تجمع انتخابي نظمه حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم في ولاية البنغال الغربية في أبريل المصدر: زوما برس/ بلومبرغ بيزنيس ويك

كارثة الهند تكشف للعالم خطر المهادنة في الحرب على الفيروس

المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

دبَّ الرعب في نفس "ماريسلفان ثيفار" عندما شاهد طابور الانتظار الطويل خارج مستشفى "ماساهيب ميناتاي ثاكيراي" أكثر من 200 شخص كانوا ينتظرون بإرهاق واضح. هذا يعطس، وذاك يسعل، وآخر يتنفس بصعوبة في جوٍّ حار. كما أنَّ بعضهم كان يأمل في العثور على جرعة من لقاح فيروس كورونا، الذي مازال يعدُّ سلعة نادرة في الهند، فيما يحاول آخرون الحصول على أدوية، أو أسرَّة، أو أكسجين، أو أي شيء آخر.

حشود وقلق

"ثيفار"، طالب الهندسة البالغ من العمر 21 عاماً، وذو الجسد الطويل والنحيف واللحية غير المكتملة ، كان يعتقد أنَّ لا مفرَّ من الوقوف والانتظار مع الحشد المتزايد خارج المستشفى، الذي لا يعدو كونه منشأة عامة صغيرة في إحدى ضواحي مومباي. فقد كان والده "كنعان" البالغ من العمر 49 عاماً، مريضاً لعدة أيام. وبرغم أنَّه أصغر بكثير من أولئك الذين عانوا في معظم حالات الإصابة بالفيروس، من أسوأ نتائج وباء "كوفيد-19"، إلا أنَّ "ثيفار" كان قلقاً للغاية، لأنَّ والده وأثناء انتظاره الأطباء للكشف عليه، كان يعاني من حمى شديدة، حتى إنَّ بعض نوبات الإجهاد البسيطة جعلته يتنفس بصعوبة.

مع وجود طبيبين فقط مناوبين في المستشفى، لم يكن يُسمح سوى لعدد قليل من المرضى بالدخول وعلى دفعات. وبعد نحو 10 ساعات تحت أشعة الشمس الحارقة، جرى إبعاد "ثيفار" ووالده. وكان الأطباء يصرُّون على عودة المرضى إلى منازلهم، نظراً للنقص في عدد الأسرَّة، وكانوا يعِدون المرضى بأنَّهم سيتصلون بهم.

مع تفشي الفيروس في أنحاء الهند، أصبح هذا الشعور باليأس والخوف أمراً شائعاً. تسجِّل الدولة ما يقرب من 400 ألف حالة إصابة مؤكَّدة، و4 آلاف حالة وفاة كل يوم، وهي أرقام من المؤكَّد أنَّها أقل من البيانات الفعلية.

محارق جثث في كل مكان

في دلهي، تمَّ تحويل الحدائق العامة إلى محارق مؤقتة للجثث، بعدما تحوَّلت الساحات التي كان الأطفال يمارسون فيها لعبة الكريكت إلى محارق مكتظة أيضاً.

هناك نقص في عدد الأسرَّة في المستشفيات، ونقص في أسطوانات الأكسجين، فضلاً عن النقص في أعداد الأطباء والممرضات، في وقت تشير تقديرات بعض الباحثين إلى أنَّ العدد الإجمالي الوفيات الذي يبلغ حالياً نحو 250 ألفاً، قد يتجاوز 400 ألف حالة وفاة بحلول منتصف شهر يونيو، على أن يواصل الارتفاع بعد ذلك.

لا شكَّ في أنَّ الأزمة التي تشهدها الهند مروعة بكلِّ تفاصيلها، وتزيد من حالات البؤس بين الناس، وتكبد البلاد خسائر فادحة، كما أنَّ لها تداعيات مقلقة بالنسبة لبقية العالم. فالهند تعتبر موطناً لأكبر صناعة لقاحات في العالم.

