رامي مخلوف.. قيصر الاقتصاد السوري تطارده الحكومة والديون

رجل الأعمال السوري رامي مخلوف
رجل الأعمال السوري رامي مخلوف
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد ظهر أحد أيام شهر يوليو الحارة قبل 20 عامًا، وقف رامي مخلوف في خيمة نُصِبَت في أحد ميادين وسط العاصمة السورية دمشق، وامتدح فضائل ابن عمِّته بشار الأسد، وبعد مرور عدة أيام، تولى بشار رئاسة سوريا، التي ورثها عن والده، من خلال استفتاء.

اليوم، يواجه مخلوف مشكلات قانونية جمة، ويبدو أنه غير قادر على التواصل مباشرة مع ابن عمته، الزعيم الأسد الذي كان قد حوّله من رجل أعمال إلى قيصر اقتصاديّ لا ينازعه أحد في سوريا.

وبات اليوم يسمح للسلطات بالاستيلاء على ممتلكاته بعد نزاع مع الحكومة حول 180 مليون دولار.

خلاف الأسد ومخلوف أصاب السوريين بالصدمة والذهول

وأُصيب السوريون بالصدمة والذهول من الخلاف الأُسَري الذي ظهر علنًا في يونيو 2020، بعد نشر مخلوف لمقاطع فيديو على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك للتعبير عن تظلُّمه وشكواه.

وتحوّل الرجل، البالغ من العمر 50 عامًا، من أحد أكبر المدافعين عن الأسد إلى عدوٍّ داخل الطائفة العلوية التي كانت في مركز القوة في الدولة الشرق أوسطية منذ عام 1970.

كل التركيز كان مُنصَبًّا على القوة التي حطمت العلاقة بين الرجلين القويين، ورغم ذلك فإنّ القضية الحقيقية تكمُن في النقطة التي قد تتنقل إليها سوريا بعد ذلك.

ويأتي تراجع ثروة مخلوف في الوقت الذي يعاني فيه النظام من حرب أهلية دامت 9 أعوام ودمرت الاقتصاد.

وقد يكون الخلاف أشبه بمسلسل تليفزيونيّ طويل، ولكن قد يكون الأمر أيضًا أقرب إلى السعي بشكل مستميت إلى المال، ومحاولة لجعل مخلوف عبرة لغيره، ليقتنع الجميع أن التغيير صار حتميًّا.

العقوبات تنهك الاقتصاد السوري

الاقتصاد السوري لا يزال يعاني من العقوبات الغربية، وقد مدّد الاتحاد الأوروبي في مايو الماضي ما اتخذه من إجراءات لمدة عام.

وفي عام 2018 قدّرت الأمم المتحدة أنّ الحرب كلّفت اقتصاد سوريا نحو 388 مليار دولار.

وإذا أرادت سوريا جذب المستثمرين لإعادة الإعمار، فإنه يتعيَّن عليها تبنّى بنية سياسية واقتصادية أكثر شفافية وأقلّ فسادًا، على الأقلّ ظاهريًّا، على حدّ قول أيهم كامل، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجموعة "Eurasia"، التي تقدّم النصائح لعملائها بشأن المخاطر السياسية.

وأضاف أيهم، "الآن أصبح رامي من ظواهر الماضي، وهذا الجهد المبذول يهدف إلى تدميره كلاعب منفرد، السمة الرئيسية حاليًّا للاقتصاد السوري تتلخص في التوجُّه نحو نظام مجزَّأ بقيادة لوردات الأعمال الجُدد، سواء الذين خرجوا من البلاد في أثناء الحرب أو غيرهم من الذين بقوا في سوريا".

الليرة تهوي وأسعار السلع تقفز

أمّا الليرة السورية، التي كانت تُتداول بنحو 50 ليرة للدولار حين اندلاع الصراع في مارس 2011، فقد خرجت عن السيطرة بسرعة يصعب تتبعها.

فمنذ منتصف مارس ارتفعت أسعار السلع الأساسية في البلاد بنسبة تتراوح بين 40 و50%، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.

