن تحب جسمك كيفما كان، باتت تلقي بأضرارها، وقد تجعل مثلاً من غير المقبول معالجة طيات البطن أو التجاعيد، لأنه عليك أن تكون سعيدا تجاهها.

فريسة لبائعي السعادة

لقد بات الخوف من النظرة السلبية وتزييف المشاعر، يغذي أوهام الكثيرين. سواء كان سياسياً يحاول أن يبرر فشله في مواجهة تبعات جائحة كورونا عبر تكرار أقوال مبتذلة عن القوة. أو بائع أحلام يحاول إقناعك بفرصة لا تعوض لتحقيق التقدم. لقد كشفت هيئة التجارة الفيدرالية عن ازدياد كبير في عدد عمليات الاحتيال المالي (القائمة على استغلال العواطف) خلال فترة الجائحة، حيث سجلت ارتفاعاً بنسبة 70% في الفصل الثاني من العام 2020، بالمقارنة مع العام الذي سبقه. فقد وقع الأمريكيون العاديون الذين يبحثون عن الإلهام والتطمينات، فريسة لبائعي السعادة.

وأدى هذه النوع من التفكير السحري المبهج إلى زيادة في توظيف اختصاصيين، هم أشبه بمشجعين شخصيين على السعادة. وارتفع عدد أعضاء الاتحاد الدولي للمدربين، الذي يضمّ ما يعرف بمدربي الحياة الخاصين، من 4700 حول العالم في العام 2001، إلى أكثر من 41 ألف اليوم.

دوامة الإنجازات المُهلكة

وتحذّر نعومي توريس ماكي، من أن الأشخاص الناجحين هم الأكثر عرضة للسقوط ضحية هذا النوع من التفكير. فمن خلال عملها كرئيسة للبحوث في تحالف الصحة العقلية وكأخصائية نفسية في مستشفى "لينوكس هيل" في نيويورك، هي تعمل بشكل واسع مع المرضى العالقين فيما تسميه "دوامة الإنجازات". حيث يبتعد الأشخاص عن تأمل الذات الحقيقي ومواجهتها، في مقابل تبنيهم اعتقادات حماسية تتعلق بالقدرة على العمل والإنجاز مهما كانت المعوقات.

وتعطي ماكي مثالاً لرجل متزوج عالجته مؤخراً، هو يعمل في القطاع المالي في وول ستريت، وكان في أوجّ عطائه المهني، لكن مشكلته الوحيدة كانت قلّة النوم. وقد أدرك من خلال المتابعة مع ماكي، أن مشكلته تكمن في تركيزه خلال الساعات التي يكون مستيقظاً فيها على مقارنة نفسه مع الآخرين.

وقالت: "الأسئلة الوحيدة التي كان يطرحها على نفسه هي: ما مدى النجاح الذي أحققه، وما الذي يفكر به مديري؟". وأضافت: "كان تركيزه ينصب على تقديم نفسه بصورة مثالية وسعيدة وإيجابية، فلم يترك متسعاً لمعالجة الأمور الصعبة في حياته". ولكن حين يخلد إلى النوم في المساء، تعود تلك الأفكار لتشغل باله وتبقيه مستيقظاً. لذا ركز علاجه لاحقاً على كسر الرابط الذي بناه بين التظاهر بالسعادة وبين النجاح.

وبالنسبة للجيل الحالي، تعود جذور كذبة أن العلاج العاطفي بالإيجابية يشفي من كلّ شيء إلى حقبة التسعينيات، حين اعتبر الرئيس السابق للرابطة الأمريكية لعلم النفس مارتن سيليغمان، أن التشاؤم سلوك مكتسب. وبالتالي يمكن، بل يجب تفاديه.

بعض أفضل لحظات حياتك، هي بالحقيقة مزيج من المشاعر

وانتشرت هذه النظرية، وتم تناولها في العديد من الكتب الأكثر مبيعاً، مثل كتاب "السرّ" الذي صدر للمرّة الأولى في عام 2006، من تأليف الأسترالية روندا براين، وهي مديرة تنفيذية في مجال التلفزيون، تحولت إلى الكتابة.

واكتسب أسلوب التفكير هذا المزيد من الزخم بعد أن أعربت الإعلامية أوبرا وينفري عن دعمها له. ويقوم هذا النهج بشكل أساسي على الزعم بأن التفكير الإيجابي قادر أن يحقق لك أي شيء تريديه، سواء كنت تريد طفلاً أو سيارة مرسيديس. وقد تم إنتاج فيلم استناداً إلى الكتاب خلال الصيف الماضي، من بطولة كايتي هولمز، وقد حوّل مباشرة للعرض المنزلي بدون المرور بصالات السينما.

