عشرينات القرن الماضي ودروس الوباء الجديد.. هل يعيد التاريخ نفسه؟

هل تتطابق عشرينات القرن الماضي مع القرن الحالي؟
هل تتطابق عشرينات القرن الماضي مع القرن الحالي؟ المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في يوم بارد شديد الرياح، وقف الرئيس الأمريكي الجديد ليؤدي اليمين الدستورية أمام مبنى الكابيتول، داعياً إلى "وحدة جديدة في الروح والهدف" من أجل لمّ شمل أمّة ترزح تحت وطأة الوباء وارتفاع معدلات البطالة، فيما لفت غياب سلفه عن المنصة الأنظار.

وقبل نحو قرن من الزمن، شكل حفل تنصيب الرئيس وارن جي. هاردينغ في 4 مارس من عام 1921 بداية غير واعدة لعقد كان تاريخياً. وكان الجوّ القاتم يوم حفل التنصيب لا يوحي بأن أمريكا كانت على وشك دخول عقد من التألق.

وشهدت سنوات "العشرينات الصاخبة"، التوسع في استخدام خطوط التجميع في المعامل، وظهرت السيارات وأجهزة الراديو والأفلام السينمائية والسباكة الداخلية والمعدات الكهربائية الموفرة لليد العاملة. كما نشأت النزعة الاستهلاكية والثقافة الجمعية. وشهدت هذه السنوات في كبرى مدن العالم طراز بناء الـ"أرت ديكو" الراقي، وموسيقى الجاز وأزياء "كوكو شانيل"، وعايش الناس ظهور "والت ديزني" و"غاتسبي العظيم" وحركة "نهضة هارلم". وشكلت العشرينات أول عقد عصري حقيقي، بحسب وصف جين سمايلي، خبير الاقتصاد التاريخي في جامعة "ماركيت".

واليوم، فيما تواجه الولايات المتحدة الوباء مرة أخرى، فإنه لا بدّ من السؤال عمَّا إذا كان التاريخ سيعيد نفسه. فحين ينحسر الفيروس، هل ستكون عشرينات القرن الواحد والعشرين صاخبة كذلك، كما كانت عشرينات القرن الماضي؟

تحولات سريعة

والحقيقة، أن الأمر ليس بالمستحيل. فقد أظهر العام الماضي أن الاقتصاد والمجتمع قادران على خوض تحولات سريعة. فقد تم تطوير اللقاحات ضد فيروس كورونا بسرعة قياسية، وتأقلم العالم مع العمل عن بعد بين ليلية وضحاها. وأنتجت شركة "تسلا" نحو نصف مليون سيارة كهربائية في عام 2020 على الرغم من الوباء. وفي لندن، تمكنت وحدة تابعة لشركة "ألفابيت" من حلّ لغز علمي عمره أكثر من نصف قرن، مستخدمة الذكاء الصناعي، وذلك من أجل التنبؤ بدقة بكيفية انطواء البروتينات، وهو ما قد يسهم في إحداث ثورة في عالم صناعة الأدوية.

ومع ذلك، تشير كافة التوقعات إلى أن الولايات المتحدة ستستمر في مواجهة "ركود طويل الأمد"، وهو عبء اقتصادي يثقل كاهل الدول المتطورة حول العالم. وتشمل الظروف المهيئة لهذا الركود شيخوخة السكان وبطء نموّ القوة العاملة وضعف الطلب على الاقتراض، ما يجعل مثل هذه الظاهرة مقاومة للمعالجات النقدية التقليدية.

ومن المؤشرات التي تنبئ بعدم تعليق المستثمرين آمالهم على احتمال أن يكون العقد المقبل مختلفاً، وهو العائد على أذونات الخزانة المحمية من التضخم لمدة عشر سنوات، والذي بلغ حوالي -1%، في وقت سابق، بعد أن كان قد بلغ 4% في حقبة فورة التكنولوجيا في التسعينات.

وعلى الرغم من الاختلافات بين العقدين، فمن خلال الاحتذاء بالأمور الجيدة التي حدثت في عشرينات القرن الماضي، وتفادي تكرار الأخطاء، يمكن جعل عشرينات القرن الواحد والعشرين عقداً ناجحاً استناداً إلى معايير اليوم.

