يجب أن ندع الصين تتجسس علينا

الخصوم يحتاجون لمعرفة بعضهم البعض
الخصوم يحتاجون لمعرفة بعضهم البعض المصدر: Brendan Smialowski/AFP/Getty Images
David Fickling
David Fickling

David Fickling is a Bloomberg Opinion columnist covering commodities, as well as industrial and consumer companies. He has been a reporter for Bloomberg News, Dow Jones, the Wall Street Journal, the Financial Times and the Guardian.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

قد تبدو المنافسة التجارية بين الولايات المتحدة والصين، أنها دخلت مرحلة الهدنة، إلا أنها تشتد في مجالات أخرى.

ويشكل الخوف من التجسس تحت غطاء الأعمال الروتينية مصدر قلق بالغ، حيث أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" (New York Times) مؤخراً أنّ الولايات المتحدة ألغت أو رفضت تأشيرة 30 أكاديمي وخبير سياسات صيني في عام 2108، ما يشير إلى أن نهج الانفتاح النسبي الذي تبنّته مع رجال الأعمال والأكاديميين الصينيين قد انتهى الآن.

ولكن هذه التصرفات خاطئة، ليس لأن الصين لا تحاول التجسس على الولايات المتحدة، بل لأنها تفعل ذلك بالتحديد. ومن هنا فإنّ الاعتقاد بأن الجواسيس لن يعملوا تحت غطاء المجال الأكاديمي هو اعتقاد ساذج، فاستغلال اتحادات الطلاب الصينيين الذين يدرسون في الخارج للمشاركة في عمليات التأثير -والتي تستهدف الطلاب الصينيين على وجه الخصوص- أمرٌ موثق بشكلٍ جيد.

في الواقع، لا يمكن أن يرفض أي أكاديمي أو رجل أعمال صيني التعاون مع قادة الحزب الشيوعي إذا ما طلب منه ذلك.

ومع ذلك، لا بد من تذكّر بعض الأمور، أولها أن كل دول العالم تقريباً توظف عملاء سريين، وسيكون بعض المواطنين الصينيين في الدول الأجنبية جواسيس بلا شك، والأرجح أنهم سيكونون في الولايات المتحدة أكثر من أي دولة أخرى، لأنها المنافس الأهم للصين.

لكن المعلومات التي سيتمكن معظم هؤلاء الجواسيس من الحصول عليها ستكون ذات قيمة هامشية، فالأنشطة الغامضة والسرية التي نربطها عادة بالتجسس هي جزء ثانوي من أعمال التجسس.

أنواع الاستخبارات

في عام 1947، أخبر مدير "الاستخبارات المركزية” الأمريكية آنذاك ألين دالاس" (Allen Dulles) الكونغرس أن أكثر من 80 بالمئة من المعلومات التي تملكها الوكالة جمعتها من مصادر علنية منشورة، أو ما يسمى بـ"استخبارات المصادر المفتوحة" (OSINT)، كالصحف والمجلات التجارية والدراسات الأكاديمية والكتب والوثائق الحكومية والمستندات الخاصة بالمستثمرين في الشركات.

وأدى انتشار الهجرة الجماعية والسياحة والهواتف المزودة بالكاميرات ووسائل التواصل الاجتماعي والخرائط الجوية، إلى ازدياد كمية المعلومات العامة أضعافاً مضاعفة، وتشير بعض التقديرات الأخيرة إلى أنّها تمثل ما يصل إلى 95 بالمئة من البيانات. ويستطيع مسؤولو الاستخبارات في بكين الوصول إلى هذه المواد بسهولة أكثر من خلال البحث على الإنترنت بدلاً من توظيف عملاء في الخارج.

وإلى جانب تدفّق المعلومات الالكترونية، هناك "الاستخبارات البشرية" (HUMINT)، وهي المعلومات التي يجمعها الجواسيس الفعليون، والتي يمكن اعتبارها القطعة الناقصة من الأحجية، إذ تساعد في توضيح الصورة كاملة ولكنها عديمة القيمة إذا كانت منفصلة، ولا تتجاوز قيمة هذه "الاستخبارات البشرية" قيمة الشائعات غير المؤكدة التي تلتقطها صحفية منسية من دبلوماسيين معتمدين ومعارف في الحفلات أو المؤتمرات أو حانات النبيذ في غرب لندن.

