نجاح سنغافورة في مواجهة كورونا نموذج لا يمكن تصديره بسهولة

العلامة التجارية لتطبيق "ترايس توغذر" للتتبع. ربط المسؤولون هذه المرحلة من إعادة الفتح باعتماد أوسع للتطبيق وللرموز المميزة. وبحلول منتصف ديسمبر، استخدمها حوالي 65% من السُكان.
العلامة التجارية لتطبيق "ترايس توغذر" للتتبع. ربط المسؤولون هذه المرحلة من إعادة الفتح باعتماد أوسع للتطبيق وللرموز المميزة. وبحلول منتصف ديسمبر، استخدمها حوالي 65% من السُكان. المصدر: بلومبرغ
Daniel Moss
Daniel Moss

Daniel Moss is a Bloomberg Opinion columnist covering Asian economies. Previously he was executive editor of Bloomberg News for global economics, and has led teams in Asia, Europe and North America.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في فجر عام 2021، تبدو سنغافورة وكأنَّها نابض مُلتف ينتظر الإنطلاق. ومرةً أخرى يكاد أن يكون من المستحيل تقريباً حجز طاولة للعشاء هُناك في اللحظة الأخيرة، كما أنَّ مراكز التسوق التي لا حصر لها، والتي تنتشر على خارطة البلاد تشهد ازدحاماً في عطلات نهاية الأسبوع. كما أنَّ الطريق السريع المركزي، وهو شريان أساسي يمتد شمالاً من وسط المدينة، يشهد ازدحاماً هو الآخر. ولحسن الحظ فإنَّ الأطفال يكونون في المدارس.

من المتوقَّع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي للمشاريع الحكومية بين 4% و6% هذا العام، بالمُقارنة مع انكماش بنسبة 5.8% في عام 2020، وهو الأسوأ في تاريخ البلاد. وتعكس هذه النظرة الأكثر إشراقاً، مع التخفيف الحذر لقيود كورونا نجاح سنغافورة في احتواء عدوى الوباء. وتجعل المكان يبدو رائعاً مُقارنةً بالولايات المتحدة وأوروبا، إذ ينتشر المرض مرة أخرى بسرعة. كما أنَّ اليابان وكوريا الجنوبية، اللتان تمَّ الإشادة بهما بشكل عام على طريقة تعاملهما مع الأزمة، تُصارعان الآن التفشي الجديد للفايروس.

حقيقة إنجازات سنغافورة في مكافحة فيروس كورونا تستند إلى درجة النفوذ التي تتمتع بها الدولة التي قد تجدها الدول الأخرى غير مُريحة

وعلى الرغم من حقيقة إنجازات سنغافورة في مكافحة فيروس كورونا، إلا أنَّها تستند إلى نموذج لا يمكن تصديره بسهولة؛ إذ يتمُّ تبسيط نتائجها من خلال درجة النفوذ التي تتمتَّع بها الدولة، التي قد تجدها الدول الأخرى غير مُريحة.

ومع عدم وجود أماكن كثيرة كنت أُفضّل الوجود فيها خلال هذا الوباء، لكنني أجد أنه من المشكوك فيه أنَّ نهج سنغافورة يمكن أن يعمل خارج حدودها. ففي العديد من الحالات، لا تمنح دساتير الحكومات الوطنية بسهولة القدرة على القيام بما تمَّ تحقيقه هنا.

في الأسبوع الماضي، دخلت البلاد المرحلة الثالثة من إعادة فتحها. فقد سمحت الحكومة الآن بالتجمعات الاجتماعية لثمانية أشخاص، بدلاً من خمسة. وتمَّ توسيع حجم التجمعات في المرافق الدينية وفقاً للوائح الصارمة، وبالإضافة إلى ذلك تُحاول السلطات تقليل صعوبة وجود العمال في مكاتبهم.