حتى وقت قريب جداً، كانت الهند تسجِّل أرقاماً متواضعة نسبياً لحالات الإصابة بفيروس كورونا، وقد لعبت دوراً مركزياً في الخطط الدولية لتلقيح البلدان النامية، عبر إنتاجها جرعات منخفضة التكلفة. لكن، ومع تفشي الفيروس بهذه السرعة في الهند، توقَّفت صادراتها إلى حدِّ كبير، وباتت الأولوية لاستخدام الجرعات المتاحة من اللقاحات محلياً، من دون وجود أي جدول زمني لاستئناف التصدير. وفي الوقت ذاته؛ فإنَّ تفشي الوباء بهذا الشكل في دولة تضمُّ أكثر من مليار نسمة، يخلق ظروفاً مؤاتية لظهور فيروسات متحورة جديدة. إنَّه لمن الصعب حقاً تخيُّل طريقة أكثر فعالية من ذلك لخروج طفرات من الفيروس قادرة على مقاومة اللقاحات الحالية.

الكارثة المحلية أكثر أهمية

لكن بالنسبة إلى الهنود، الذين أصبحوا أعداداً كبيرة الآن، ومنهم مرضى أو يعتنون بأحبائهم المرضى، فإنَّ هذه المخاوف تعدُّ ثانوية قياساً على الكارثة المباشرة. لقد تدهورت حالة والد "ثيفار" بعد طرده من المستشفى، وكان يجد صعوبة طوال الليل في التنفس. أجرى الطالب مكالمات حثيثة مع أصدقائه وأقاربه، محاولاً أن يجد أحداً يمكنه المساعدة على توفير سرير في أيِّ مستشفى لـ"كنعان"، لكن أحداً لم يتمكَّن من ذلك. اتصل بحوالي 20 عيادة، وكلها أعطته إجابة واحدة: "ما من مكان شاغر". بعد ذلك، لجأ "ثيفار" إلى مدخرات عائلته، وأنفق 8 آلاف روبية (109 دولارات أمريكية) كأجرة لسيارة إسعاف خاصة، جالت بوالده حول مومباي، بحثاً عن الأكسجين، ولكن بلا جدوى.

في النهاية ، تغيَّر حظ "ثيفار". لقد تمكَّن من الوصول إلى شخصية سياسية محلية عبر الهاتف، وأقنعه باستغلال بعض نفوذه، وإدخال والده إلى مستشفى تديره مؤسسة خيرية. أخذ الموظفون هناك رقم "ثيفار"، ووعدوا بإفادته بتطورات الحالة مرتين في اليوم. ثم عاد إلى المنزل منهكاً، وتمكَّن أخيراً من أخذ قسط من الراحة.

نهاية حزينة

بعد يومين من دخول "كنعان" المستشفى، اتصل أطباؤه بـ"ثيفار"، وأطلعوه على بعض الأخبار السيئة. توقَّف الرجل الأكبر سناً عن الاستجابة لحقن "الريمسفير"، واضطروا إلى وضعه على جهاز تنفس اصطناعي. وبعد بضعة أيام، اتصلوا صباحاً وللمرة الأخيرة بـ"ثيفار"، وأخبروه بوفاة والده.

بعد أسابيع قليلة من الدخول في عام 2021، أصدر بنك الاحتياطي الهندي بياناً صحفياً فيه قدر من التفاؤل المثير للفضول. لقد ابتعد في بيانه عن الحديث عن السياسة النقدية، وتطرَّق إلى علم الأوبئة، فقد أعلن أنَّ الهند تغلَّبت على مرض "كوفيد"، لا بل إنَّ الأفضل من ذلك، أنَّه "قريباً سيكون الشتاء الكئيب، صيفاً مشرقاً". وقال بنك الاحتياطي الهندي، إنَّه فيما يتعلَّق بمنحنى تفشي فيروس كورونا، "تمكَّنت الهند من "لفِّه مثل بيكهام " (أي تصدَّت بنجاح للوباء، والجملة تشير إلى عنوان فيلم يشير إلى مهارة لاعب كرة قدم ديفيد بيكهام عندما التفَّت كوته فوق حائط بشريّ مسجِّلاً هدفاً في المرمى). وبدوره، أعرب رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" عن تفاؤل مماثل، وإن كان قد استخدم لغة أقل وضوحاً. ففي اجتماع افتراضي للمنتدى الاقتصادي العالمي في شهر يناير الماضي، تفاخر "مودي" بأنَّه تمكَّن مع أبناء وطنه من "إنقاذ البشرية من كارثة كبيرة، من خلال احتواء وباء فيروس كورونا بطريقة فعالة".