عام استثنائي

ويقول الباحث الاقتصادي في جامعة "روتجرز" أوجين وايت إن العالم في سنة 2021 "هو خليط هجين من عشرينات القرن الماضي من نواح عدة". فاليوم، مثل الماضي، أسعار الأسهم مرتفعة نسبة لأرباح الشركات. كذلك، تذكّر الشكوك التي تحوم حول المنظمات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، بالمشاعر التي كانت تختلج المسافرين في عشرينات القرن الماضي. كما عاد التوتر إلى العلاقات بين الأعراق، على الرغم من تحسن أوضاع الأمريكيين السود بشكل كبير مقارنة بما كانوا عليه قبل قرن من الزمن. كذلك ارتفعت الرسوم الجمركية في عهد الرئيس دونالد ترمب كما حصل في عشرينات القرن الماضي. كذلك، يتذمر الأمريكيون اليوم من تسلط الحكومة، مثلما كانوا يفعلون في فترة حظر الكحوليات. كما كانت عشرينات القرن الماضي، العقد الأول الذي سجل تراجعاً في عدد سكان الأرياف مقارنة بالمدن، وفي عشرينات القرن الواحد والعشرين، يشعر البيض من سكان الأرياف في الولايات المتحدة بخيبة أمل بعد فشل إعادة انتخاب الرئيس ترمب.

أوجه الشبه اقتصادياً

ولم تكن بداية عشرينات القرن الماضي موفقة. فعلى الرغم من انحسار الأنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة أكثر من 600 ألف أمريكي من أصل مئة مليون نسمة، كانت الولايات المتحدة غارقة في انكماش اقتصادي قائم منذ ثمانية عشر شهراً. ونجم عن ذلك أكبر انخفاض في مبيعات الجملة وفي أسعار المستهلك خلال 140 عاما على السجلات. فمعجزة العشرينات الاقتصادية لم تبدأ فعلياً في الظهور إلا في يوليو 1921، وذلك مع انتهاء فترة الركود، وبدء عقلية الفورة الاقتصادية في الترسخ.

وفي صيف عام 2021، ومع التوقعات بالتقدم الذي قد يحققه توزيع اللقاحات، من المتوقع أن يتكرر الصخب الذي راج في عشرينات القرن الماضي مع خروج الناس من تقوقعهم الناجم عن تفشي الفيروس من أجل الاحتفال بالحياة مرة أخرى. ويتوقع الخبراء الاقتصاديون الذين استطلعت "بلومبرغ" آراءهم أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي أكثر من المعدل العام، بعد اجتياز ربع أول صعب، فيما يشير متوسط التوقعات أن يرتفع الناتج الإجمالي المحلي إلى نسبة أقصى تبلغ 4.7% على أساس سنوي في الربع الثالث من العام الحالي.

طلب مكبوت

وتكثر الأدلة على وجود طلب كبير مكبوت، فانطلاقاً من الثقة برغبة الناس في العودة إلى الحياة الاجتماعية، أعلنت شركة "كارنيفال" عن عزمها استقبال الركاب على متن سفينتها الكبرى "ماردي غرا" التي تتسع إلى خمسة آلاف ومئتي راكب ابتداءً من أبريل المقبل.

ومع استعادة الأمريكيين لحريتهم بالتجول، قد يختارون كما أسلافهم من أبناء "الجيل القديم أن يعيشوا اللحظة، وأن يعيشوا بسعادة وحب، حسبما قال الناقد الأدبي مالكوم كاولي.

صحيح أن هذه المشاعر الاحتفالية رائعة، لكنها لا تكفي لدعم عقد من النموّ. أمّا المؤشر الصارخ على احتمال تكرار حقبة عشرينات القرن الماضي فيتمثل بمساهمة الإغلاق الناجم عن الوباء في تسريع تبني تقنيات الاتصال عبر الفيديو والتجارة الرقمية، حيث سيواصل المجالان تحقيق الأرباح لفترة طويلة بعد انحسار الفيروس.