الامتثال بين الإلزام والالتزام

إذا كان هذا يبدو شيئاً تُحسد عليها سنغافورة، ففكر في مقدار الامتثال الذي استغرقته للوصول إلى هنا. إذ يعدُّ من الإلزام لأيَّة مؤسسة أن تستخدم رمز الاستجابة السريعة (QR)، ويُفضل أن يكون ذلك من خلال تطبيق حكومي على هاتفك الذكي، على الرغم من أنَّ التقاط الصور يعمل أيضاً. ويجب عليك أيضاً الخضوع لفحص يُظهر درجة حرارتك، كما عليك ارتداء الكمامة أيضاً.

تبلغ قيمة المُخالفة الأولى لعدم ارتداء الكمامة 300 دولار سنغافوري (225 دولاراً)، وتبلغ غرامة المخالفة الثانية 1000 دولار سنغافوري. وتكرار المخالفات يستدعي الملاحقة القضائية بالنسبة للأجانب، وإلغاء تصاريح العمل. وأما بالنسبة لأولئك الذين لا يستخدمون هاتفاً ذكياً أو الذين يفضِّلون عدم استخدام التطبيق، تقوم الحكومة بطرح رمز مميز، يتمُّ به حثك على حمله عند مغادرة المنزل. فضلاً عن الأطفال فوق سن السابعة الذين يُنتظر منهم الامتثال لهذه الضوابط.

ربط المسؤولون هذه المرحلة من إعادة الفتح باعتماد أوسع لتطبيق يُدعى "لنتعقب سويةً" (Trace Together)، وللرموز المميزة. وبحلول منتصف ديسمبر، استخدمها حوالي 65% من السُكان. إذ قال رئيس الوزراء "لي هسين لونغ" في خطاب الشهر الماضي: "أرجو أن تفهموا أنه حتى مع دخولنا المرحلة الثالثة، فإنَّ المعركة بعيدة عن الحسم، ولم يتم القضاء بعد على كوفيد-19."

رئيس الوزراء سنغافورة: أرجو أن تفهموا أنه حتى مع دخولنا المرحلة الثالثة، فإن المعركة بعيدة عن الحسم، ولم يتم القضاء بعد على كوفيد-19

تكمن فعالية نهج سنغافورة في الجمع بين الدقة والانتشار. حتى أنَّ سيارات الأجرة تملك رموزاً شريطية ليتمَّ مسحها ضوئياً. وأصبح ارتداء الكمامة أمراً روتينياً لدرجة أنَّه من السهل نسيانها عند مغادرة المنزل، تماماً مثل الخروج بدون مفاتيحك. (لا يهم ذلك، فمعظم سائقي سيارات الأجرة لديهم كمامات، وهم جاهزون لمُشاركتها معك).

شعرت بالرعب عندما علمت أنَّه على الرغم من تفشي المرض مؤخراً في الضواحي الشمالية لسيدني (أستراليا)، أصبح ارتداء الأقنعة إلزامياً فقط بدءاً من يوم الإثنين.

في فرنسا، رفعت المنتجعات الشتوية دعوى قضائية ضد الحكومة لإبقاء مصاعد التزلج تعمل خلال العطلات. ويمر أكثر من مليون شخص يومياً عبر المطارات الأمريكية في الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد. يهز أصدقائي السنغافوريون رؤوسهم بدهشة. كل هذا يصدمهم، وكأنَّه كمن يُسجل هدفاً في مرماه، وهم على حق.

هناك القليل من القلق بشأن تنفيذ هذه الاحتياطات. كما أنَّ المعارضة السياسية، التي حققت مكاسب في انتخابات يوليو، امتنعت عن الهجوم المُباشر على تعامل الحكومة مع كوفيد-19. وتخضع التجمعات العامة لرقابة مشددة، مما من شأنه أن يستبعد أمثال تلك الاحتجاجات على القيود الاجتماعية والاقتصادية التي اجتاحت الولايات المتحدة الصيف الماضي.

دور "سفراء التباعد الآمن"

كان لـ"سفراء التباعُد الآمن"، وهم مدنيون يتأكَّدون من عدم اقتراب المُشاة والمُتسوقين بعضهم من بعض، ذلك الحضورا القوي في كل مكان عندما بدأ الإغلاق في يونيو.