بداية ناجحة

قد تبدو مثل هذه التصريحات مضللة في الماضي، لكن الأرقام حول تفشي وباء فيروس كورونا كانت تبدو جيدة في ذلك الوقت. فبعد الارتفاع الذي تمَّ تسجيله في سبتمبر الماضي عندما وصل عدد حالات الإصابة يومياً إلى ما يقرب من 100 ألف حالة، عادت الإصابات الجديدة لتسجِّل أقل من عُشر هذا المستوى بحلول شهر يناير من العام الحالي، وهو معدل متدنٍّ قياساً إلى عدد السكان، ويمكن مقارنته مع كوريا الجنوبية التي تسجل أدنى المعدلات في دول العالم الصناعي. حتى في "دارافي"، أحد الأحياء الفقيرة في مومباي التي يقطنها ربما قرابة مليون شخص، فإنَّ الحملة الصحية التي جرى إطلاقها للتصدي للمرض، أبقت تفي الفيروس تحت السيطرة إلى حدٍّ كبير. لكن، ومع رفع قيود التباعد الاجتماعي في الغالب، عادت الحشود إلى الأسواق والمطاعم، وحجزت العائلات الثرية عطلات في المنتجعات الشاطئية.

ناقش علماء الأوبئة والخبراء الأكاديميون مجموعة من النظريات لتفسير الانخفاض في الإصابات، بالإضافة إلى العدد المنخفض نسبياً للوفيات بين أولئك الذين أصيبوا بالمرض. أشار كثيرون إلى أهمية الحماية التي توفِّرها ميزة متوسط عمر شاب للسكان، والبالغ 27 سنة فقط كمتوسط عام. كما لفت آخرون إلى أنَّ المناخ الدافئ في جنوب آسيا لعب دوراً في إبطاء انتقال الفيروس، فيما ركَّزَ آخرون على أنَّ إصابة عدد كافٍ من الهنود، أتاح بالفعل إمكانية الوصول إلى درجة معينة من مناعة القطيع. ثم كان هناك ما يسمى بفرضية النظافة، وهي الفكرة القائلة بأنَّ الناس في بلدٍ تكتظ مدنه بالسكان، وتصف بوجود معالجة سيئة لمياه الصرف الصحي، يتمتَّعون بالمرونة الطبيعية تجاه الأمراض الجديدة، إذ يحصلون على مناعة أقوى بسبب تأقلمهم مع الظروف التي يغلب عليها النقص في مستوى النظافة.

أرقام غير دقيقة

حثَّ بعض العلماء على توخي الحذر، وذلك لسبب واحد، وهو أنَّ أحداً لا يستطيع التأكُّد من صحة الأرقام. فمعدلات إجراء الاختبارات في الهند، أقل من نصف تلك الموجودة في الولايات المتحدة. والمعروف أيضاً بأنَّ إحصاءات الوفيات غير موثوقة هي الأخرى. فحتى في الأوقات العادية، لا يجري إبلاغ السلطات مطلقاً بواحدة من كل 5 حالات وفاة، وغالباً لا تذكر السجلات الرسمية سبب الوفاة. في ديسمبر الماضي، اكتشفت الدولة أولى حالاتها من فيروس "B.1.1.7" المتحوِّر الذي جرى رصده في البداية في المملكة المتحدة، الأمر الذي أثار مخاوف بشأن مدى تفشي الوباء، وما إذا كان قد خرج عن نطاق السيطرة.

