مكافحة تغير المناخ تزيد من مخاوف ارتفاع أسعار السلع

التحول نحو الطاقة النظيفة وما يترتب عليه من تكاليف قد يزيد من الضغوط على معدلات التضخم العالمية
التحول نحو الطاقة النظيفة وما يترتب عليه من تكاليف قد يزيد من الضغوط على معدلات التضخم العالمية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

اكتسب الخوف من التضخم، الذي أصبح موضوعاً رئيسياً في الأسواق، زخماً جديداً. وهذه المرة من جراء معركة تغير المناخ، والتحول الاقتصادي الضخم الحاصل من خلالها.

الشركات تواجه خيارات صعبة

مع إدراك الحكومات لأهمية العمل المناخي، ودفعها لكل ركن من أركان الاقتصاد لإزالة الكربون، لم يتبق أمام الصناعات من الزجاج إلى الصلب إلى السيارات سوى القليل من الخيارات لتغيير الطريقة التي تصنع بها المنتجات التي يبيعونها في نهاية الأمر. كذلك، فإن العقبات التقنية والاستثمارات التي ينطوي عليها الأمر تعني أن المنتجات الصديقة للبيئة ستكلف أكثر بكثير.

لنأخذ صنع الزجاج والصلب النظيفين كمثالين، إذ يكلف الأول 20% أكثر من تكلفته العادية، فيما تزيد تكلفة صناعة الصلب الأخضر بأكثر من 30%.

ارتفاع الأسعار

يضاف ارتفاع الأسعار المحتمل نتيجة الثورة الخضراء، إلى الجدل القائم أصلاً حول توقعات التضخم التي تختمر بالفعل مع إعادة فتح الاقتصادات بعد عمليات الإغلاق، وارتفاع أسعار بعض المواد الأولية إلى مستويات قياسية.

سلّط الضوء على تلك القضية مؤخراً، كل من بنك إنجلترا، وشركة "بلاك روك"، وهي أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم. فيما أشار آخرون أيضاً إلى المطالب البيئية كأحد الأسباب في جعل تسارع التضخم الحالي أمراً قد يستمر.

تحوّل الطاقة

وفقاً لوكالة الطاقة الدولية، فإن تحقيق أهداف صافي الانبعاثات الصفرية، يتطلب استثمار 5 تريليونات دولار سنوياً في أنظمة الطاقة بحلول نهاية العقد. أي أكثر من ضعف متوسط الاستثمارات خلال السنوات الخمس الماضية.

بينما يطلب المستثمرون من ذوي التوجه الفكري المستدام من شركات النفط تقليص عمليات الحفر، فإنه يُنظر إلى أزمة الإمدادات الناتجة عن ذلك، كسبب في ارتفاع أسعار النفط. وذلك حتى قبل أن تقترب الاقتصادات من التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري. فيما يشكل جزءاً آخر من المعضلة.

تكاليف بيئية

يقول روجر بوتل، مؤسس شركة "كابيتال إيكونوميكس" ومؤلف كتاب "موت التضخم" الصادر عام 1996: "لو كان لي أن أراهن على عامل واحد من شأنه زيادة التكاليف في السنوات القادمة، سأختار التركيز على البيئة، وخاصة الدفع باتجاه تحقيق الانبعاثات الصفرية". وأضاف: "أعتقد أن هذا سيؤدي إلى سلسلة كاملة من التكاليف وزيادة الأسعار عبر الاقتصاد".

كذلك، من الممكن أن يؤدي الإنفاق الهائل على المصانع والتقنيات والعمليات الجديدة، إلى ارتفاع الأسعار في نهاية المطاف. حسب شركة "نيبون شييت غلاس" لصناعة الألواح الزجاجية، والتي قامت بصناعة السطح الخارجي المزجج لبرج شارد، أطول مبنى في لندن، فإن تصنيع الزجاج منخفض الكربون يضيف حوالي 20% إلى التكلفة العادية. الأمر الذي يشكل ضغطاً على الشركات، وهي إما أن تستوعبه أو تمرره إلى العملاء.

أسعار السلع

كذلك، سوف تضطر الأسر إلى زيادة الإنفاق هي الأخرى، حيث تضع الحكومة في المملكة المتحدة خططاً لاستبدال أنظمة التدفئة التقليدية العاملة بالغاز، بأنظمة تدفئة صديقة للبيئة، أكثر تكلفة.

