دبلوماسية "الذئاب المحاربة" تؤلب العالم ضدّ بكين

عناصر في حرس الشرف في الجيش الصيني يرتدون ملابس مدنية ويسيرون عبر المدينة المحرمة في بكين. تظهر استطلاعات الرأي التي يجريها "مركز بيو للأبحاث" أن الآراء السلبية حول الصين وصلت إلى أعلى مستوياتها في 9 من 14 اقتصاداً رئيسياً حول العالم
عناصر في حرس الشرف في الجيش الصيني يرتدون ملابس مدنية ويسيرون عبر المدينة المحرمة في بكين. تظهر استطلاعات الرأي التي يجريها "مركز بيو للأبحاث" أن الآراء السلبية حول الصين وصلت إلى أعلى مستوياتها في 9 من 14 اقتصاداً رئيسياً حول العالم المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد إلقاء كبير الدبلوماسيين الصينيين "يانغ جيتشي" محاضرة أمام نظرائه الأمريكيين بشأن الإخفاقات الأخلاقية الأمريكية، بما في ذلك قتل الشرطة لمواطنين سود، وذلك خلال المحادثات الثنائية في مارس، لم يجادله مستشار الأمن القومي "جيك سوليفان" تقريباً، لكنَّه ذكَّره بما أسماه "الخلطة السرية" للحوكمة الأمريكية، والمتمثِّلة في القدرة على الاعتراف بالأخطاء وإصلاحها، إذ قال سوليفان: "إنَّ الدولة الواثقة قادرة على دراسة عيوبها بجدية، وتسعى إلى إصلاحها باستمرار". بالطبع، كان ذلك تلميحاً إلى أنَّه- على الأقل في العلاقات الدولية- تبدو الصين غير قادرة على القيام بمثل هذا الأمر.

انطباعات سلبية

مع تبني الدولة الأكبر من ناحية عدد السكان في العالم موقفاً أكثر عدوانية، أصبح هذا الرأي يحظى بتأييد واسع. فقد تزامن تنامي النقوذ الصيني مع تراجع حادٍّ في تصورات الجماهير بشأنها في الخارج. ووجدت استطلاعات الرأي التي أجراها "مركز بيو للأبحاث" (Pew Research Center) في العام الماضي، أنَّه في 9 من 14 اقتصاداً رئيسياً، وصلت الآراء السلبية حول الصين إلى أعلى مستوياتها منذ أن بدأ "مركز بيو" في إجراء الاستطلاعات حول هذا السؤال قبل أكثر من عقد من الزمان. وفي الولايات المتحدة، أفاد 73% من المشاركين في الاستطلاع أنَّ لديهم انطباعاً "سلبياً للغاية"، أو "سلبياً إلى حدٍّ ما" عن الصين.

تبدو بعض أسباب ذلك الانطباع واضحة، فقد واجهت الصين وابلاً من الانتقادات الدولية خلال السنوات الأخيرة، التي طالت احتجازها الواضح لأكثر من مليون مسلم في معسكرات "إعادة التثقيف"، وسحق المعارضة في هونغ كونغ، وممارساتها في بداية جائحة كورونا، من بين العديد من القضايا الأخرى. كما تشكِّل سياستها الصناعية عاملاً آخر لانتشار مثل هذا الانطباع، لأنَّ الكثيرين من العمال في شمال إنجلترا أو الغرب الأوسط الأمريكي، يلقون باللائمة على الصين، سواءً بشكل عادل أو لا، لفقدان وظائفهم.

معارك في كل مكان

لكنَّ الدبلوماسيين الصينيين هم من يلحقون الضرر الأكبر بالطريقة التي يُنظر بها إلى بلادهم على نحو متزايد. فقد قامت مجموعة من الدبلوماسيين المعروفين باسم "الذئاب المحاربة"، تيمُّناً بسلسلة أفلام رائجة تحمل الاسم ذاته (Wolf Warriors). صوَّرت أبطالاً صينيين، وهم يهزمون الأعداء الأجانب، باختيار المعارك في كل مكان، من البرازيل إلى بابوا غينيا الجديدة. وكان "تشاو ليجيان"، المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الصينية، قد أثار غضباً في الولايات المتحدة في مارس من العام الماضي، عندما روَّج مراراً لنظرية لا أساس لها -وغير معقولة- حول منشأ "كوفيد-19"، مدَّعياً أنَّه تمَّ جلبه إلى ووهان أثناء زيارة الرياضيين الأمريكيين إلى الصين.

