القمع الصيني لم يطفئ لهيب مركز هونغ كونغ المالي

نجاح هونغ كونغ رغم مضايقات الصين
نجاح هونغ كونغ رغم مضايقات الصين المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يعرف عن أهالي هونغ كونغ حب "القلي"، ولكن لا يقتصر ذلك على الطعام فحسب؛ إذ إن "القلي" يستخدم أيضا كتعبير مجازي لدى الصينين للإشارة إلى الاستثمارات في الأسهم.

وفي مؤشر على ذلك، فقد كان شخص من أصل كل 5 أشخاص في الصين على استعداد ليكون جزءا من الاكتتاب العام الأولي لشركة "أنت جروب كو" (Ant Group Co)، وهي شركة مختصة بالتكنولوجيا المالية يمتلكها الملياردير الصيني جاك ما. وأتى هذا الإقبال الكبير، قبل إعاقة هذا الإدراج من قبل الجهات التنظيمية في الصين أوائل نوفمبر، والذي شكل ضربة قاضية لما كان من المتوقع أن يكون أكبر طرح عام أولي على الإطلاق. ومع ذلك وخلال أيام قليلة فقط، كان المستثمرون يتطلعون إلى أسماء أخرى على القائمة.

ويقول ستيفن ليونج، المدير التنفيذي في شركة "يو أوه بي كيه هيان" في هونغ كونغ عن ذلك: "يظل المستثمرون متحمسون للاكتتابات العامة الجيدة القادمة"، مشيرًا بذلك إلى الشركات الصينية التي تتطلع إلى جمع مليار دولار أو أكثر خلال الفترة المقبلة مثل شركة "جي دي هيلث كاير المحدودة"، والمجموعة القابضة "بلو مون جروب هولدنج المحدودة" المصنعة للمنتجات الاستهلاكية.

أما شركة "كواشو تكنولوجي"، المنافس الأصغر لشركة "بايت دانس المحدودة"، فقد تقدمت بطلب إدراج بقيمة 5 مليارات دولار بعد أيام من موت شركة "أنت" (Ant). وأضاف ليونج: "ستظل سوق الاكتتابات العامة عامرة مع نهاية العام".

ويبدو العيش في هونغ كونغ هذه الأيام كمحاولة للتوفيق بين عالمين، هونغ كونغ التي تضج بالمصرفيين الذين يعملون لساعات إضافية نتيجة الطفرة والازدهار الذي تغذيه الحكومة، وهونغ كونغ الهادئة التي تدافع عن حرية التعبير والرأي بعد فرض قانون الأمن القومي الصيني في شهر يونيو.

ومع ازدياد سلطة الصين وسيطرتها على هونغ كونغ، يبدو أن المدينة قد تضطر إلى قبول مصيرها الذي يبدو أنه لا مفر منه، وهو أن تصبح مدينة أكثر ارتباطا بالقانون الصيني، مع كونها بوابة لتدفقات رؤوس أموال بالمليارات، بينما تغلي تحت وطأة السخط والآمال المحطمة لجزء كبير من الشعب.

ويقول أنتوني دابيران، المحامي والذي ألّف كتابين عن الحركات الاحتجاجية في المدينة: "هناك انفصال حقيقي بين عالم الأعمال والعالم المحلي، لكننا جميعًا اعتدنا في هونغ كونغ على العيش مع الخوف بدرجات مختلفة بأسلوب لم نعهده من قبل".

هل تعكس أسواق الأسهم صورة الاقتصاد الحقيقي للبلاد؟

صحيح أن هونغ كونغ ليست المكان الوحيد الذي تنفصل فيه أسواق الأسهم عن الاقتصاد الحقيقي، إلا أن وجود الكثير من الشركات الصينية التي تتطلع إلى طرح أسهمها للاكتتاب العام، وظهور شركات أخرى لأول مرة في نيويورك تسعى لإدراج أسهم ثانوية في المدينة، جعل هذا العام عاماً مزدحمًا وغاصاً بالعمل بالنسبة للمصرفيين في هونغ كونغ.

وقال أحد المصرفيين، والذي يعمل في بنك مسؤول عن العديد من عروض الإدراج، إنه بات حتى لا يملك الوقت لتناول مشروب، فيشرب الشاي سريع التحضير. ويوضح بأنه يحتاج إلى العودة إلى مكتبه حيث يخطط للعمل حتى منتصف الليل أو ربما حتى الساعة الواحدة صباحًا كما أصبحت العادة هذه الأيام، فقد حقق بنكه رقماً قياسيًا داخليًا للصفقات المنفذة في اليوم الواحد هذا العام، وهو ما جعل الجميع يهرولون للعمل.