وقد أسهمت الثقافة المعاصرة للشركات في تفاقم هذه النزعة. فقبل الوباء، كان على الموظفين إدعاء الشعور الدائم بالسعادة لأنهم يعملون في مكاتب، وربما لأنها تضمّ طاولات بينغ بونغ أو تقدم وجبات غداء مجانية. واليوم، بعد انتشار العمل من المنزل، بات عليهم أن يشعروا بالامتنان لمجرد أن لديهم وظيفة.

وأشارت ويتني غودمان، وهي معالجة نفسية في ميامي، إلى إن أماكن العمل المماثلة تخلق حالة من الحصار لدى الأشخاص. حيث لا يكون الموظفون قادرين عن التعبير عن مخاوفهم، لأنهم يخشون أن يؤثر ذلك على النظرة إليهم، كأعضاء يتمتعون بروح الفريق، أو على احتمال حصولهم على ترقيات.

وبما أنهم يبقون عالقين في دوامة من المخاوف، التي لا يعبرون عنها، يزيد احتمال أن يفشلوا في النهاية. (سيتم نشر كتابها "الإيجابية السامة" من قبل دار نشر "Penguin Random" في وقت لاحق هذا العام).

وأظهرت العديد من التقارير المستندة إلى تجارب سريرية صدق نظرية غودمان. فقد أثبتت دراسة نشرت في العام 2018 في دورية "الشخصية وعلم النفس الاجتماعي"، أن الأشخاص يزداد شعورهم بالحزن، حين يتوقع منهم أن يخفوا مثل هذه المشاعر ويكبتوها. وقالت بريت فورد، أستاذة علم النفس في جامعة تورونتو، وإحدى معدي الدراسة إن معالجة الإيجابية السامة تتطلب مواجهة المشاعر المزعجة، بدلاً من تجاهلها. وأضافت ناصحة: "لاحظوا هذه المشاعر، اتركوها وشأنها وحاولوا ألا تدفعوا بها بعيداً. وبعدها سوف تزول، المشاعر هي عادة تجارب قصيرة المدى".

إذاً كيف نتأقلم؟

تطرح جودي، أخصائية علم النفس العصبي، اقتراحاً غريباً لضبط (الانحياز الإيجابي)، و يتمثل في تخصيص وقت لمشاهدة فيلم الرسوم المتحركة "إنسايد آوت" (Inside Out) من إنتاج شركة "ديزني بيكسار". وهو فيلم يصور ويشرح المشاعر البشرية بصورة سلسة ومنطقية. وأضافت جودي: "أفضل علاج للإيجابية السامة يكمن في مراجعة نظام القيم لديك. إذ على أن تفهم أن بعض أفضل اللحظات في الحياة، أي تلك التي ينتابك شعور رائع خلالها، هي مليئة بالمشاعر المتضاربة، وهذا ما يجب أن نتقبله كبشر".

كذلك، لابدّ من السماح للآخرين بالتعبير عن مشاعرهم السلبية. ونصحت جودي بإزالة عبارات مثل "على الأقل" من قاموس المفردات التي نستخدمها، والتركيز بدلاً من ذلك على الإنصات التأملي. وقالت: "كرر ما تعتقد أنك سمعته من الآخر بدون أن تضيف شيئاً له. لا داعي لتطبطب دائماً، أو أن تسأل كيف يمكنك المساعدة".

ومن غير المفاجئ أن تعود بارن اليوم مجدداً مع نسخة جديدة من كتابها، بعنوان "السرّ الأعظم" (The Greatest Secret) الذي صدر في شهر نوفمبر من العام الماضي. وبحسب إعلان الكتاب، فأنت مدعو لقراءته من أجل إزالة كلّ السلبية التي تشعر بها، وكأن إزالة السلبية يجب أن يكون هدفاً أساسياً في الحياة، (وقد أعطى أكثر من 80% من المراجعين على أمازون) الكتاب تقييم خمس نجوم، إذ يبدو أنهم لا يريدون أن يكونوا سلبيين ويعطونه تقييماً سلبياً".

وقالت المعالجة النفسية غودمان: "في هذه السنة التي شهدت أزمة تلو الأخرى، عدنا إلى الطرق الغريزية للتأقلم، تلك التي غرست فينا منذ الطفولة، والتي تقول أن علينا أن نتحلى بالإيجابية لتجاوز ما نمرّ به". وأضافت: "صحيح أنه يجب أن ندرك أن هذا الواقع لن يستمر إلى الأبد، مع ذلك، يجب أن نعترف بأن الوضع ليس عادياً".