رحلة توثيق آخر الهواتف العمومية في أمريكا

تصوير: إريك كونسمان
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

كنا نتحرك شمالاً باتجاه طريق "غودمان ستريت" في مدينة "روتشيستر" بولاية نيويورك، نمرّ على مطاعم البيتزا ومحطات الوقود والمنازل الخشبية الضيقة، حين شاهد إريك كونسمان كشكاً صغيراً أحمر اللون، ينتصب على جانب ساحة لانتظار السيارات أما متجر للبقالة وبيع السجائر. إنه هاتف عمومي، أحد الأكشاك التي ربما قد رآها مرات عديدة من قبل، لكنه لم يرَ واحداً منها على أرض الواقع حتى الآن، في عصر الهواتف الذكية.

"أنظر هناك"! أوقفنا السيارة على جانب الطريق، وكانت من طراز "تويوتا" رباعية الدفع، ثم خرج كونسمان وفتح غطاء مؤخرة السيارة وهو يقول: "لا أستطيع أن أصدق أنني لم أنتبه إلى هذا".

يحتفظ كونسمان في حقيبة السيارة الخلفية، بمعدات التصوير الفوتوغرافي –كاميرا فيلم قديمة من نوع "هاسلبلاد" في حقيبة بحجم حقيبة السفر. كانت الكاميرا قطعة تلفت الانتباه، وعندما نصبها وأعدّها، ووجّهها نحو كشك الهاتف العتيق، خرج صاحب متجر الدخان متجهما.

إقرأ أيضاً: "فوجي فيلم" تجني ثمار التحول إلى الرعاية الصحية والرقائق

اعتاد كونسمان على هذا الجزء من عملية التصوير. بابتسامة عريضة، يقوم بتقديم نفسه وتفسير ما يفعل: "أنا مصور فوتوغرافي وألتقط صوراً للهواتف العمومية".

في الواقع، بعمل كونسمان مدرساً لمادة الفوتوغرافيا في "معهد روتشيستر للتكنولوجيا" (Rochester Institute of Technology)، وهو يشارك في مشروع ينفّذ على سنوات عدة، ويهدف إلى توثيق كل هاتف عمومي مازال قائماً داخل أو حول المدينة في المناطق الشمالية من ولاية نيويورك. في عام 2018، كان عدد هذه الهواتف 1455 هاتفاً عمومياً، بحسب قائمة قديمة مستهلكة لمواقعها، قدمتها لنا شركة "فرونتير للاتصالات" (Frontier Communication)، وهي شركة الاتصالات التي تقوم على تشغيل هذه الأكشاك في مقاطعة مونرو. حتى الآن، التقط كونسمان نحو 900 صورة لهذه الهواتف العمومية على أفلام، ويقول إن 35% منها تقريباً مازالت صالحة للعمل.

ولد هذا المشروع من شغف كونسمان بالتكنولوجيا العتيقة التي بطُل استخدامها، وفي مدينة باتت مرتبطة بهذه التكنولوجيا. فقد اشتهرت مدينة روتشيستر بأنها موطن جورج إيستمان، مؤسس شركة "إيستمان كوداك" (Eastman Kodak). في ذروة نجاحها في سبعينيات القرن الماضي، كانت شركة التصوير الفوتوغرافي العملاقة تستخدم نحو 50 ألف عامل ويعتمد عليها رُبع النشاط الاقتصادي في المدينة. غير أن تطور تكنولوجيا التصوير الرقمية، وانهيار التصوير الفوتوغرافي بالأفلام، نتج عنهما تسريح أعداد هائلة من العمال، وإفلاس الشركة في عام 2012، وإفراغ المدينة من الطبقة الوسطى. كانت مدينة روتشيستر ذات يوم محصّنة وبعيدة عن الأزمات العصيبة التي أصابت مدن "حزام الصدأ" (Rust Belt) مثل مدينة "بافالو" في ولاية نيويورك، والآن هي غارقة في موجة عنيفة من التدهور الاقتصادي. تبلغ نسبة الفقر حالياً في المدينة 31%، وهي أسوأ نسبة بعد مدينتي "ديترويت" و"كليفلاند"ـ من بين 75 مدينة كبرى في الولايات المتحدة.

هذا التاريخ يستحوذ على وجدان كونسمان، الذي انتقل إلى مدينة روتشيستر قادماً من مسقط رأسه في مدينة بيت لحم في بنسلفانيا في عام 1996. يقول كونسمان عن المدينة: "كان علي أن أرى أيام بهائها، ثم اضطررت كذلك أن أراها وهي تنهار".