وفي نوفمبر، طالب رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، باعتذار عن تغريدة "بغيضة" لتشاو، الذي نشر صورة لجندي أسترالي يضع سكيناً على رقبة طفل أفغاني. أما شركة "تويتر" فقد أغلقت حساب السفارة الصينية في واشنطن، بعد أن قالت الشركة، إنَّ منشوراً عن شينجيانغ انتهك سياساتها، زعم أنَّ الجهود المبذولة "للقضاء على التطرُّف" في المقاطعة تعني أنَّ النساء لم يعدنَ "آلاتٍ لصنع الأطفال".

يؤدي هذا السلوك الحازم إلى تشديد المواقف في جميع جوانب السياسة الأمريكية، مما يحطِّم الآمال في بكين بأنَّ الرئيس جو بايدن سوف يتبنى نهجاً أكثر تصالحاً من سلفه. في الشهر الماضي، أعلن كورت كامبل، كبير مستشاري بايدن حول السياسة الآسيوية، أنَّ حقبة "المشاركة مع الصين قد انتهت". وكان بايدن نفسه قد وصف الرئيس الصيني شي جين بينغ، بأنَّه "سفاح" خلال حملته الانتخابية، وتعهَّد بعصرٍ يشهد "منافسة شديدة" مع القوة الاقتصادية العظمى الأخرى.

توسّع العداء

تتشابه القصص في جميع أنحاء العالم المتقدِّم، إذ تتبنَّى أستراليا، وكندا، والمملكة المتحدة موقفاً أكثر صرامة تجاه الصين. تماماً كما هو الحال مع العديد من دول الاتحاد الأوروبي الكبرى، لأنَّه من غير المرجَّح أن يتمَّ التصديق على صفقة استثمارية طال انتظارها مع الاتحاد الأوروبي - التي كان من شأنها أن تحرم إدارة بايدن من جبهة موحَّدة ضد الممارسات الاقتصادية الصينية- وربما كانت لتفتح الباب أمام اتفاقية التجارة الحرة. ويرجع ذلك جزئياً إلى فرض بكين عقوبات على المشرِّعين الأوروبيين الذين ينتقدون أفعالها في شينجيانغ.

من جانبهم، يرى بعض أعضاء نخبة السياسة الخارجية في الصين أنَّ هذه التصورات المتدهورة تمثِّل مشكلة، وقد أصدروا تحذيرات مبدئية بشأن مخاطر استمرار العداء الدبلوماسي. لكن يبدو أنَّ حكومة شي جين بينغ غير قادرة على إعادة ضبط علاقاتها الدبلوماسية، حتى مع قيام إدارة بايدن بإعادة بناء التحالفات عبر أوروبا وآسيا -جزئياً، من خلال استغلال انزعاج تلك الدول من التكتيكات الصينية ثقيلة الوطأة- لإعادة الدول إلى الحظيرة الأمريكية.

تجاهل الأخطاء

قد يبدو الأمر مغرياً باعتبار أنَّ عدم القدرة على تغيير المسار هو سمة متأصلة في النظام الصيني الاستبدادي من الأعلى إلى الأسفل. كما من المؤكَّد أنَّ المسؤولين الأفراد غالباً ما يخشون عواقب الاعتراف بالأخطاء. لكن في الماضي، أظهر قادة الصين أنَّ بإمكانهم التحلي بالمرونة عند الضرورة. في خمسينيات القرن الماضي، شنَّ الصينيون حملة دولية استغلوا فيها قدراتهم لكسر العزلة الدبلوماسية التي فُرضت على البلاد بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة. وبالمثل، بعد أن قطعت الدول الغربية علاقاتها مع الصين لاحقاً في أعقاب مذبحة ميدان تيانانمين، شرعت الدولة الآسيوية في القيام بحملة طويلة الأمد لتحسين سمعة البلاد، التي بلغت ذروتها مع انطلاق أولمبياد 2008.

لكنَّ البيئة السياسية الحالية في بكين تجعل من الصعب تصوُّر حدوث تغيير حقيقي في الإستراتيجية. وتمثِّل الزيادة الهائلة في الثقة بالنفس -أو ربما الثقة المفرطة، بالنظر إلى مواطن الضعف الديموغرافية، والاجتماعية، والبيئية المستمرة في الصين- جزءاً رئيسياً من المعادلة. ويمكن القول، إنَّ تلك الثقة المبالغ فيها بدأت مع الأزمة المالية العالمية، التي بالكاد أثَّرت على الصين، في حين عكَّرت صفو الولايات المتحدة وأوروبا. وقد تعاظم هذا التوجه بعد صعود شي إلى قمة الحزب الشيوعي في عام 2012، مؤيداً نهجاً أكثر تصادمية للسياسة الخارجية. وبحلول عام 2017، كان كبار القادة في الصين يشيرون إلى حدوث "تغييرات لم يشهدها النظام الدولي منذ قرن"، في حين أعلن شي أنَّ الصين "تقترب من موقع المركز على المسرح العالمي".