مع ذلك، لم يكن السياسيون يحتاجون سوى إلى القليل التشجيع كي تعود الحياة إلى طبيعتها. فحتى مع بدء ارتفاع معدلات الإصابة في شهر فبراير الماضي، اجتذبت انتخابات الولايات المتعددة حشوداً ضخمة (معظمهم من دون كمامات) لسماع المرشحين وهم يتحدَّثون. تفاخر "مودي" بحجم التجمُّعات التي تمكن هو ووزير الداخلية "أميت شاه" من حدشها قبل التصويت في ولاية البنغال الغربية، وهي ولاية مكتظة يزيد عدد سكانها على 90 مليون نسمة. كما شجَّع المسؤولون المواطنين على المشاركة في مهرجان "كومبه ميلا"، وهو مهرجان هندوسي على ضفاف "نهر الغانج" يحتشد فيه أكبر تجمع بشري في العالم. وبالفعل احتشد الملايين، كتفاً إلى كتف (دون تباعد اجتماعي) على حافة النهر المقدس لديهم.

فوات الأوان

بحلول منتصف شهر مارس الماضي، تضاعف عدد الإصابات المبلغ عنها كل يوم مقارنة بالشهر الذي سبقه، في حين ظلَّ توزيع اللقاحات في الهند بطيئاً. في منظمة الصحة العالمية في جنيف، أعربت كبيرة العلماء "سمية سواميناثان" عن قلقها من أنَّ بلدها كان يتجاهل قنبلة فيروسية موقوتة. وقالت في 13 مارس الماضي: "يمكن أن تنطلق العدوى مرة أخرى في أي وقت، لذلك لا ينبغي أن نشعر بالرضا". لكن، لقد فات الأوان بالفعل.

بحلول شهر إبريل الماضي، شعر "رامانان لاكسمينارايان" بالعجز. لقد كان مؤسس "مركز ديناميات المرض والاقتصاد والسياسة"، وهو مركز أبحاث للصحة العامة، يتنقَّل داخل منزله في دلهي، وهو يقرأ رسائل نصية وردته من أصدقاء يحاولون العثور على الأكسجين، عندما علِم بمرض زميل له يبلغ من العمر 42 عاماً. كان المستشفى الذي سعى زميله لتلقي العلاج فيه، يطلب من المرضى إحضار إمدادات الأكسجين الخاصة بهم. بدأ "لاكسمينارايان" في تلقي طلبات المساعدة حتى من كبار الموظفين البيروقراطيين، أعضاء طبقة النخبة الهندية الذين لم يعتادوا على طلب أيِّ شيء. حتى هؤلاء، لم يتمكَّنوا من الحصول على الرعاية الصحية التي يحتاجون إليها.

جهود فردية

قرر "لاكسمينارايان" أن يبذل ما بوسعه للمساعدة، وكان يشعر بغضب عارم لأنَّ السلطات لم تفعل الكثير للاستعداد لموجة جديدة من العدوى. لذلك، أنشأ مع بعض زملائه مؤسسة خيرية، تحمل اسم "أكسجين من أجل الهند"، التي تحدد موقع توافر أسطوانات الأكسجين، وتنقلها إلى المرضى الذين هم في أمس الحاجة إليها. إنَّه نوع الخدمة التي من المفترص أن تقدِّمها الحكومات في الأوقات العادية

لا عن طريق باحث يجلس وراء مكتبه في المنزل. لكن "لاكسمينارايان" يردُّ على ذلك بأنَّه في هذه المرحلة، ليس لدى الهنود أي خيار سوى مساعدة أنفسهم. فبعد أن انهار النظام الصحي، لم يعد هناك شيء يمكن للنظام أن يفعله لك، إذا كنت بحاجة إلى سرير أو أكسجين أو غير ذلك. لكنَّ جهوده تلك لم تحل دون وفاة زميله في شهر مايو.

