التمييز وعدم المساواة في توزيع الدخل قضية تاريخية تستوجب حلولاً طارئة

أحد المشاة يسير على طول شارع وول ستريت بالقرب من بورصة نيويورك، في نيويورك، الولايات المتحدة
أحد المشاة يسير على طول شارع وول ستريت بالقرب من بورصة نيويورك، في نيويورك، الولايات المتحدة المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

عندما يجتمع التاريخ والاقتصاد والسياسة لمناقشة قضية ضاربة في أعماق التاريخ، قضية رافقت بدء نشأة المجتمعات البشرية الأولى، وأشكال النشاط الاقتصادي البشري عبر مراحل تطوره، والخاصة بتوزيع الدخل، سيكون الأمر متشعباً، إلا أننا سنقتصر على إبراز بعض الجوانب التاريخية والاقتصادية في المناقشة والتحليل.

أظهرت النتائج التي توصَّل إليها باحثون من جامعة واشنطن، أنه يمكن تطبيق معامل جيني (نسبة لعالم الاجتماع، والاقتصادي الإيطالي كواردو جيني) على الحضارات السابقة والحالية، لرصد حالة عدم المساواة في الثروة والدخل.

ومؤشر جيني، هو مقياس موجز لعدم المساواة في توزيع الدخل بين السكان، حيث يدمج معامل جيني بيانات الحصص التفصيلية في إحصائية واحدة، تلخص تشتت الدخل عبر توزيع الدخل بأكمله.

يشير مؤشر جيني الأعلى إلى تفاوت أكبر، حيث يحصل الأفراد ذو الدخل المرتفع على نسب مئوية أكبر بكثير من إجمالي الدخل للسكان. وهي وسيلة لقياس توزيع الثروة داخل المجتمعات، وبتعبير بسيط فإن المجتمعات التي يشير فيها معامل جيني إلى 1، فهي غير متكافئة حيث يتم الاحتفاظ بالثروة في أيدي قلة من الأغنياء، بينما في مجتمع به صفر معامل جيني، يتم توزيع كل الثروة بالتساوي، حيث وجد الباحثون أن المجتمعات التي تعتمد على الصيد والتنقل لديها القليل من التفاوت بمعامل جيني بلغ 0.17، إذ أن تنقلهم سيجعل من الصعب تجميع الثروة، ناهيك عن نقلها إلى الأجيال القادمة. وكان لدى المجتمعات الزراعية الأكبر حجماً معامل جيني 0.35، وقدرت نماذج الباحثين أعلى نسبة لمعامل جيني عند 0.59 في العالم القديم، وهي قريبة من 0.56 في اليونان الحديثة، و 0.58 في إسبانيا، وأقل بكثير من 0.73 للصين الحديثة، وبالعودة إلى واقعنا المعاصر نجد أن الفجوة قد ازدادت باطّراد منذ ثمانينات القرن الماضي، ونمت بشكل أسرع في الاقتصادات المتقدمة، مثل بريطانيا، حيث وصل معامل جيني الى 34.6. 0 في السنة المالية 2020، وهو أعلى بنسبة 6.1% عن مستواه في الثمانينات.

أسباب معقدة للتفاوت

وأسباب تفاقم عدم المساواة معقدة، منها التفاوت في الأجور، والتعويضات، والفشل في التكيف مع العولمة، والتغيير التكنولوجي، والسياسة الضريبية، والتمييز العنصري، وكذلك الأزمات الاقتصادية وما ينتج عنها من سياسات نقدية فضفاضة، مع ملاحظة أن تلك التفاوتات تختلف باختلاف البلدان والسياسات، ومدى تأثير العوامل المسببة، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لديهما مستويات مختلفة للغاية من عدم المساواة، على الرغم من تأثيرات مماثلة من التغيير التكنولوجي وتحرير التجارة، يعزى ذلك جزئياً إلى السياسة الضريبية المختلفة.