هواتف مدينة روتشيستر العمومية، لفتت إليها أنظار كونسمان في عام 2017، عندما نقل إستوديو التصوير الخاص به من "حي الفنون" (Neighborhood of the Arts)، وهو حي أعيد تجديده في جنوب شرق المدينة، إلى مناطق محدودي الدخل في "هلال الفقر"– وهو مجمع من أحياء أصحاب الدخل المحدود إلى الشمال والغرب من وسط المدينة، اكتسب شهرة بانتشار الجريمة والإهمال. حذّره أصدقاؤه من أن المنطقة التي انتقل إليها هي "منطقة حرب"، ومع ذلك، ما إن قام كونسمان بتجهيز إستوديو التصوير في مستودع قديم، حتى وجد شبكة متماسكة من العائلات المتجاورة وسط الساحات الفارغة، وعلامات أخرى على المعاناة الاقتصادية. وقد لاحظ على الفور أن من بين هذه العلامات، أعداداً وفيرة من الهواتف العمومية، إلى حد يثير الدهشة.

بالنسبة إلى كونسمان، بقاء هذه الأجهزة في مناطق محدودي الدخل، يكشف عن أنماط الاستثمار والاهتمام التي تجذبها هذه المناطق. فالهواتف العمومية، التي كانت ذات يوم مرفقاً عاماً يُستخدم على نطاق واسع، صارت الآن علاماتٍ على البؤس والإهمال، وهي باقية فقط لأن أصحاب العقارات أو شركات الاتصالات، لا يزعجون أنفسهم بإزالتها. مع ذلك، حتى في عهد توافر الهواتف الخليوية تقريباً لكل الناس، كان هناك من يستخدم الهواتف العمومية -مثلا، أناس مشردون يحيّمون قرب أحد المطاعم. شرع كونسمان في التقاط الصور للهواتف العمومية، منطلقاً من تلك التي وجدها حول المنطقة التي يعيش فيها، ثم التي تبعد عنها. وهو يلتقط صوراً بالأبيض والأسود على أفلام "كوداك"، وسبب ذلك، كما يقول، أن "انهيارها هو ما تسبب في هذه المشكلة".

إقرأ أيضاً: الفنادق الشاغرة.. فرصة لتوفير الإسكان للمشردين ومحدودي الدخل في أمريكا

لا يظهر أشخاص في هذه الصور، سوى عدد قليل منهم أحياناً في الخلفية. يقول كونسمان، إن الناس الذين يستخدمون الهواتف العمومية يمكن أن يتعرضوا لوصمة عار، كما إنه لا يريد للمشروع أن يقدم إجابات بسيطة حول أولئك الناس الذين ربما يعتمدون عليها. ويؤكد: "يجب أن تهتم لأمر من قد يستخدم ذلك الهاتف".

أحيانا يلتقط كونسمان صوراً لأكشاك فارغة تتبع شركة "فرونتير" (Frontier) وقد أزيلت منها أجهزة الهواتف العمومية، أو صوراً لبقعة غير مطلية على حائط كان معلقاً عليه أحد هذه الأجهزة. تركز هذه الصور عادة على مناطق روتشيستر التي لا يُحتفى بها كثيراً: مثل ساحات انتظار السيارات، وشوارع التسوق، وواجهات المتاجر التي تغطيها أكوام الجليد. لكن بعض المعالم المحلية المميزة تظهر أحياناً. فمثلا، ستاد "فرونتير فيلد" (Frontier Field) لدوري كرة البيسبول للناشئين، الذي سُمي باسم شركة الاتصالات، وفيه عدد قليل من أجهزة الهواتف العمومية. كذلك، "كوداك بارك" (Kodak Park)، وهو مجمع ضخم للتصنيع والأبحاث، قامت شركة "إيستمان كوداك" ببنائه على مساحة 1300 فدان على الأطراف الشمالية للمدينة أيام مجدها. هذا المجمع الكبير كان مدينة داخل المدينة. لديه محطة لتوليد الكهرباء وخط خاص للسكة الحديد، لكنه تهدّم جزئياً خلال العقد الأول من الألفية الجديدة. المباني المتبقية منه، أعيدت تسميتها إلى "إيستمان بيزنيس بارك" (Eastman Business Park)، وفتحت أمام الشركات المحلية على أمل تحويلها إلى مركز للابتكار والتكنولوجيا. إن رماد جورج إيستمان مازال باقياً هناك تحت شاهد قبر رخامي للذكرى. يقول كونسمان، إن القيام بجولة داخل مبنى لصناعة الأفلام بالنسبة إلى مصور فوتوغرافي، يشبه "جولة داخل مصنع الشيكولاته (ويلي وونكا)".