ينطبق ذلك على الاستخبارات البشرية الأكثر سرية، التي تتضمن جمع المعلومات الاستخباراتية من خلال العلاقات أو دفع الأموال أو الابتزاز أو التهديد، إذ أنّها لن تكون مفيدة إلّا إذا أُخذت من مسؤولين رفيعي المستوى، الذين يُدرَبون على توخي الحذر عند التعامل مع الزوار الأجانب.

أما المعلومات الأهم فتُجمع بالطبع، عن طريق "استخبارات الإشارات" (SIGINT) (أي أجهزة التنصت وغيرها من المعلومات الإلكترونية) وأنشطة الحرب السيبرانية، كعملية اختراق قاعدة البيانات التي تحتوي على بيانات أساسية لما يقارب من 22 مليون موظف حكومي أمريكي في عام 2015 والتي يقال إنها من عمل الصين.

وبالنظر إلى حجم هذه البيانات المسروقة، ستبدو معلومات "الاستخبارات البشرية" -التي قد يرى أستاذ العلوم الاجتماعية الصيني أنها سرية ومهمة-"بلا قيمة". وهناك نقطة أكثر أهمية، وهي أن الجواسيس الأجانب لا يمثلون دائماً تهديداً خالصاً للأمن القومي للدولة، بل قد يكونون عاملاً في تعزيزه في كثير من الحالات.

تكلفة باهظة

كان سبب الغزو النازي للاتحاد السوفيتي، الذي يعتبر الأقوى والأكثر وحشية في التاريخ البشري، يعود إلى حد كبير لفشلٍ في جمع واستخدام المعلومات الاستخباراتية، فقد تجاهل "ستالين" (Stalin) (رئيس الاتحاد السوفيتي آنذاك) العديد من التحذيرات بشأن قيام ألمانيا بشنّ "حرب خاطفة". وربما كان ذلك بسبب التطمينات التي قدمها له "هتلر" (Hitler) بنفسه. كما استهانت "برلين" بتصميم الاتحاد السوفيتي على مقاومة الغزو وقدرتها على استئناف تصنيع ترسانتها العسكرية بعد التدمير الأولي.

فيما قال الرئيس الأمريكي "دوايت آيزنهاور" (Dwight Eisenhower) بعد إسقاط طائرة تجسس أمريكية في الاتحاد السوفيتي في عام 1960، إن المعلومات التي جمعت بالتجسس كانت من العوامل الرئيسية التي حالت دون تحول الحرب الباردة إلى صراع فعلي.

وتميل الحكومات التي تملك معلومات مفصلة عن دوافع وقدرات الدول الأخرى إلى الحذر والانتباه أكثر للأفعال المتهورة التي قد تتسبب باندلاع حرب، وهذا أحد الأسباب الذي يدفع الدول للحذر الشديد من نظام كوريا الشمالية الغامض؛ فيما تمكّنت العلاقات الألمانية الأمريكية تجاوز أزمة الكشف عن حادثة تنصت واشنطن على الهاتف النقّال للمستشارة الألمانية "أنغيلا ميركل" (Angela Merkel).

النسخة المخفية

ويمكننا القول إن عمليات التجسس ماهي إلا النسخة المخفية من عمليات التفتيش النووي، واتفاقيات الأجواء المفتوحة، والتدريبات العسكرية المشتركة التي تبني الثقة بين القوى المتنافسة بصورة منتظمة. ويجب ألا يكون التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين سبباً في مبالغة واشنطن في التعامل مع محاولات الصين بتحسين معلوماتها الاستخباراتية.

ولا شك أن هناك أسباب وجيهة لتقوية حركة مكافحة التجسس؛ بل وإيقاف العملاء المزدوجين أيضاً، بأساليب أكثر حذراً من تلك التي اتُبعت في حادثة العميلة "كاترينا لونغ" (Katrina Leung)، ولكن لا ينبغي أن يغير هذا حقيقة أنه يجب على المجتمعات المنفتحة تقبل واقع تسرب المعلومات من خلالها.

لا ينبغي لواشنطن أن تنشغل كثيراً بنوايا الصينيين الذين يسافرون كثيراً إلى الولايات المتحدة، فالقيادة الصيينة في عزلة ومشكوكٌ بأمرها بما فيه الكفاية. لذا، لا داعي إلى زيادة هذه العزلة، فما تحتاجه واشنطن من بكين ليس الأصدقاء، بل المنافسون الأذكياء.