وقالت شركة "ماكنزي أند كو" إن استطلاعاً عالمياً للمديرين التنفيذيين كشف أنهم متقدمون "بشكل صادم" بسبع سنوات عن المرحلة التي كانوا يخططون لبلوغها على صعيد حصص المنتجات الرقمية أو المستندة إلى تقنيات رقمية ضمن محافظ الشركات. ولا يزال المجال مفتوحاً أمام تحقيق المزيد من التقدم، فقد أشارت مؤسسة "كوين ريسرتش" إلى أن ما يقرب من نصف مستخدمي التكنولوجيا الذين قابلتهم قالوا إنهم في المراحل الأولى للانتقال نحو الحوسبة السحابية.

موقف التكنولوجيا

وتكمن صعوبة التنبؤ بالتقدم الذي يتم تحقيقه على الصعيد التكنولوجي في تحديد الموقع الذي يحتله منتج ما على المنحنى الخاص بتبني المنتجات التكنولوجية. فلنأخذ الروبوتات على سبيل المثال. ففي عشرينات القرن الماضي، أسرت العالم مسرحية خيال علمي عن الروبوتات من تأليف الكاتب التشيكي كارل تشابيك، ولكن بعد نحو قرن من الزمن، لم ترتق الروبوتات إلى الآمال التي كانت معقودة عليها، أو حتى إلى مستوى المخاوف التي كانت تثيرها.

وبحسب الاتحاد الدولي للروبوتات، استغرق تضاعف عدد الروبوت في الولايات المتحدة 13 سنة، من عام 2005 حتى 2018. فبالنسبة للمتشائمين، يمثّل ذلك منحنى مسطحاً إلى حدّ ما، أمّا المتفائلون فيرون أن الروبوتات لا تزال في أسفل منحنى تبني المنتجات التكنولوجية، وتستعد لتصبح رائجة في أي لحظة.

ويرى المتشائمون حيال توجهات السوق أن توسع القوة العاملة والمكاسب في التعليم لا توازي تلك التي حققت في عشرينات القرن الماضي. وكذلك، على الرغم من تحقيق قطاعيْ التكنولوجيا والتقنيات الحيوية إنجازات مدهشة، إلا أنها لا ترتقي إلى مستوى التكنولوجيات التحويلية ذات الأغراض العامة مثل المعدات الكهربائية ومحركات الاحتراق الداخلي، التي أسهمت في تغذية النموّ قبل قرن من الزمن. وهنا نتذكر الجملة الشهيرة للمخترع بيتر ثيل حين قال "أردنا سيارات طائرة، ولكننا حصلنا على 140 حرفاً" في إشارة إلى التغريدات عبر موقع "تويتر" (ارتفع عدد الأحرف المسموح بها إلى 280، ولكن المغزى واحد).

وبالنسبة للأمريكي العادي، تغيرت الحياة من عام 1920 إلى 1929، أكثر مما يتوقع أن تتغير من 2020 إلى 2029. فالكهرباء منحتنا البرادات (بدلا من صناديق الثلج) والغسالات (بدلا من ألواح الغسيل وآلات العصر على اليد) وجهاز الراديو (بدلا من عزف أختك على البيانو). وبفضل الكهرباء، ما عادت المعامل مضطرة للاعتماد على الطاقة من محرك واحد يتصل بالآلات بواسطة أحزمة وبكرات غير فعالة ومثيرة للضجيج.

كذلك، ظهر محرك الاحتراق الداخلي في عشرينات القرن الماضي، وأسهم في صناعة السيارات والشاحنات ومعدات المزارع والطائرات. كما ازداد عدد السائقين المسجلين بثلاثة أضعاف خلال ذلك العقد، وأدت فورة السيارات إلى موجة من الاستثمارات في الطرق وفي الضواحي، بالإضافة إلى المزيد من الاستثمارات في إنتاج المطاط والصلب والزجاج والوقود.

عصر مختلف

ويعتبر الباحث الاقتصادي روبرت غوردن من جامعة "نورث وسترن" من أبرز مؤيدي فكرة أن هذا الزمن المعاصر لا يرتقي إلى الزمن المعاصر الغابر. وبطلب من "بلومبرغ بيزنيسويك"، قام غوردن بمراجعة البيانات حول إنتاجية العمّال في كامل الاقتصاد من العام 1893 إلى 2019، مجمعاً البيانات ضمن مراحل متساوية تقريباً تبدأ وتنتهي عند نقاط مرتفعة في دورة الأعمال. واستندت أرقام الفترة التي تنتهي في عام 1948 إلى كتابه "صعود وهبوط النموّ الأميركي: مستوى الحياة في الولايات المتحدة منذ الحرب الأهلية" ، و استند إلى البيانات الحكومية فيما خصّ السنوات التالية.