كان كونسمان يمعن التفكير في اقتصادات صناعة الهواتف العمومية التي تتلاشى، والأماكن التي يكتشف فيها هواتف مازالت تعمل –وأحياناً هواتف جديدة أو جرى إصلاحها. وكانت نظريته أن شركة "فرونتيير" تحافظ على بعض الهواتف في مناطق محدودي الدخل، كلفتة إيجابية نحو المجتمع المحلي، لأن قطع الأرباع النقدية التي تجمعها من خلال استخدام هذه الهواتف، لا تعوض مصروفات صيانتها. وقد نُظر إليها كمثال على تطبيق "حساب اللذة والألم"، وهي طريقة تحدد صواب أي فعل من عدمه، استناداً إلى العائد الذي يحققه من المتعة، وتنسب إلى فيلسوف النفعية جيرمي بنتام. ("حساب اللذة والألم" هو أيضاً عنوان مشروع كونسمان للتصوير).

لم تؤكد الشركة، التي أشهرت إفلاسها في مارس 2020، ذلك المنطق أبداً. (لم تستجب كذلك لطلب التعقيب). ممثل عن شركة "فرونتيير" تحدث مع ديفيد أدرييتا، المحرر في صحيفة "سيتي" في "روتشيستر" في عام 2019. وقال المتحدث باسم الشركة آنذاك: "إنه نشاط ينهار، والقرارات التي تتخذ بشأنه واضحة، أسود وأبيض. وطالما أن الوحدات الباقية تستخدم بما يكفي لتغطية تكاليف الصيانة والتشغيل، فإن شركة (فرونتيير) ستظل قادرة على إبقائها في الخدمة".

بغض النظر عمّا إذا كانت الهواتف العمومية في مدينة روتشيستر تعبيراً عن فعل عمدي من شركة حسنة النية، أو أنها مجرد حالة كلاسيكية "لأصول عالقة" –أو بنية أساسية جرفت موجة التطور قيمتها والغرض منها– فإن هذه الهواتف تقف كمواد ذات جاذبية طاغية لعدسات كونسمان. لذلك فهو يقول: "نحن ننسى أن التكنولوجيا تتطور بسرعة كبيرة. ولا نفكر في الناس الذين تخلفهم وراءها".

يسهل أن ننسى أن الهواتف العمومية كانت يوماً ذات حضور طاغ في المدن الأمريكية خلال القرن العشرين، وكيف تبخر ذلك الملمح الأيقوني سريعاً من مشهد الشوارع في القرن الحادي والعشرين. فقد ظهر أول هاتف عمومي يعمل بالعملة المعدنية خارج مبنى من مباني وسط المدينة، في مدينة هارتفورد بولاية كونيكتيكت في عام 1889. وبحلول عام 1999، كان قد انتشر أكثر من مليوني هاتف عمومي على أرصفة الشوارع ومداخل الفنادق والمطارات والمستشفيات في الولايات المتحدة. كانت آخر مرة أصدرت "هيئة الاتصالات الفيدرالية" تعداداً للهواتف العمومية في عام 2016، وكان المتبقي منها أقل من 100 ألف وحدة. بفضل برامج الحكومة الفيدرالية جزئياً مثل برنامج "لايف لاين" (Lifeline) التي تدعم جزئياً خدمات الهاتف المحمول للأمريكيين ذوي الدخل المنخفض، وصل استخدام الهواتف الخليوية في الولايات المتحدة إلى 97% من البالغين، بحسب "مركز بيو للأبحاث" (Pew Research Center).

مع انتشار الأجهزة المحمولة بشكل سريع بين السكان، اكتسبت الهواتف العمومية –والذين ما يزالون يستخدمونها- سمعة سيئة. خلال تسعينيات القرن الماضي، بعض قيادات المدن أقرت تشريعاً يحدّ من إقامتها في محاولة لمواجهة تجارة المخدرات، وكان ينظر إلى أكشاك الهواتف على أنها مغرية لتعاطي المخدرات. وقامت المدن بجعل عشرات الآلاف من الهواتف العمومية مجرد خردة.

الحفنة الصغيرة نسبياً التي بقيت منها في مدن كبرى مثل نيويورك ولوس أنجلوس، أصبحت منذ ذلك الوقت موضوعاً لسحر الحنين إلى الماضي، كما اكتشف كونسمان عندما عرض على مواقع التواصل الاجتماعي تتبّعه للهواتف العمومية في مدينة روتشيستر. وهنا وجد رفاقاً مثله متحمسين، من بينهم صانع الأفلام رايان ستيفن غرين، الذي يدير حساباً على "إنستغرام" باسم "هواتف لوس أنجلوس العمومية"، والفنان التشكيلي بينتابو كلورتينو، الذي يقوم بتحويل أكشاك الهواتف العمومية إلى قطع فنية.