إنَّ أوضاعاً كهذه، بالكاد تسمح بتجميل موقف "مودي"، زعيم الهند منذ عام 2014، بل والشخصية السياسية الأكثر هيمنة على مدى أجيال، كما يقال. جاء رئيس الوزراء الذي يقود حزب "بهاراتيا جاناتا" القومي الهندوسي إلى السلطة، متعهداً بغرس الكفاءة الإدارية في الحكومة الفيدرالية، مستفيداً من خبرته كرئيس وزراء ولاية "غوجارات"، وهي الولاية التي أشاد بها رجال الأعمال، نظراً لبنيتها التحتية الجيدة وقاعدتها الصناعية الواسعة. وقبل عامين، أعيد انتخابه بأغلبية ساحقة، واستخدم تفويضه لتعزيز سلطته الاقتصادية والسياسية -كما يقول منتقدوه- لتقويض الديمقراطية في الهند، وحقوق المواطنين غير الهندوس.

إلا أنَّ كارثة بهذا الحجم جراء تفشي مرض كوفيد، من المستحيل حتى على مؤيدي "مودي" المتحمِّسين أن يتجاهلوا تداعياتها. هنا، بدأت الصحافة تنقلب ضد "مودي"، فقد شككت الصحف، وشبكات التلفزيون التي كانت تدعمه في السابق في العدد الرسمي للوفيات، مستشهدةً بالإحصاءات المتشائمة المجمَّعة لديها من محارق الجثث.

هجوم على "مودي"

في مقال افتتاحي في أواخر شهر إبريل الماضي، قالت صحيفة "ذا هندو"، وهي صحيفة ذات نفوذ كبير، إنَّ الحكومة "تخلَّت عن مسؤوليتها" تجاه الفقراء من خلال عدم ضمان توافر اللقاحات. حتى "أرناب جوسوامي"، مضيف برنامج حواري ساخن وهو بالنسبة لـ"مودي" تقريباً مثل "شون هانيتي" بالنسبة للرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترمب" ، انتقد أداءه ضمنياً، وأعرب بوضوح في إحدى المرات عن أنَّ قادة الهند هم المسؤولون عن نقص الأكسجين، إذ صرَّح قائلاً: "يقولون إنَّهم فعلوا الكثير لشعب الهند، وهذا هراء!".

بدلاً من الاعتراف بالأخطاء، حاول حزب "بهاراتيا جاناتا" إسكات منتقديه، لا سيَّما من خلال إصدار أوامر لموقعي التواصل الاجتماعي "تويتر"، و"فيسبوك" بحظر المشاركات التي تنتقد أسلوب تعامل الحكومة مع مرض كوفيد. ذهب أحد أقرب حلفاء "مودي"، وهو رئيس وزراء ولاية "أوتار براديش"، "يوغي أديتياناث" ، إلى أبعد من ذلك، إذ هدَّد بمصادرة ممتلكات المواطنين والمستشفيات إذا اشتكوا علناً من ندرة الأكسجين. قد تأتي هذه الجهود بنتائج عكسية، إذ تتسبَّب في حدوث انتكاسات لآلة سياسية نادراً ما تتعطَّل منذ انتخاب "مودي" لمنصب وطني. وفي أوائل شهر مايو، خسر حزب "بهاراتيا جاناتا" الانتخابات في غرب البنغال، فقد أطلق رئيس الوزراء حمله انتخابية قوية إلى أنْ أجبره تزايد حالات الإصابة بالفيروس على التوقُّف.

إصابة الأطفال

الوضع على الأرض مريع بما يكفي، لدرجة أنَّه حتى أكثر القادة السياسيين ذكاء، سيجدون صعوبة في تغيير الرواية. تعدُّ الأسر الكبيرة أمراً شائعاً في الهند، إذ تعمل في الأوقات الجيدة كمصدر للمرونة الاجتماعية، كما يعتني الأجداد بأحفادهم، والعكس صحيح. كما توفِّر أماكن مضيافة لانتقال الفيروس، مما يسمح لمرض كوفيد بالانتقال بسرعة من جيل إلى جيل. وفي الوقت الذي نجا الشباب إلى حدٍّ كبير من موجات الفيروس السابقة، أصيب الأطباء الهنود بالصدمة من عدد الأطفال الذين أصيبوا بالمرض في موجة التفشي الحالية، وكثير منهم يعانون من أعراض حادة. ما من شكٍّ في أنَّ حالات كثيرة، إنْ لم يكن معظمها، ناتجة عن فيروسات متحوِّرة جديدة. ففي ولاية "ماهاراشترا" مثلاً، التي تضمُّ مدينة مومباي، يحتوي أكثر من نصف الإصابات المتسلسلة على فيروس متحوِّر من نوع "B. 1.617" غير المفهوم جيداً، مما دفع بعض الحكومات إلى منع دخول المسافرين القادمين من الهند.