ومؤخرًا، أضرت القيود المفروضة لمكافحة وباء فيروس كورونا بالأعمال المتعثرة أصلًا في سوريا، وكذلك تسبب الانهيار المصرفي في لبنان المجاورة باحتجاز مليارات الدولارات التي أُودعت هناك مِن قِبل سوريين.

قبل بضع سنوات، عندما قرر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان محاسبة أحد الأقارب الأثرياء، لقي ذلك أصداء لتعزيز حُكمه للسعودية، لكن الأمر مختلف كُلّيًّا بالنسبة إلى الجارة العربية، إذ بات الأسد اليوم يسير على حبل رفيع، ويتعيَّن عليه إجراء إصلاحات اقتصادية مع الحفاظ على دائرته الداخلية، خصوصًا مع غياب المساندة الكبيرة من إيران وروسيا، اللتين تخوضان حروبهما الاقتصادية الخاصة.

ما قصة ديون مخلوف للحكومة؟

في قلب النزاع، تقول الحكومة السورية إنّ مخلوف مَدين لها برسوم تشغيلية غير مسددة من شركته "سيريتل"، شركة اتصالات في سوريا.

وفي أواخر مايو، أعلنت سوق دمشق للأوراق المالية تعليق التداول على أسهم "سيريتل" حتى إشعار آخر، وكان رامي مخلوف قد نشر مقطع فيديو على فيسبوك في 30 أبريل، تلاه مقطعان آخران في مايو، أكّد خلالهما تسديده جميع الرسوم المستحقة للحكومة، بما في ذلك 12 مليار ليرة سورية ضرائب عن 2019.

حينها، وجَّه مخلوف حديثه إلى الأسد مخاطبًّا إياه بـ"السيد الرئيس"، وطالبه بإرسال شخص للتحقق من المستندات التي تثبت أنه سدَّد الرسوم المطلوبة منه.

وأشارت مقاطع الفيديو إلى انقطاع التواصل المباشر بينه وبين ابن عمّه، بينما يظلّ الأسد (54 عامًا) صامتًا علنًا بشأن هذه القضية، وقد منعت الحكومة مخلوف من السفر واعتقلت كبار موظفيه وصادرت ممتلكاته والممتلكات التي تخص زوجته وأولاده.

عقوبات أمريكية على مخلوف

وفي عام 2008 فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على مخلوف، واصفةً إياه بأنه رجل أعمال سوريّ قويّ من داخل النظام الحاكم الذي "يستفيد بشكل غير أخلاقيّ من فساد مسؤولي النظام السوري ويساعدهم".

في فيديو بتاريخ 17 مايو، قال مخلوف إنّ الإجراءات الأخيرة ضده وضد "سيريتل" لن تؤدي إلا إلى تدمير واحدة من الشركات المربحة القليلة التي لا تزال موجودة في البلاد، والتي قال إنها توظِّف أكثر من 6500 شخص، ولديها أكثر من 11 مليون مشترك، وتسلّم نصف أرباحها للضرائب.

وأصرّ مخلوف على أنّ الأموال التي أُمر بدفعها ليست بضريبة، بل إنها "مبلغ فُرِضَ بشكل غير قانونيّ" من قِبل أشخاص لم يذكر أسماءهم.

ويقول جوشوا لانديس، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما: "الأسد بحاجة ماسّة إلى المال لدعم الليرة السورية، وللبناء، ولإثبات أنه سيكون هناك عوائد للسلام، لكنه لا يستطيع فعل ذلك.. لذلك هو يحتاج إلى جعل رامي يدفع إليه الأموال".

ووفقًا لأقوال مصرفيّ سوريّ يعيش في الخارج، فإنّ النظام يُجبِر رجال الأعمال، بمن فيهم الوافدون الجُدد الذين استفادوا من الحرب، على الدفع.

ويقول المصرفي إنّ النظام يجعل من رامي مخلوف الآن مثالا لهؤلاء، وهو الذي كان يُعتقد من قبل أنه لا يمكن المساس به.

وفي الواقع، يبدو أن سقوط مخلوف أمر متُعمَّد لإعلان إعادة هيكلة جديدة للاقتصاد، تمامًا مثلما كان الأمر حين صعوده.