وكان هناك عدد كبير من الموظفين الذين أخذوا إجازات من الشركات المدعومة من الدولة، مثل الخطوط الجوية السنغافورية المحدودة (اس دي ايه). وكان الاتصال الأخير الذي أجريته مع "اس دي ايه" -كل شيء، وكل شخص في سنغافورة له اختصار - هو السؤال عن الاتجاهات إلى طابور انتظار سيارات الأجرة في مركز التسوق. كما كانت الموظفة ودودة وواسعة المعرفة، وبدا أنها مرتاحة تقريباً لوجود شخص ما يقترب منها. وعلى بعد أمتار قليلة، جلس مُضيفان على مكتب بالقرب من المدخل يبدو أنَّ الملل يعتريهما، وكانا يُراقبان شاشات الهواتف الذكية للأشخاص للتأكد من أنهم قد "قاموا بتسجيل الوصول". نظر الثنائي بين الحين والآخر لإلقاء نظرة على آلة فحص درجة الحرارة. وما كان ذات مرة استثنائياً، أصبح عادياً.

قد تكمُن عبقريته في هذا. فعندما وصلت إلى سلسلة مقاهي محلية شهيرة (توست بوكس)، لم يحثُّني أحد على إجراء مسح ضوئي بهاتفي. وكان افتراضهم أنني سأفعل ذلك بمحض إرادتي، وكانوا على صواب.

تتجاوز صدارة الدولة ما إذا كانت الميزانية تعاني من عجز أو فائض، أو زيادة الضرائب أو انخفاضها. لم تكتشف سنغافورة حكومتها الكبيرة فجأةً خلال هذا الوباء. فمن الشركات المُرتبطة بالدولة التي قادت التطور السريع خلال العقود الستة الماضية إلى المتاجر الكبرى التي تديرها النقابات المُتحالفة مع الحكومة، يُعدُّ نشاط القطاع العام أحد الصفات المُميزة لسنغافورة. ويمكن استعمال هذا النوع من الآليات بشكل فعَّال بمجرد حدوث الوباء. كما لعبت حزم التحفيز المالي المتعددة التي تهدف إلى وضع أرضية تحت الركود دوراً في هذه المرونة.

سيعتمد العام الوفير المُتوقع للاقتصاد السنغافوري، على الأقل على ما سيحدث خارج حدود البلاد بالقدر نفسه.

ومع ذلك، لا يمكن لسنغافورة سوى السيطرة على الكثير. فسيعتمد العام الوفير المُتوقَّع للاقتصاد، على الأقل على ما سيحدث خارج حدود سنغافورة بالقدر نفسه . وسيكون التعافي القوي في بقية العالم، الذي يتمُّ تسهيله عن طريق توزيع اللقاحات الشامل، هو المفتاح.

تمَّ تحديد توقعات النمو الآسيوي أيضاً على أساس فكرة أنَّ "جو بايدن" سيتبع نهجاً أقل مواجهة في التعامل مع الصين عندما يدخل البيت الأبيض؛ باعتبارها مركزاً حيوياً للشحن، والمال، والمواهب، إذ ترتبط ثروات سنغافورة بهذه الصورة العالمية الأوسع. ولا تزال القيود على الحدود مُشددة، وسيكون النمو دون المستوى إلى أن يتمكن الناس من الدخول والخروج بحُرية

يُعدُّ الحدُّ من انتشار كوفيد-19 مطلباً ضرورياً، ولكنه غير كافٍ للنمو الاقتصادي. ولقد قطعت البلاد أشواطاً صعبة. أما المردود -في حالة حدوثه- فلن يأتي في وقت قريب جداً. وبقدر ما أتمنى هذه النتيجة في أجزاء أخرى من العالم، فإنَّها تتطلب تحولاً نفسياً كبيراً. ولكن خذ سنة أو سنتين أخريين من فوضى الرعاية الصحية في لندن، أو نيويورك، أو سيدني، فقد تتغير المواقف حول حدود مسؤولية الدولة، ومجال الحرية الفردية.