وتظهر البيانات التي جمعها غوردن أن نموّ الإنتاجية حقق قفزة في عشرينات القرن الماضي، وبقي مرتفعاً لنصف قرن، قبل أن يتراجع في العام 1973. وقال في رسالة الكترونية "على الرغم من أن نموّ الإنتاجية سينتعش إلى حدّ ما على الأرجح في عشرينات القرن الواحد والعشرين مقارنة بالمعدل القياسي المنخفض الذي كان قد سجل في العقد الأول من القرن، إلا أنه من المستحيل تحقيق نموّ مستدام طول عقد من الزمن يوازي إنجاز عشرينات القرن الماضي".

أمّا الدرس المكتسب فيتمحور حول أهمية التوقيت. فعشرينات القرن الماضي كانت صاخبة وهامة لأن الاختراعات التكنولوجية التي بدأ العمل عليها قبل عقود، باتت أخيراً جاهزة للاستخدام الجماهيري. ولكن الوضع قد يختلف اليوم.

أوجه الشبه اجتماعياً

وربما تكون أوجه الشبه على الصعيد الاجتماعي بين عقديّ العشرينات أكبر من أوجه الشبه الاقتصادية. فاليوم مثل الأمس، تبدو أميركا منقسمة بين مجتمع حضري سريع الحركة ومتعدد الأعراق يضمّ المهاجرين من جهة، ومجتمع ريفي من المحافظين البيض الذي يحنون إلى ماض يرونه أكثر نقاوة وأقل اضطراباً من جهة أخرى. وقد انتخب الأميركيون ثلاثة رؤساء جمهوريين في العشرينات، وهم: هاردينغ وكالفين كوليدج وهيربيت هوفر. وتعهد هاردينغ بـ"العودة إلى الاستقرار الطبيعي"، فيما بدا كوليدج، ابن فيرمونت قليل الكلام "أشبه بلاجئ متردد من القرن السابق" بحسب وصف نايثن ميلر في كتابه "بداية عالم جديد: عشرينات القرن العشرين وصناعة أميركا المعاصرة".

وفي عشرينات القرن الماضي، كانت الحقبة التقدمية الإصلاحية التي بدأت في حوالي عام 1900 قد فقدت بريقها، في حين كانت لم تبدأ بعد رزمة البرامج الاقتصادية الحكومية الكبرى تحت عنوان "الصفقة الجديدة". فأطلق العنان لقطاع الأعمال. وكتبت صحيفة "وول ستريت جورنال" في مقال نشر عام 1928 "لم يسبق أن حصل هذا، لا هنا ولا في أي مكان آخر، حيث اندمجت الحكومة إلى هذا الحدّ مع قطاع الأعمال". وقال كوليدج: "الرجل الذي يبني مصنعاً، هو نفسه يبني معبداً. الرجل الذي يعمل هنا، يصلّي هناك أيضاً".

وربما يكون إيلون ماسك هو هنري فورد هذا القرن، إلا أن مجتمع اليوم مشكك في كون ما هو جيد للأعمال، هو بالضرورة جيد للبلاد أيضاً.

عقد ذو وجهين

ويصف غوردن عشرينات القرن العشرين بـ"عقد جانوس الروماني ذي الوجهين، الذي تحدّى التصنيفات البسيطة". فقد كان عصرا للتحرر، كسبت فيه النساء الحق في التصويت واستطعن ارتداء التنانير القصيرة وتدخين السجائر واختيار ما يردن لأنفسهن، فيما حصد الشعراء والكتاب والموسيقيون السود جمهوراً واسعاً. وكتب الشاعر لانغستون هيوز عن ذلك: "كانت الحقبة التي ظهر فيها رجل أسود في مجلة فوغ".