وقال "ديدي"، وهو الاسم الذي أعطاه لنفسه حتى لا يتمكن صاحب العمل من التعرف عليه لأنه غير مخول لإعطاء أي تصريح أو حديث صحفي: "دائماً ما كنا مشغولين للغاية ولكن وتيرة العمل أصبحت على مستوى أعلى الآن".

ومع توجه المصرفيين المثقلة عيونهم بالنعاس والمحرومين من النوم إلى منازلهم ليلاً، يذهب الناشط المدني البارز، جوشوا وونغ البالغ من العمر 24 عامًا إلى الفراش متسائلاً عما إذا كانت الشرطة هي التي ستوقظه صباحاً لاعتقاله. ويقول وونغ الذي قابلته أثناء تناوله لغدائه: "يمكن القول إن أسوأ وقت هو منتصف الليل، وذلك قبل النوم".

ويضيف الناشط المؤيد للديمقراطية الذي قضى ثلاث فترات في السجن: "إن أفضل طريقة للتغلب على الخوف هو عدم التفكير في الأمر كل يوم، بل من الأفضل التفكير في طرق مواصلة النضال".

وفي هذه المدينة الآسيوية المزدهرة، لم يتم التوصل حتى الآن لأي حل لأسباب تظاهر مليوني شخص بها خلال العام الماضي، وبدلاً من التحرك نحو الديمقراطية كما طالب المحتجون، سارت هونغ كونغ في الاتجاه المعاكس، حيث تم تأجيل انتخابات المجلس التشريعي لمدة عام واستبعاد المرشحين المؤيدين للديمقراطية وعزل المشرعين المعتدلين بحجة أنهم لم يكونوا وطنيين بما يكفي.

مدينة تطالب بالديمقراطية وأخرى بالمزيد من الأموال

إن التناقض بين ما يحدث في الشوارع والأسواق المالية يشكل شكلاً من أشكال التنافر المحيرة. ففي الوقت الذي فاق الطلب فيه على الاكتتاب الأول لشركة تعبئة المياه الصينية "نوغفو سبرينغ كو" في شهر سبتمبر بـ1100 مرة من قبل مستثمري التجزئة، ليكون الاكتتاب الأكثر شعبية في هونغ كونغ خلال العقد الماضي، إلا أن جرس الافتتاح لهذا الاكتتاب ذو الشعبية العالية، حدث فقط بعد 36 ساعة من اقتحام الشرطة لحشد من المراهقين المحتجين واعتقال 300 شخص منهم.

وبالمثل، وقبل يومين من تقديم شركة "Ant " للاكتتاب العام الأولي في أغسطس، قبضت فرق خفر السواحل الصينية على 12 ناشطًا فروا من هونغ كونغ على متن قارب إلى تايوان، واقتادوهم إلى السجن في البر الرئيسي.

وفي يوم من الأيام في أوائل شهر نوفمبر، وعندما فاق الطلب العرض بأربع مرات على ما قيمته 5 مليارات دولار من السندات المرتبطة بالتضخم، أطلقت الشرطة خطًا ساخنًا تحث المواطنين فيه على الإبلاغ عن بعضهم بعضا بالقضايا المتعلقة بانتهاك قانون الأمن القومي، والذي أطلق عليه النقاد اسم "الخط الواشي"، وتم تسجيل 1000 وشاية عبره خلال الساعات القليلة الأولى.

وتبدو المدينة تعيش الخوف بشكل ملموس وواضح مثله مثل جنون التمويل الذي تعيشه أسواقها. ففي عشية اليوم الوطني الصيني في الأول من أكتوبر، أعلن ممثل بكين في هونغ كونغ، لوه هوينينغ، بأنه يجب على سكان هونغ كونغ أن يحبوا الصين الآن بدافع "الالتزام" وليس الاختيار، والذي ربطه العديدون على مواقع التواصل الاجتماعي بمقولة قديمة بدلوها لتصبح: "سوف يستمر الضرب حتى تتحسن الروح المعنوية وترتفع".

وهدد الآلاف من شرطة مكافحة الشغب المنتشرين في شوارع هونغ كونغ في ذلك اليوم بمنع أي شخص يجرؤ على إظهار خلاف ذلك، وتحول حمل اللافتات وحيازة الملصقات أو ترديد الشعارات التي كان يستخدمها المتظاهرون إلى انتهاك للقانون الجديد، والذي اعتقل على إثره 28 شخصًا. وقالت حكومة هونغ كونغ إزاء ذلك ما كرره مبعوثو بكين مرارًا وتكرارًا، إن القانون لن يؤثر إلا على مجموعة صغيرة من المتطرفين وإنه سيتم المحافظة على حريات المدينة.