صعوبة الإغلاق

عندما وصل فيروس كورونا لأوَّل مرة إلى الهند العام الماضي، فرض "مودي" واحدة من أكثر عمليات الإغلاق صرامة وشمولية في العالم، مما أدى إلى تخفيف بعض الضغط عن أنظمة الصحة الحضرية، إن كان قد أدى ذلك أيضاً إلى تدمير الاقتصاد، ونشر عوامل تفشي المرض في عمق الريف، إذ لا يوجد مكان آخر للعمال المهاجرين سوى العودة إلى قراهم الأصلية حاملين العدوى معهم. وعلى الرغم من أنَّ إغلاقاً آخر كان سيُكسب البلاد بعض الوقت على الأرجح، إلا أنَّ "مودي" قاوم الاقتراح. وحول هذا الأمر يجادل حلفاؤه بأنَّ الهند لا يمكنها مرة أخرى أن تطلب من أفقر مواطنيها أن يبقوا في منازلهم، في حين أنَّ كثيراً منهم يحصلون على أجر يومين لسدِّ رمقهم.

يقول "لاكسمينارايان"، إنَّه مع استبعاد عمليات الإغلاق على الأرجح، فإنَّه وبصراحة، "لا يبقى سوى استراتيجية وحيدة مناسبة. ومن دون ذلك، قد ننظر إلى موجة جديدة تلو الأخرى".

منذ بداية الوباء تقريباً، اعتمدت كل خطة لمواجهته بشكل كبير على قطاع اللقاحات في الهند. وأهم لاعب في هذا المجال، شركة "سيروم إنستيتيوت أوف إنديا" (Serum Institute of India)، التي تمتلك مصنعاً ضخماً تسيطر عليه عائلة "بوناوالا"، وهي تضمُّ مجموعة من أصحاب المليارات، ومقرّها في منطقة "بيون" في مومباي. قبل عام أبرمت شركة "سيروم" صفقة مع شركة "أسترازينكا" لتصنيع ما لا يقل عن مليار جرعة من لقاحها المعروف في الهند باسم "كوفيدشيلد ". خطَّط "أدار بوناوالا"، الرئيس التنفيذي لشركة "سيروم" لتقسيم إنتاجها بين الهند والدول النامية الأخرى، وطمأن السياسيين والصحفيين إلى أنَّ طاقتها الإنتاجية أكثر من كافية لخدمة الأسواق المحلية والخارجية.

إجراءات بطيئة

مع ذلك، كان طرح تطعيم "كوفيدشيلد" مهتزاً منذ البداية. فعندما وافقت الجهات التنظيمية الهندية على المنتج في أوائل شهر يناير الماضي، أعطت الضوء الأخضر أيضا للقاح "كوفاكسين" الذي طوَّرته شركة محلية تدعى "باهارات بيوتيك إنترناشيونال"، التي بالكاد بدأت تجارب المرحلة النهائية إلى جانب المشكلات التي جرى الإعلان عنها على نطاق واسع للقاح "أسترازينكا"، بالإضافة إلى الكثير من المعلومات الخاطئة المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، كما كانت النتيجة ضمن مستوى من التردد نادراً ما يظهر في الهند التي تتمتَّع بخبرة واسعة في إدارة حملات التطعيم الوطنية. فقد استغرق طرح اللقاح أكثر من شهرين للوصول إلى سرعة توزيعه المقررة.