وبالإضافة إلى تكاليف الاستثمار، يغذي التحول للطاقة النظيفة طلباً كبيراً على المواد الخام الرئيسية. على سبيل المثال، ارتفع سعر النحاس بأكثر من 60% في العام الماضي. وهو معدن حيوي لشبكات الطاقة والتوصيلات الخاصة بتوربينات الرياح.

ويعد الصلب مثالاً آخراً على هذا الارتفاع بالأسعار. إذ إن عملية إنتاج المعدن الذي يدخل في صناعة كل شيء تقريباً، بدءا من الصواميل وحتى الجسور، تعد عملية كثيفة الاستهلاك للكربون للغاية. حيث إنها عادة ما تعتمد على أفران الصهر العاملة بالفحم. وبينما توجد طرق أكثر صداقة للبيئة لإنتاج للصلب، تستخدم الهيدروجين أو الطاقة الحيوية، إلا أنها في الوقت الحالي لا تزال أكثر تكلفة بكثير.

تفاوت مصالح

قد يتفاقم هذا الوضع، مع تحذير وكالة الطاقة الدولية الشهر الماضي من "تفاوت وشيك" بين "الطموحات المناخية وتوافر المعادن المهمة"، مثل النحاس، والنيكل والليثيوم والكوبالت.

من جانبه، قال لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك"، هذا الشهر: "إذا كان الحل الذي نقدمه هو فقط التحوّل لعالم أخضر، فسنواجه تضخماً أعلى بكثير. لأننا لا نملك التكنولوجيا للقيام بكل هذا حتى الآن". وأضاف: "ستكون هذه مشكلة كبيرة تواجه السياسات في المستقبل".

هل نحن جاهزون؟

من جهة أخرى، ستلعب الكيفية التي يحدث بها تغيير التوازن بين مصادر الطاقة، (الجديدة مقابل القديمة، والنظيفة مقابل المُلوثة)، دوراً كبيراً في كيفية تأثير التحول نحو الاقتصاد الأخضر على النمو والتضخم. وفي هذا الإطار، يتعرض كبار منتجي النفط والغاز لضغوط متزايدة من المساهمين لخفض عمليات الحفر بغرض وضع خطط لتحقيق انبعاثات صفرية تتحلى بالمصداقية. فيما قد يؤدي تراجع الإمدادات إلى رفع الأسعار بالنسبة للعملاء. كما أن أزمة التضخم ستتفاقم إذا لم تكن مصادر الطاقة المتجددة البديلة، بالإضافة للبنية التحتية الضرورية لإدخالها إلى المنازل والشركات، جاهزة لتحمل كل هذا الركود.

تسعير الكربون

تمثل سياسة تسعير الكربون الحكومية، عاملا آخر في هذه المعادلة. إذ إنه بموجب نظام تداول الانبعاثات في أوروبا، تدفع الشركات إما مقابل التلوث، وهي تكلفة تضاعفت في العام الماضي، أو تستثمر في تقنية جديدة لتجنب إنتاج انبعاثات الكربون. ولحماية الصناعات من أن تصبح غير قادرة على المنافسة كأثر جانبي للسياسات المناخية الأكثر صرامة، تسعى أوروبا حالياً إلى فرض ضريبة حدودية على انبعاثات الكربون. وهي غرامة تفرض على دخول الانبعاثات المتضمنة في سلع مثل الصلب أو الأسمنت، إلى الكتلة الأوربية من خارجها.

العامل الزمني

من الجدير بالذكر، أنه حتى في حال كان على الشركات والمستهلكين التعامل مع ارتفاع الأسعار كجزء من التحول الضخم للطاقة، فمن غير المرجح أن يكون ذلك وضعاً دائماً. فمع تقديم الحكومات للحوافز، يتم استخدام المزيد من مصادر الطاقة المتجددة، كما أن الناس يغيرون من عاداتهم. ومن المفترض أن تؤدي تلك الحلقة الإيجابية للإنتاج والطلب إلى تحسين عوائد الاستثمارات الخضراء وتقليل التكاليف في نهاية الأمر. وفي حالة السيارات الكهربائية، تقدّر "بلومبرغ NEF" أنها ستصل إلى تعادل الأسعار مع سيارات محركات الاحتراق الداخلي، بدءاً من عام 2025.