ومع ذلك، استمرّ التمييز ضدّ النساء، وواجه السود والمهاجرون ظروفاً أصعب. وفي عام 1921، أحرقت عصابة من البيض أكثر من 1200 منزل في حيّ للسود في بلدة توسلا في أوكلاهوما. وفي عام 1925، شارك الآلاف من أعضاء جماعة الـ"كو كلوكس كلان" في مسيرة في جادة بنسلفانيا في واشنطن. وكان قانون الهجرة الصادر في عام 1924 أغلق الأبواب في وجه المهاجرين القادمين من آسيا، وشدد القيود على المهاجرين القادمين من جنوب وشرقي أوروبا، لدرجة أن هذا النظام نال إعجاب الزعيم النازي أدولف هتلر الذي قال في كتابه "كفاحي" إن "الاتحاد الأميركي يرفض بشكل قاطع هجرة الأشخاص الذي لا يتمتعون بصحة جيدة جسدياً، ويستثني ببساطة هجرة بعض الأعراق".

وقد كانت عشرينات القرن الماضي مرحلة ازدهار على العموم، ولكنها شهدت أيضاً ارتفاعاً في انعدام المساواة على صعيد الدخل والثروة وتعمقت الانقسامات في داخل المجتمع. وساد حظر الكحوليات الذي دخل حيز التنفيذ في عام 1920 محدثاً انقساماً بين مؤيدين ومعارضين. وأبلى عمّال المعامل والمستثمرون في البورصة والشركات الكبيرة بلاء حسناً، إلا أن قطاع الزراعة الذي كان لا يزال ضخماً حينها تعرض لصدمة إثر تراجع أسعار منتجات المزارع بنسبة 53% في فترة الركود بين عاميّ 1920 و1921، واستغرق تعافيه سنوات طويلة.

واتسمت السنوات الثلاث الأولى من عهد الرئيس ترمب هي الأخرى بنموّ اقتصادي قوي أنعش العديد من القطاعات، ولكن ليس جميعها. مثلاً، انخفضت البطالة في أوساط الأميركيين السود إلى معدلات قياسية، إلا أن جائحة كورونا قضت على الكثير من التقدم المحقق. وإلى جانب إنقاذ الأرواح، يشكل إعادة فتح الاقتصاد من أجل إنعاش الأشخاص الأقل ثراء السبب الثاني الذي يدفع الرئيس بايدن لتسريع عملية توزيع اللقاحات.

دروس ما بعد الحرب العالمية الأولى

ولربما الدرس الأهم الذي على عشرينات القرن الواحد والعشرين أن تتعلمه من عشرينات القرن الماضي، هو ما يتعلق بمخاطر الانعزالية. فقد خرجت الولايات المتحدة منتصرة من الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، كأكبر اقتصاد في العالم وأكبر دولة مُقرضة في العالم، بعد أن أقرضت الأموال لقوات الحلفاء من أجل تمويل المجهود الحربي.

ومع ذلك، ترددت الولايات المتحدة في تولي مسؤولية القيادة العالمية. فالانعزاليون في الكونغرس الذين سئموا من أوروبا وحروبها الدموية، عارضوا انضمام الولايات المتحدة إلى عصبة الأمم. ومن خلال تبني سياسات مالية ونقدية صارمة، رمت الولايات المتحدة انكماشها على دول أخرى. كذلك، أصرّت واشنطن على أن تسدد المملكة المتحدة وفرنسا ديون الحرب حتى آخر فلس، ما اضطرهما إلى دفع الأموال إلى الأميركيين عبر إلزام ألمانيا بدفع تعويضات لهما، ما أثار المزيد من الاستياء في صفوف الألمان، وأسهم في صعود هتلر.

بينما تغير هذا الوضع كثيراً اليوم. فالولايات المتحدة باتت دولة مدينة، تستهلك أكثر ممّا تصنع. وكان الرئيس ترمب على حق حين طرح هذه المشكلة. فالولايات المتحدة تراكم على نفسها الديون فيما تفرغ قدرتها الإنتاجية. ولكن كما في عشرينات القرن الماضي، لا تستطيع الولايات المتحدة الهرب من الواجبات المفروضة عليها كونها أكبر اقتصاد في العالم. فقد تعلم الأميركيون هذا الدرس بعد الكارثتين المزدوجتين، أي الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية.