عندما جرت تلبية الطلب، لم تذهب الجرعات في معظمها إلى من هم في أمس الحاجة إليها. بحسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "لوكال سيركلس" في شهر مارس الماضي، وشمل أكثر من 10 آلاف شخص، وأعرب 30% عن اعتقادهم أنَّ بعض العاملين في مجال الرعاية الصحية يعتمدون شهادة لأشخاص تثبت أنَّهم عرضة لخطر كبير، وذلك بخلاف الحقيقة، مما يسمح لهم بالتحايل على القواعد الغامضة بشأن تحديد الأولويات للفئات المستحقة للتطعيم. وفي هذا يقول أحد رجال الأعمال في مركز التكنولوجيا في "بنغالورو": "هذه هي الهند، لذا لا يوجد شيء واضح". أخبر رجل الأعمال "بلومبرغ بيزنس ويك" كيف زار عدداً قليلاً من العيادات في شهر مارس الماضي؟، فقد عثر سريعاً على عيادة تعطيه هو وزوجته اللقاح برغم أنَّهما ليسا من ضمن أي فئة ذات أولوية، مشيراً إلى أنَّه "إذا كانت الأمور واضحة، سيجد الناس حلولاً".

مشكلة إمدادات

مشكلة الهند الآن هي مشكلة الإمداد بشكل مباشر، إذ يصل إنتاج شركة "سيروم" إلى حوالي 70 مليون جرعة شهرياً من اللقاح، أي أقل بكثير من 100 مليون جرعة مستهدفة. ويعود ذلك جزئياً إلى أنَّ الولايات المتحدة أجبرت الشركات المصنِّعة على إعطاء الأولوية للطلبات المحلية، وقد اشتكت شركة "سيروم"، وشركات هندية أخرى من نقص المكوِّنات مثل أكياس المفاعلات الحيوية والمرشحات. كانت جهودهم لتسريع الإنتاج مثيرة للجدل، فبسبب الحاجة إلى تمويل المزيد من السعة، رفعت كلٌّ من شركة "سيروم"، وشركة "بهارات" في شهر إبريل الماضي أسعارهما، مما أدى إلى غضب واسع النطاق على وسائل التواصل الاجتماعي.

ليس من المستغرب أن يتحرَّك "مودي" لضمان أن ما تنجح شركة "سيروم" في إنتاجه يبقى داخل الهند. لقد انخفضت صادرات الشركة بشكل حاد، وتأخرت الشحنات المخططة لـ200 مليون جرعة من لقاح "كوفاكس" التي تأتي ضمن الجهود العالمية لإيصال اللقاحات إلى البلدان الأكثر فقراً. وفي حين يمكن اعتبار هذه الخطوة منطقية في ظل هذه الظروف، إلا أنَّها تمنح الفيروس فرصة الانتشار في مكان آخر. فعلى سبيل المثال، شهدت نيبال وبنغلاديش، اللتان كانتا تعتمدان على إنتاج الهند، انخفاضاً في شحناتهما، وتشهد الأولى الآن تفشياً حادَّاً لمرض كوفيد.

زيادة أعداد اللقاحات

تحاول الحكومة الهندية زيادة عدد اللقاحات المتاحة محلياً بأيِّ وسيلة ممكنة. تمَّت إزالة القواعد التي تتطلَّب إجراء تجارب سريرية محلية، التي ستسمح بالجرعات التي تقدِّمها شركة "موديرنا إنك"، وشركسة "فايزر إنك"، ليجري استيرادها على الرغم من عدم توافر الإنتاج من الشركتين إلى حدٍّ كبير بسبب الطلب الكبير عليه.

يقترب لقاح من ثلاث جرعات من مصنع محلي آخر، وهو "كاديلا هيلث كير" من الانتهاء من آخر مراحل التجارب، وقد تتمُّ الموافقة عليه في أقرب وقت من شهر يونيو. كما تخطط شركة "سيروم" لتصنيع لقاح طوَّرته شركة "نوفافاكس"، وهي شركة تكنولوجيا حيوية مقرّها في ولاية ماريلاند الأمريكية. وتفتح الهند أبوابها كذلك للقاح "سبوتنيك في ايه" الروسي، وقد وصلت شحنة أولية صغيرة منه، فضلاً عن خطط لإنتاج أكثر من 700 مليون جرعة من هذا اللقاح في شبه القارة الهندية سنوياً.