القبضة الحديدية

ويرى البعض في القطاع المالي في هونغ كونغ مثل ألفين فان، الرئيس التنفيذي لمنصة صندوق التحوط "أو بي انفيستمنت مانجيمنت" بأن قانون الأمن القومي كان بمثابة نعمة، حيث سمح للمدينة بالعودة إلى مجال كسب المال. وتشهد شركة فان عامًا قياسيًا في زيادة الأصول بالإضافة إلى ارتفاع صناديق التحوط المُدارة بنشاط على منصته بنسبة 16%.

ويقول فان: "ليس الاستقرار المالي هو وحده المهم للغاية، بل الاستقرار بشكل عام". ويرى فان باستمرار العناوين الرئيسية بالحديث عن الإجراءات الصارمة المستخدم، أكبر مخاوفه حيث قد تثير هذه العناوين المخاوف في الخارج وتوقف التدفقات النقدية والاستثمارية. وأضاف: "إن المستثمرين يصوتون بأموالهم في نهاية المطاف".

ويقول ديفيد ويب، وهو مستثمر نشط له تاريخ طويل في سوق هونغ كونغ، أن الصين مستعدة لتحمل التكاليف الباهظة التي ستتكبدها مكانتها الدولية نتيجة نهج "القبضة الحديدية " الذي تنتهجه في هونغ كونغ، لأن هذا النهج سيساعد الصين على استيعاب المدينة وضمها لمنطقة الخليج الكبرى بحسب خطتها والتي تهدف إلى إنشاء مركز تكنولوجي ينافس منطقة خليج سان فرانسيسكو، كما يقول.

وببساطة تامة سيتم استبدال سكان هونغ كونغ الذين قبلوا عرض إقامة في المملكة المتحدة بآخرين من البر الصيني الرئيسي. ويضيف ويب: "إنهم يفضلون تحويل هونغ كونغ إلى مقاطعة أخرى من مقاطعات بر الصين الرئيسي لأن الأولوية القصوى هي اختفاء الاحتجاجات وعدم زعزعة استقرار المدينة".

الاحتجاجات والخوف من هروب المستثمرين

ولكن حتى في حال حدوث احتجاجات واسعة النطاق، فقد تم تقييد قدرة وسائل الإعلام على تغطيتها، فلا تعترف المبادئ التوجيهية الجديدة للشرطة بالصحفيين المستقلين ولا الصحفيين الطلاب ولا مراسلي الأخبار عبر الإنترنت، والذين تعرض العديد منهم لمخاطر جسيمة حتى يستطيعوا تسجيل أحداث العام الماضي. وبناء على ما أعلنته جمعية الصحافيين في هونغ كونغ، يجب على الصحافيين اللذين يُعَدون موثوقين أن يمارسوا الرقابة الذاتية أو يواجهوا ضغطًا من الإدارة. وكانت الحكومة قد داهمت في شهر أغسطس مقر صحيفة المعارضة "أبل ديلي" (Apple Daily) واعتقلت مؤسسها جيمي لاي للاشتباه في انتهاكه لقانون الأمن القومي، وذلك بعد أن تراجعت إلى المرتبة 80 في مؤشر حرية الصحافة السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود، بعد أن كانت في المرتبة 48 في عام 2009.

كما يمكن رؤية التوبيخ العلني للمهنيين في هونغ كونغ بشكل شبه يومي، فالصحف الموالية للصين تهاجم القضاة الذين تراهم متساهلين للغاية في القضايا ضد ما يقرب من 10000 متظاهر تم اعتقالهم منذ منتصف عام 2019. وبعد أن تم منع معلم في مدرسة ابتدائية من مزاولة المهنة مدى الحياة في شهر سبتمبر بعد إعطائه درساً حول أسباب مطالبة بعض الأشخاص بالاستقلال خلال حصة مدرسية قبل دخول قانون الأمن الجديد حيز التنفيذ.

وقام الرئيس التنفيذي السابق للمدينة بنشر المعلومات الشخصية لـ 18 معلما آخر يواجهون اتهامات تتعلق بالاحتجاج على "فيسبوك" ، وبرر ذلك بأن الآباء يستحقون معرفة من يسعى إلى تطرف أطفالهم، وحثهم أيضاً على الإبلاغ عن المعلمين الآخرين. كما حث مكتب الاتصال الصيني في هونغ كونغ على قطع "الأيدي السوداء" في النظام المدرسي، لذلك يخشى العديد من المعلمين الآن أن تؤدي المناقشات الصفية إلى قيام الأطفال ببلاغات ضدهم وبالتالي إنهاء حياتهم المهنية. في الوقت ذاته، وفي أثناء هذا، تم سحب الكتب التي تدعو إلى الديمقراطية، بما في ذلك تلك التي كتبها الناشط البارز جوشوا وونغ، من رفوف المدارس والمكتبات العامة.