وفي الولايات المتحدة انخفضت الالتزامات الضريبية لأصحاب المليارات بنسبة 78% (تقاس كنسبة مئوية من ثرواتهم) بين عامي 1980-2018. وعلى المستوى العالمي حتى ما قبل الوباء أصبح التفاوت بين الأغنياء والفقراء أكثر اتساعاً، وبات سمة مشتركة لأغلب البلدان الفقيرة والناشئة والمتقدمة. ويتضح ذلك مع مراجعة التحديث الهائل الذي أصدره مختبر اللامساواة العالمي -كلية باريس للاقتصاد- في نوفمبر 2020 لـ 173 دولة يشكلون 97% من سكان العالم، حيث قدم صورة واقعية عن حالة عدم المساواة العالمية ،مع استحواذ 10% من سكان العالم على ما يقرب من 55% من متوسط الدخل القومي.

وعلى التوالي برزت أمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، باعتبارهم أكثر المناطق تفاوتاً، وبهم عدم مساواة، أما في روسيا وأوكرانيا، فقد استحوذ 10 % من طبقة السكان الثرية على حصة تساوي 47% من الدخل القومي، وفي آسيا تزايد التفاوت داخل البلدان بشكل كبير منذ الثمانينات، أما في الهند فقد ارتفعت الحصة الأكبر من الدخل القومي لأغنى 10% من السكان في الثمانينات من 30% إلى أكثر من 56%، وفي الصين حصة الـ 10% الأغنى ثروة من السكان ارتفعت من 28% إلى 41% من مجمل الدخل القومي، وارتفع أيضاً تركيز الثروة لدى 10% من السكان الأغنياء خلال نفس الفترة الزمنية في الولايات المتحدة من 34% إلى 45% من الدخل القومي، في حين لاتزال أوروبا هي الأكثر مساواة بين جميع المناطق، حيث تحصل 10% من السكان الأثرياء على أكثر من 35% من الدخل القومي. مع التنويه إلى أن التحديث يشير إيضاً إلى نسب حصول الـ 50% الباقين من مجموع عدد السكان على حصتهم الضئيلة من الدخل القومي، وكذلك الـ 1% للفاحشي الثراء واكتفينا فقط بذكر حصة الـ 10% من عدد السكان.

عالم ما بعد الوباء

أما ما بعد الوباء فلا شك أن هنالك جهود مضاعفة بُذِلت لتجنب النتائج الاقتصادية الكارثية، إلا أنها لاتزال دون المستوى المطلوب، في محاولة إحلال المساواة، وتضييق الفجوة، ولو بقدر يسير، في ضوء تضرر 82% من الأسر الفقيرة، و3 من كل 4 أسر عانت من انخفاض الدخل (دراسة استقصائية حديثة شملت 37 دولة - المنتدى الاقتصادي العالمي)، وزعم أكثر من مليوني أسرة في الولايات المتحدة أنه ليس لديها ما يكفي من الطعام منذ بداية الوباء. وعلى المستوى العرقي تقول واحدة من كل خمس أسر أمريكية من أصل أفريقي إنها تعاني من الجوع، في حين شهد 661 مليارديراً في أمريكا نمو ثرواتهم بنسبة 40%، حيث قفزت من 2,9 تريليون دولار إلى 4,13 تريليون دولار في 29 يناير 2021.

وتبدو عواقب ما بعد الوباء واضحة على ضوء البيانات، فهناك المزيد من الجوع والفقر ،وتفاقم عدم المساواة في جميع أنحاء العالم، وهذا ما يطرح تساؤلات عدة عن إيجاد سبل المعالجة الكفيلة للحدّ من زيادة معدلات الفقر والجوع، وردم الهوة بين الفقراء والأغنياء، فالعديد من المعالجات لم يتم اختبارها وتأثيرها ومنها:

  • قانون ضريبي أكثر تصاعدية، وهو أحد الأدوات لمعالجة عدم المساواة في الدخل، مما يعني أن الدخل المرتفع يخضع للضريبة بمعدل أعلى من الدخل المنخفض. ويجادل بعض الخبراء والسياسيين بأن تحويل المزيد من الأموال من الأغنياء من شأنه أن يقلل من عدم المساواة، حيث ينظر إلى ضرائب الثروة على أنها أفضل طريقة لعكس الزيادة الهائلة في تركيز الثروة لدى فئة قليلة من المجتمع. وفي القرن الواحد والعشرين الذي شهد زيادات هائلة منذ الثمانينات في رأس المال، حيث تجاوزت العوائد الاقتصادية للأصول المعدل الإجمالي للنمو الاقتصادي. وفي حين يعارض البعض من السياسيين فرض مثل هذه الضريبة، على أسس دستورية، وأنها ستقلل الاستثمار والتوظيف والإنتاج، نرى من جهة أخرى المدافعين عنها يعترفون بأنها ستطعن في المحكمة وما قد تتطلبه من إمكانيات إدارية كبيرة لتحديد المبالغ المستحقة للحكومة وضمان الامتثال.
  • ومن المفارقات أن بعض الأثرياء قد يتخلون عن جنسيتهم لتجنب الضرائب، وبالتجربة طبّق الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ضريبة فائقة بنسبة 75% على الرواتب التي تزيد عن 1.3 مليون دولار، وسحبها هولاند في بداية 2015، بعد أن تسببت الانخفاضات في الاستثمار إلى انخفاض الإيرادات التي ترجع جزئياً إلى الضرائب، كونها تجعل فرنسا وجهة استثمارية أقل جاذبية، وبدورنا نقول، إنه يجب أن تكون الأهداف الأساسية لصنع السياسة الضريبية هي زيادة الإيرادات بطريقة عادلة و منصفة لضمان مساهمة الأفراد الأكثر ثراءً بحصتهم من العبء الضريبي، وأن تكون أكثر فعالية في إعادة التوزيع إلى الفئات الأقل دخلاً وإغلاق السبل أمام التهرب الضريبي الذي يسمح للأفراد والشركات بتجنب مسؤولياتهم أمام المجتمعات.
  • وضع حد أدنى للأجور وزيادته نظرا ًلأن الأجور تمثل حوالي 70-80 % من دخل الأسرة المتاح (منظمة العمل الدولية 2020)، إذ يسود التردد والانقسام بين جموع كبار الاقتصاديين وواضعي السياسات، أما التردد فيرجع إلى الخوف من ارتفاع معدلات العاطلين عن العمل نتيجة التكاليف التي قد تتحملها الشركات. فقد قدر مكتب الميزانية في الكونغرس الأمريكي أن رفع الحد الأدنى للأجور إلى مستوى 15 دولاراً من شأنه أن يرفع أرباح 27.3 مليون عامل، ولكنه سيؤدي إلى فقدان 1.3 مليون وظيفة، في حين خَلصت بعض الدراسات الأكاديمية أن الزيادات المتواضعة في الحد الأدنى للأجور لم تؤدِ إلى فقدان وظيفي يمكن اكتشافه، وأن إجمالي الدخل السنوي للأسر ذات الدخل المحدود سيرتفع بشكل ملحوظ. تاريخياً أدت الزيادات في الحد الأدنى للأجور إلى 20% من الانخفاض في الفجوة، ما بين مكاسب السود والبيض في السنوات التي تلت ذلك، ومن وجهة نظرنا أن أي زيادات في الحد الأدنى للأجور ستبقى منقوصة في ضوء الارتفاع المحتمل ما بعد الوباء لمستويات التضخم، وعدم وجود برامج حكومية داعمة لتطوير العمالة، ورفع مهاراتهم للمواءمة مع التغييرات في سوق العمل، والتي أحدثها التقدم التكنولوجي، تحسباً لحالات التسريح التي قد تطولهم (ذوي المهارات المنخفضة) في حال الزيادات المحتملة في الأجور، التي لا تتحمل تكلفتها الشركات، وكذلك يعدّ التركيز على التعليم واتاحته بكافة مراحله لذوي الدخل المحدود ضرورياً أيضاً لتحقيق المساواة في سوق العمل (كون أعلى الأجور تُدفَع لأصحاب الشهادات الجامعية، وأصحاب الكفاءات العلمية العالية)، والتي تعد محركاً أساسياً (أي الأجور) لعدم المساواة في الدخل.

لا شك أنها قضية تزداد إلحاحاً وتتجاوز الأبعاد الاقتصادية لمسألة عدم المساواة، وتستوجب حلولاً طارئة، ولابد من رسم سياسات تفضي إلى إحلال نوع من العدالة الاجتماعية، والتي إن لم تحدث، فإنها ستؤدي بالضرورة إلى ظهور مشكلات أعمق، وتزيد الانقسامات المجتمعية والإحجام عن المشاركة السياسية، وظهور تيارات يمينية متطرفة، تهدد بحدوث انهيار في السِلم الأهلي، وتقوّض سلطات دول بأكملها.