غير أن كونسمان لا يهتم فحسب بالجوانب الجمالية في هذه القطع المهجورة من أثاث الشوارع: إنه يستخدم مشروعه في دراسة أوضاع المدينة الاقتصادية والاجتماعية دراسة نقدية معمقة. يتعاون مع اثنين من زملائه في "معهد روتشيستر للتكنولوجيا" (RIT)، المتخصصة في المكتبات الرقمية ريبيكا وولكر، والباحثة لدى "مركز مبادرات السلامة العامة" جانيل دودا-بانوور، بهدف وضع خريطة بمواقع الهواتف العمومية في مختلف أنحاء منطقة روتشيستر وتعزيزها بأرقام مثل معدلات الفقر، ومتوسط الدخل، وقيمة المنازل، ومعلومات ديموغرافية. دودا-بانوور تحدثت مع سكان المنطقة حول الهواتف العمومية وفيما تستخدم، وقالت: "حيث توجد أعداد كبيرة من الهواتف العمومية، توجد كذلك مستويات عالية من الفقر. إن لدى الناس هذا الربط السلبي: إن تجّار المخدرات يستخدمونها، أو إن المشردين يستخدمونها، ولكن لا أحد يتحدث عن هذه الهواتف كمورد اقتصادي".

عندما يصادف كونسمان أشخاصاً يقومون باستخدام الهواتف العمومية للاتصال بآخرين –وهو أمر بات نادراً مع انتشار فيروس كوفيد-19 – يكتشف أنهم دائماً يتصلون بأفراد عائلاتهم أو بأطباء. وهم على وعي شديد بما ينطوي عليه استخدام الهواتف العمومية في الاتصالات في عام 2021. يقول كونسمان: "شيء واحد منتشر وشائع بينهم جميعاً، هو أنهم لا يحبون أن ينظر إليهم الناس".

بالنسبة إلى أولئك الذين مازالوا يعتمدون على هذه الأجهزة، فقد باتت خياراتهم محدودة. منذ بداية مشروعه، رصد كونسمان اختفاء أو تدمير أعداد من الهواتف العمومية التي كانت مستخدمة ذات يوم. وفي شارع "لييل أفينيو"، يلتقط ضحية حديثة أخرى كانت على حائط جانبي من حوائط متجر صغير، والذي كان قبل ذلك هاتفاً عمومياً في حالة جيدة. (الصورة التي التقطها كونسمان تبرز بعض المفارقة البصرية: فقد كان المتجر يبيع الهواتف الخليوية)، والآن لا يظهر منه إلا الأسلاك المقطوعة. يتوقف كونسمان لالتقاط صورة لها، وبعناية يلتقط صوراً أخرى من زوايا مختلفة عن الصورة الأولى. ومرة أخرى، يخرج صاحب المتجر متحدثاً إليه – في البداية بتشكك، ثم باندهاش. يقول صاحب المتجر إن الهاتف العمومي أزيل منذ أشهر قليلة عندما قام بطلاء المبنى.

ليس بعيداً من هنا، ندلف بالسيارة إلى محطة وقود تابعة لشركة "سونوكو" (Sunoco) يقال إن لديها هاتفاً عمومياً صالحاً للاستخدام. غير أن فحصاً دقيقاً للهاتف، كشف أن سماعة الأذن بها عطل ولا تظهر إشارة صوتية للاتصال. ويقول مايكل ماتشيو الذي يعمل في مرآب للسيارات: "لا أستطيع أن أتذكر آخر مرة رأيت فيها شخصاً يستخدمه. لكنني أحب أن أراه هنا. إنه قطعة من التاريخ يا رجل".

ثم نتابع الجولة، ونزور مراكز للتسوق مختلفة في أعمارها، حيث تختبئ فيها الهواتف العمومية غالباً على أعمدة المداخل، أو صالونات العناية بالأظافر ومتاجر السلع الرخيصة. في إحدى المناطق الثرية، وجدنا هاتفاً عمومياً وحيداً على مدخل ساحة كبيرة لانتظار السيارات. أحد المتاجر الصغيرة المحطمة يكتظ بأربعة منها. ولا واحدة منها تعمل. هنا يتخلى أحد الأشخاص عن ربع دولار معدني. يأخذه كونسمان ويضعه في جيبه قائلاً: "هذا هو الأول".

في طريق العودة إلى المدينة، نمرّ على موقع للبناء في "مين ستريت"، ونكتشف أحد أكشاك الهواتف العمومية ذات السقف الأخضر التي تم تركيبها أثناء موجة تجديد لمنطقة وسط المدينة في تسعينيات القرن الماضي. هيكله يميل إلى ناحية دون الأخرى الآن، وهو محاصر في بحر من الحصى، حيث يجري حفر الرصيف حوله. يعلّق كونسمان -وهو يعود بالسيارة لالتقاط صورة له- بالقول: "غداً صباحاً، يكون هذا الكشك قد اختفى".