3 سنوات لتحصين 70%

حتى يتحسن إنتاج اللقاح، سيكون تطعيم الناس على نحو كافٍ أمراً صعباً. وتأمل دول غربية عدَّة في الوصول إلى مستويات مناعة القطيع بحلول نهاية هذا الصيف، أو قبل ذلك، لكن الهند تسير على مسار أبطأ بكثير. ووفقاً لمعدل التطعيم الحالي، بحسب مؤشر تتبع التطعيم الخاص بوكالة "بلومبرغ"، سيمرُّ ما يقرب من ثلاث سنوات قبل أن يجري تحصين 75% من سكانها.

بعد ظهور الفيروس في الهند ، كرَّس "أنيل هيبار" جهوده لمساعدة زملائه الـ"مومبيكارز"، الاسم الذي يُعرف به سكان العاصمة المالية للبلاد، مومباي. فقد بات من الصعب على العديد من الأشخاص الأكثر فقراً بسبب الإغلاق العام، الحصول على الطعام. لذلك انضمَّ "هيبار" الذي يدير مشروعاً صغيراً لبيع الأجهزة الطبية، إلى فريق من المتطوِّعين الذين أنشأوا المطابخ، وبدأوا يتنقلون من باب إلى باب في الأحياء الفقيرة بالمدينة، لتوزيع المواد الغذائية. وحين عودته مساء كل يوم إلى شقَّته، كان يحاول أن يظل بعيداً عن زوجته وابنته، خوفاً من أن يكون مصاباً بالعدوى، برغم اتخاذه كل الاحتياطات التي يمكن أن يفكر فيها. لكن "هيبار" لم يمرض، مما دفعه إلى التساؤل عما إذا كان "الشعور بالرضا" تجاه أعماله الخيِّرة هو الذي يعزز مناعته.

عندما توفي أحد أصدقائه المقرَّبين بسبب إصابته بوباء كوفيد، شعر "هيبار" أنَّه يتعيَّن عليه فعل المزيد. وفي أوائل شهر أكتوبر الماضي توجه إلى مستشفى "الملك إدوارد التذكاري"، وهو صرح استعماري يضم 1800 سرير في قلب مومباي. هناك، في عيادة صغيرة أسفل أحد الممرات، أصبح هو محل اختبار في إطار التجربة الهندية للقاح "أسترازينكا". تجاهل ذكر الخطة لزوجته، وعندما أخبرها أخيراً، رفضت التحدُّث معه ليوم كامل.

ضربة حظ

في شهر فبراير، ثبتت إصابته بفيروس كورونا، وعزل نفسه في غرفته لمدة أسبوعين. لم يكن الأمر ممتعاً، لكنَّ أعراض "هيبار" كانت سهلة بكل عام، خصوصاً بالنسبة إلى شخص يبلغ من العمر 56 عاماً ومصاباً بداء السكري. بعد شهرين اكتشف أنَّه حصل على الجرعة الحقيقية بدلاً من العلاج الوهمي، وهي ضربة حظ يعتقد أنَّها ربما أنقذت حياته. ويعتقد أنَّه لولا هذه الجرعة، لكان من الممكن أن يكون وضعه سيئاً للغاية.

مع انتشار الفيروس في مومباي، يدرك "هيبار" وبأسف أنَّ العديد من مواطنيه لايشاركونه حظَّه الجيد. عادة ما تكون شوارع المدينة الصاخبة هادئة، باستثناء صوت صفارات سيارات الإسعاف. لقد أصيب عدد لا يحصى من الأصدقاء والأقارب، وفي مجمع "هيبار" السكني المكوَّن من تسعة أبراج، جرى إغلاق خمسة من المباني من قبل السلطات المحلية بعد تفشي المرض في الآونة الأخيرة. يقول "هيبار": "أخشى أن أدخل على صفحتي على فيسبوك. فأنت ترى فقط منشورات عن الأشخاص الذين ماتوا، وأنت تعرف الكثيرين منهم".