وكانت الولايات المتحدة قد لعبت دوراً رائداً في تأسيس الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما قادت الدفع نحو تخفيض الحواجز الجمركية، ما مكّن الدول الفقيرة والدولة التي دمرتها الحروب من تحقيق الازدهار عبر التجارة. من ناحيتها، وضعت دول مثل ألمانيا وفرنسا طموحاتهما الاستعمارية جانباً، وركزتا على تحسين نوعية الحياة.

العودة إلى الانعزالية

ويقول المؤرخ آدم توزي من جامعة كولومبيا، مؤلف كتاب "الطوفان: الحرب العظمى، أميركا وإعادة صنع النظام العالمي، 1916 -1931": "إذا سألت مواطناً أوروبياً عادياً ما الذي يثير اهتمامه، فإجابته ستكون على الأرجح كرة القدم".

خلال السنوات الأربعة التي قضاها في سدّة الرئاسة، أعاد الرئيس ترمب إنعاش مفهوم الانعزالية، فرفع مجدداً شعار "أميركا أولاً" الذي استخدمه هاردينغ في حملته الانتخابية في العام 1920 والذي دعمته في حينها "لجنة أميركا أولاً" المعادية للسامية والمتعاطفة مع الفاشية، والتي سعت من أجل منع الولايات المتحدة من المشاركة في الحرب العالمية الثانية.

ويحذر المؤرخ آدم توزي إنه في غياب القيادة الأميركية، فإن دولاً مثل كينيا وأثيوبيا ونيجيريا وماليزيا وفيتنام قد تسقط في محور الصين. وأضاف: "مثل ما حصل في العشرينات، نحن الآن أسوأ أعداء لأنفسنا". واليوم على الرئيس بايدن أن يحاول أن يثبت مجدداً أن الولايات المتحدة شريك عالمي موثوق.

وفي غضون ذلك، فإن النظرية القائلة إن جائحة كورونا ستمكن الولايات المتحدة من القفز نحو مستقبل مشرق ليست منفرة فحسب، بل خاطئة أيضاً. فالأوبئة تلحق أضراراً بالمجتمعات تتجاوز حصيلة الوفيات. ففي أكتوبر الماضي، أصدر صندوق النقد الدولي ورقة عمل أعدها كبير الخبراء الاقتصاديين تحسين سعدي صديق، والخبير الاقتصادي روي تشو كشفا فيها عن حلقة مفرغة. حيث تؤدي الأوبئة إلى انخفاض الإنتاج وزيادة انعدام المساواة، ويتسبب ذلك في اضطرابات اجتماعية تسهم بدورها في انخفاض الإنتاج ومفاقمة انعدام المساواة. واستندت الدراسة إلى متابعة تفشي الأوبئة في 133 دولة بين عاميّ 2001 و2018. وقال الباحثان: "تظهر النتائج التي توصلنا إليها إنه في حال عدم اتخاذ إجراءات على صعيد السياسات، فإن جائحة (كوفيد-19) ستؤدي على الأرجح إلى مفاقمة انعدام المساواة وإلى اندلاع اضطرابات اجتماعية وخفض الناتج المستقبلي في السنوات المقبلة".

أمّا الدرس الأخير الذي تعطيه لنا عشرينات القرن الماضي هو أن التاريخ قادر فعلاً على تعليمنا الكثير، وهذا أمر لم تستوعبه القوى المحركة لذلك العقد المجنون.

وقد قال فورد في العام 1916: "التاريخ أمر تافه إلى حدّ ما. إنه يتعلق بالتقاليد، ونحن لا نريد التقاليد. نريد أن نعيش في الحاضر، والتاريخ الوحيد الذي يستحق أن نفكر فيه هو التاريخ الذي نصنعه اليوم".

لم يكن التأمل في الماضي في صلب فترة العشرينات. فبعد سنوات قليلة، في عام 1931، قال فريدريك لويس ألن في كتابه "البارحة فقط: تاريخ غير رسمي لعشرينات القرن العشرين": "إن الناس الذين كانت تعبت أعصابهم اليوم، باتو يتوقون للمسكنات والمهدئات المتمثلة بالسرعة والحماسة والشغف". اليوم، أعصابنا تعبت أيضاً. ولكن التعلم من الماضي قد يساعدنا على بدء عملية الشفاء.