كما يمكن أيضاً وضع حد للزيادة الأولية في التكاليف على المستهلكين. وذلك كون المواد الأولية لا تمثل سوى جزء بسيط من السعر النهائي للسلع. وكانت دراسة أجرتها "مجموعة بوسطن الاستشارية" بالمشاركة مع المنتدى الاقتصادي العالمي، وجدت أن إزالة الكربون ستضيف ما بين 1% إلى 4% للتكاليف النهائية على المستهلك، في المدى المتوسط.

توفير على المدى الطويل

بالفعل، انخفضت الأسعار في بعض المجالات، مثل الطاقة الشمسية، التي انخفضت أسعارها بأكثر من 90% خلال العقد الماضي. لكن في الوقت الذي أصبحت فيه الطاقة الشمسية أحد أرخص أشكال الكهرباء، إلا أن هناك تكلفة أولية كبيرة لتركيب الألواح في المنازل. غير أن ذلك لم يثنِ المشرعين في الولايات المتحدة عن جعلها مكوناً رئيسياً في مكافحة تغير المناخ. فعلى سبيل المثال، تلزم ولاية كاليفورنيا معظم المنازل المنشأة حديثاً بأن تتضمن أنظمة للطاقة الشمسية.

كما قد تحذو ولايات أمريكية أخرى حذو كاليفورنيا. كذلك، ستلزم بعض المناطق في ألمانيا، المباني غير السكنية، بتركيب الألواح فوق الأسطح الخاصة بها.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الفوائد المناخية للطاقة الشمسية، فضلاً عن أن التوفير في فواتير الخدمات على المدى الطويل، ستعوض النفقات الأولية التي يتكبّدها المستهلك في نهاية الأمر.

عن ذلك، يقول إدوارد ليس، الذي يشارك في إدارة صندوق تحوّل الطاقة التابع لبنك "بي إن بي باريبا" BNP Paribas: "على المدى المتوسط، لا يزال التأثير انكماشياً، وهذا ما يجب أن يركز عليه الناس". وتابع: "الرياح والشمس، لا تتقاضيان منك أي شيء".

البنوك المركزية

من ناحية أخرى يولي محافظو البنوك المركزية اهتماماً شديداً لتأثير تغير المناخ والانتقال إلى طاقة أنظف، على التضخم والإنتاج والوظائف والاستقرار المالي.

ومؤخراً، قال أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، إن التحول الأخضر يجب أن يبدأ في أقرب وقت ممكن، وذلك لتجنب التحركات غير المنظمة في وقت لاحق، والتي من شأنها أن تكون أكثر ضرراً. حيث ستقفز أسعار الكربون فجأة، وسيتعين على الشركات تدمير بعض أصولها، كما ستشتد الاختناقات حدة وتؤثر على النتائج. ويقدر بنك إنجلترا أن التضخم في هذا السيناريو سيتسارع إلى أكثر من 4% مقارنة بمتوسط 2% خلال القرن الحالي.

الأخطار الاقتصادية لتغيّر المناخ

على الجانب الآخر، ينطوي عدم اتخاذ إجراءات مناخية على أخطار اقتصادية ضخمة. إذ يحذر علماء المناخ من زيادة تواتر الظروف الجوية القاسية، والتي يمكن أن تعطل الإمدادات الغذائية وتضر بالمباني والبنى التحتية، وجميع تلك الأخطار لها تداعيات على الاقتصاد الأوسع.

ويقدر تحليل من "شبكة التحول الأخضر للنظام المالي"، وهي مجموعة تضم أكثر من 90 بنكاً مركزياً، أن يبلغ إجمالي الناتج المحلي العالمي إلى 13% بحلول نهاية القرن، في حال فشل التحول الأخضر. وذلك حتى بدون حساب الضرر الناجم عن الأحداث المناخية القاسية.

ووسط مثل تلك التحذيرات، هناك ما هو أهم من التكاليف، وفقاً لرين نيوتن سميث، كبيرة الاقتصاديين في اتحاد الصناعة البريطانية، وهى إحدى جماعات الضغط. إذ تقول سميث: "يعد ذلك بمثابة النظر إلى الأمر بمعزل عن الجوانب الأخرى، وعدم التفكير في الفوائد الهائلة الأوسع نطاقاً لتحسين جودة الهواء، والمساعدة في معالجة تغير المناخ عن طريق تقليل انبعاثات الكربون".