ويعد تزايد استخدام مصطلحات الحزب الشيوعي والتشهير العام وتشجيع المواطنين على الإبلاغ عن الآخرين، بالرغم من أنه لم يبلغ حد التطرف الذي حصل خلال الثورة الثقافية الصينية، إلا أنه لا يزال يعد غريبًا على معظم سكان هونغ كونغ ومغيراً لنسيج المجتمع. فتقول مايا وانغ، وهي باحثة في "هيومن رايتس ووتش": "إن هذا النظام يجعل الأفراد المؤيدين للديمقراطية خائفين، ويؤدي إلى فرار البعض منهم، ويبث الخوف في بقية أفراد المجتمع". وأضافت: " ربما تحاول بكين أن تكرر في هونغ كونغ تغذية آلية رقابة اجتماعية مهمة في الصين ألا وهي ثقافة المخبرين، فنادراً ما تعمل الحكومات الاستبدادية بمفردها، فهي تعتمد على قوة الجماهير".

هل ستبقى السوق المالية منتعشة مع ذلك؟

وفي الوقت الحالي، تتعايش هونغ كونغ مع نفسها الأخرى، والشركات الأجنبية والبنوك الدولية لم تهرب من المكان، ولم تتلاش فرص كسب المال بعد. كما أنه من غير المحتمل أن يتغير ذلك بغض النظر عن الشكل الذي ستتخذه حكومة هونغ كونغ، وذلك بفضل ضوابط العملة الصينية التي تجعل المدينة منهلاً لشركات بر الصين الرئيسي لزيادة رأس المال في البورصة، والتي تشكل بدورها ثلثي القيمة السوقية للسوق.

وقد أدى التغيير الأخير للسماح بإدراج أسهم الفئة المزدوجة إلى جعل المدينة أكثر جاذبية للشركات الصينية في وقت دفع فيه الخطاب المناهض للصين في الولايات المتحدة البعض إلى البحث عن قوائم ثانوية في هونغ كونغ، كما أن العقوبات الأمريكية وإلغاء الامتيازات التجارية لهونغ كونغ لم تفعل شيئًا يذكر لتثبيط النشاط في إطار الأسواق المالية. ويبدو أن رهان الصين على قدرتها على الحفاظ على هونغ كونغ مركزاً مالياً دولياً بينما تقوم بتضييق الخناق على المعارضة يؤتي ثماره. فيقول دابيران: "تظل هونغ كونغ تمثل ماكينة صراف آلي للعملات الأجنبية بالنسبة للشركات الصينية".

ليست كل الأسواق المالية في الصين وردية

ولكن ليس كل ما في أسواق الصين المالية وردي بالنسبة للصين. فهناك عروض كثيرة لم تجد مستثمرين، بما في ذلك شركة "يوم تشاينا"، التي تدير مطاعم "كنتاكي" في الصين، والتي تراجع إدراجها الثانوي في هونغ كونغ في شهر سبتمبر بنسبة 6٪ قبل أن يتعافى ويرتفع إلى سعر العرض بعد شهر من ذلك. وقد أدى تأجيل الاكتتاب العام الأولي إلى خسارة المصرفيين لرسوم متوقعة تبلغ 400 مليون دولار على الأقل حتى الآن. وتقوم بعض شركات السمسرة بتقاسم تكلفة هامش القروض مع مستثمريها على الرغم من أنهم يقولون إنه يتم ارجاع جميع الأموال التي تم التعهد بها للأسهم.

وقد تنتعش البورصة، إلا أن الاقتصاد الحقيقي لهونغ كونغ لا يزال في حالة ركود، حيث تقلص بنسبة 9٪ في النصف الأول و3.5٪ في الربع الثالث. وفي هذا إشارة إلى عدم الرضى، وهو أيضاً السبب وراء رغبة العديد من سكان هونغ كونغ في مواصلة النضال، على الأقل لإبقاء المسؤولين على دراية بأن الناس بحاجة إلى الحكومة للعمل من أجل مصلحتهم، وليس فقط لخدمة المطورين وأباطرة المال والنخب المتصلة ببكين ممن يتحكمون باقتصاد المدينة وهياكلها السياسية.

ويقول جوشوا وونغ إن تحميل هؤلاء المسؤولية هو دور النشطاء. ويقضي وونغ أيامه في تبني قضايا وحملات مثل حملة تحرير النشطاء الذين تم ضبطهم وهم يفرون إلى تايوان وزيادة الوعي العالمي حول الحريات المتناقصة في هونغ كونغ، ويقول: "ما نحاول القيام به هو الحفاظ على الزخم". أما بالنسبة للمستثمرين أو أي شخص قد يعتقد أن هونغ كونغ راضية عن سوق الاكتتابات الأولية المتزايدة وقدرتها على سك المليارات فإن وونغ لديه رسالة خاصة لهم: "نحن لن نستسلم أبدًا".