تراجع الغرب

يقترن هذا الشعور بالقدرة، باعتقاد متزايد بأنَّ الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، أصبح ضعيفاً، بل يشهد حالة من التدهور. وعلى مدى العقدين الماضيين، كانت الطبقة السياسية في الصين تراقب الولايات المتحدة في ذهول، في حين تتخبط الأخيرة في حربي أفغانستان والعراق، تاركةً الانقسامات الداخلية تدفع بالكونغرس إلى حالة أقرب إلى الجمود. كما كان لتعامل الولايات المتحدة مع فيروس كورونا المستجد، الذي فشلت في احتوائه قبل أن يودى بحياة أكثر من 500 ألف أمريكي، الأثر الأكبر. في العام الماضي، كما أخبر شي جين بينغ كوادر حزبه بأنَّ استجابة الصين للفيروس أظهرت "المزايا الرائعة" للقيادة الشيوعية.

ثم هناك شخصية شي نفسه، وهو نجل مسؤول رفيع المستوى خسر تأييد ماو تسي تونغ. كما دأب الزعيم الصيني على دراسة الصراعات على السلطة طوال حياته في المعارك داخل الحزب، التي قد تعني خسارتها السجن، وليس النفي إلى وظيفة سياسية بأجر لائق. يقول إيفان ميديروس، المستشار السابق لباراك أوباما، الذي حضر العديد من اجتماعات الرئيس السابق مع شي: "نشأ شي في عالم يدور كله حول القوة النسبية والنفوذ والولاء. إنَّه شخص يفكر من منظور القوة الخشنة".

صعود الصين

وفي رأي العديد من المسؤولين الصينيين، فإنَّ ردَّ الفعل الدولي ضد حكومتهم هو ببساطة دليل على أنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها مصمِّمون على وقف صعود الصين. ويقولون، إنَّ الدول الغربية، من خلال انتقاد أفعالها في شينجيانغ وهونغ كونغ، تسعى إلى حرمان الصين من التمتُّع بمستوى الأمن الذي تطمح الدول الغربية إلى تحقيقه لنفسها. ويستكملون زعمهم، بأنَّه من خلال انتقاد سياسات الصين الصناعية والبيئية، تسعى الدول الغربية إلى حرمان الصين من حقِّها في التنمية الاقتصادية التي تمتَّعت بها تلك الدول قبل عقود. وقال نائب وزير الخارجية الصيني، لو يوتشنغ في خطاب ألقاه في ديسمبر، إنَّه عبر إدانة ممارسات الصين الدبلوماسية، تهدف النخب الغربية إلى "منعنا من الرد".

مع تصاعد المعارضة العالمية للصين، تبرز مؤشرات أولية على إدراك شي لاحتمالية تجاوز البلاد حدودها. ففي اجتماع أخير مع كبار المسؤولين، حثَّهم الرئيس الصيني على "الالتزام بأسلوب الحوار" عند التواصل مع العالم الخارجي، وأن يكونوا "منفتحين وواثقين، على أن يكونوا أيضاً معتدلين ومتواضعين". ومع ذلك، هناك اعتقاد واسع النطاق بين صفوف بكين المتزايدة من المتشددين في السياسة الخارجية، أنَّه بافتراض استمرار تعاظم النفوذ الصيني، وبأنَّ مشكلات مثل التراجع السكاني الذي يلوح في الأفق لا تعرقل تقدُّم البلاد الاقتصادي، فإنَّ كسب القلوب والعقول لن يحظى بأهمية خاصة.

مسألة وقت

وفقاً لوجهة النظر هذه، ينبغي أن تكون القضية مسألة وقت فقط قبل أن تقبل الولايات المتحدة نظاماً عالمياً يكون لإرادة الصين فيه تأثير مساوٍ لها على الأقل -وسيكون من العبث معارضة طموحاتها الإقليمية والاقتصادية أو محاولة الضغط عليها بشأن حقوق الإنسان. يقول جاو جيكاي، الدبلوماسي الصيني السابق الذي عمل مترجماً لدنغ شياو بينغ: "الولايات المتحدة بحاجة إلى قبول احتمالية تمتُّع الصين واقعياَ باقتصاد أكبر منها في نهاية المطاف". واستطرد أنَّه بمجرد حدوث ذلك، "سوف تحتاج أمريكا إلى تخفيف عدائها تجاه الصين. وستكون للبراغماتية والواقعية اليد العليا".