في ظهيرة أحد أيام شهر يوليو عام 2000، في ساحة الأمويين بالعاصمة السورية، تحدّث مخلوف باعتزاز عن الأسد، ليقول إنّ ابن عمّه كان يتمتع بسلوك والده الهادئ، حافظ الأسد، وكان أنيقًا ومتواضعًا، وكان دائمًا يوبخ أفراد الأسرة عندما يطلبون كثيرًا من الطعام لأنه كان يكره الإسراف. حينها كان قد مضى شهر على وفاة حافظ.

وعاد بشار طبيب العيون المدُرَّب من لندن في منتصف التسعينيات، بعد وفاة شقيقه -الذي كان يُهيَّأ كبديل لوالده- إثر حادث سيارة، ليترشح بعدها بشار للرئاسة بلا منازع ويفوز بـ97% من الأصوات، بعضها ملطخ بالدماء لإظهار الولاء له. وسرعان ما أصبح رامي مخلوف الوجه التجاري لسوريا في عهد بشار، تمامًا مثلما كان والد رامي بالنسبة إلى حافظ، مع استثمارات في الاتصالات والنفط والعقارات.

وكان مخلوف يسيطر على نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا قبل الحرب، بقيمة بلغت 74 مليار دولار في عام 2012، هذا عدا عن تأثيره على بقية الناتج المحلّي، وذلك وفقًا لإبراهيم حميدي، الصحفي السوري الذي غطى أخبار مخلوف من سوريا قبل أن ينتقل إلى لندن.

ويقول حميدي، وهو الآن كبير المحررين الدبلوماسيين في جريدة "الشرق الأوسط"، إنّ مخلوف أصبح صانعًا للقرار في الاقتصاد السوري بشكل أو آخر.

في خطاب تنصيبه في عام 2000، تعهد الأسد بتحسين حياة السوريين من خلال تحديث القوانين العتيقة، والقضاء على البيروقراطية، وتنشيط الشركات.

وتولى مخلوف مهمة فتح الاقتصاد الاشتراكي الرجعي المغلق حينها، وكانت النتيجة نظامًا رأسماليًّا قائمًا على المحسوبية يبدو متألقًا من الخارج، ولكنه يحتفظ بنظام الفساد القديم ذاته.

ويقول لانديس، أحد سكّان دمشق السابقين: "كل من كان يريد تحقيق مكاسب مالية والحصول على حق في المشروعات الجديدة والفنادق وشراء الأراضي، كان عليه أن يقبّل يد الرئيس من خلال رامي".

المظاهرات ذات الطابع السوفيتي التي كانت تُستخدم قديمًا لإظهار الولاء في عهد حافظ الأسد، تم الاستغناء عنها لتُستبدل بأخرى ذات طابع احتفاليّ، إذ باتت دائرة رجال الأعمال المؤثرين المقربين من النظام تتميز بإقامة "حفلات" في الساحات بالقرب من مساكنهم، لتوزع الحلويات وتصدح الموسيقى وتضاء المشاعل وآلات الإضاءة الحديثة وترفع اللافتات للتعبِير عن حب الرئيس. مخلوف نظَّم كل ذلك لضمان الولاء الدائم من الجميع، بحسب لانديس.

في المشهد الحاليّ، ما زالت تتغير الولاءات، خصوصًا مع ضمور شعلة الصراع في البلاد. ومع أنه من غير المرجَّح أن يشكِّل الخلاف مع رامي مخلوف أيّ تهديد للأسد، إلا أن ذلك يُعَدّ أول خلاف جادّ وخطير تعايشه الأُسرة على الملأ منذ أن حاول عمّ بشار، رفعت الأسد، الإطاحة بأخيه حافظ خلال الثمانينيات.

ويضيف لانديس: "إذا قارنت ما يحدث مع قصة رفعت، فعلى الأقلّ رفعت كان قد نشر دبابات تحيط بدمشق، بينما ماذا يمتلك رامي؟ لديه فيسبوك. ما الذي يمكنه فعله حقًّا؟".