دب باندا في حديقة الباندا العملاقة الوطنية في دوجيانغيان في مقاطعة سيتشوان الصينية، يوم الاثنين في 18 أكتوبر 2021 المصدر: بلومبرغ

الصين تبني أكبر منظومة حدائق وطنية في العالم

المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أطلقت الصين هذا الخريف، ومن دون ضجة إعلامية كبيرة، مبادرة حكومية قد يكون لها وقع هائل على التنوع الحيوي في البلاد الذي يواجه تهديدات متنامية.

في شهر أكتوبر، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ رسمياً عن إنشاء شبكة من خمس حدائق وطنية، تغطي مساحة 230 ألف كيلومتر مربع، وتضمّ نحو 30% من الأجناس البرية الأساسية التي تعيش على اليابسة في البلاد. وتعهّدت الصين، التي استضافت هذا العام مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع الحيوي، باستخدام هذه المنظومة الجديدة من أجل سدّ الثغرات التي تعتري جهودها الرامية إلى المحافظة على الحياة البرية. وبعد إنجاز هذه الشبكة سوف تصبح أكبر منظومة حدائق وطنية في العالم، وستحلّ مكان البنية الحالية المعقّدة وغير العملية المؤلفة من مناطق محمية ومحميات إقليمية يقول منتقدوها إنها لا تمنح إلا القليل من الحماية الفعلية من قطع الأشجار والتطوير غير الشرعي للأراضي واستخراج الموارد الطبيعية.

اقرأ أيضاً: مركز أبحاث حكومي: أزمة الطاقة في الصين لن تعوق جهودها لمواجهة تغير المناخ

قال لي شونليانغ، نائب مدير إدارة الغابات الوطنية والأراضي العشبية، إنّ الهيكلية الجديدة "سوف تكسر الحواجز التي وضعتها الدوائر الحكومية المختلفة ومجموعات المصالح المحلية، وسوف تبني آلية إدارة موحدة وفعّالة" للأنظمة البيئية.

اقرأ المزيد: الصين تخطط لوضع حدود لأسعار الفحم لحل أزمة الطاقة

غنى طبيعي

تُعَدّ الصين واحدة من الدول الـ17 بالغة التنوع الحيوي حسب تصنيف الأمم المتحدة، إذ تضمّ نحو 10% من إجمالي الأجناس النباتية و14% من إجمالي الأجناس الحيوانية في العالم. ولكن مع إدخال أجناس نباتية وحيوانية غريبة، والتوسّع المدني وقطع الأشجار والتغير المناخي والافتقار إلى الحماية الفعّالة، ازدادت مخاطر انقراض الفقريات والأجناس النباتية العليا بما يتجاوز المعدل العالمي، فيما تعاني 90% من الأراضي العشبية في الصين و40% من الأراضي الرطبة من التدهور والتصحر.

اقرأ أيضاً: الصين تستهدف استهلاك الطاقة غير الأحفورية بأكثر من 80% في 2060

المبادرة الأولى لإنشاء منطقة بيئية محمية كبرى كانت من خلال حديقة زانغجياجي الوطنية في عام 1982، أي بعد نحو قرن على إنشاء حديقة "يالوستون" (Yellowstone) الوطنية في الولايات المتحدة. ومع تسارع النموّ الاقتصادي وصعود الطبقة الوسطى، أضافت الحكومة مزيداً من المنتزهات والمحميات والمنتجعات ذات المناظر الخلابة.

بلغ عدد هذه المناطق في الصين اليوم 1865 على الأقل، تديرها إدارة الغابات التابعة للدولة ووزارة الأراضي ووزارة المياه وحتى أيضاً وزارة البناء.

عديد من هذه المناطق المحمية مخصص للاستجمام ويقع على مقربة من مواقع سياحية، مثل حديقة السور العظيم الوطنية، إذ أُنشئ العدد الأكبر منها في بداية الألفية.

محميات بلا تنظيم

قالت روز نيو، كبيرة مسؤولي المحافظة على الأجناس في معهد بولسون، التي تمتلك خبرة سنوات في الاهتمام بالتنوع البيئي وحماية الأنظمة البيئية في الصين، إن بعض هذه المحميات "كان يطلق عليه تسمية (حدائق ورقية)، بما أنها لا تخضع لأي إدارة فعلية بعد رسم خطّ على الخريطة يحدد المنطقة على أنها محمية".

على أرض الواقع، كانت مناطق عديدة تخضع للقليل من القواعد الناظمة، أو حتى لا تخضع لأي قواعد ناظمة على الإطلاق. فالحكومات المحلية كانت تعمل على تحقيق استفادة مالية من المناطق الطبيعية، سواء من خلال تشجيع السياحة أو من خلال السماح للمطورين العقاريين بالتعدي على المناطق المحمية. وفي عام 2018 اكتُشفت 1200 فيلا مبنية بشكل غير شرعي في منطقة محمية في جبال كينلينغ في شمال غرب الصين، وقد هدمت أو صادرت الدولة معظمها. وفي العام الماضي، أفادت وسائل إعلام تابعة للدولة بأن شركة عملت لمدة 14 سنة على استخراج 26 مليون طنّ من الفحم من محمية جبال كيليان الطبيعية في مقاطعة تشينغهاي غربي البلاد.

كانت الصين قد أطلقت خطتها لإنشاء منظومة حدائق وطنية موحدة للمرة الأولى في عام 2015 تغطي 18% من ثاني أكبر بلد في العالم من حيث المساحة. وبموجب هذه الخطة تخضع المحميات لسلطة مركزية، وهي قادرة على التشجيع على مزيد من الاستثمارات في حماية التنوع الحيوي، حسب نيو التي سبق أن قادت مجموعة من الوفود الصينية لزيارة حدائق وطنية في دول أخرى.

تشير الحدائق الوطنية التي جرى تصنيفها مؤخراً إلى مدى جدية الحكومة في التعاطي مع المسألة. مع ذلك، في حال عدم ضمّ مزيد من المحميات، فإنّ هذه المبادرة لن تشكل إلا خطوة صغيرة على طريق وقف تدهور المناطق الطبيعية والتنوع الحيوي.

الابتعاد عن العمران

تقع المناطق التي جرى اختيارها في أماكن راكدة اقتصادياً لم تَطَلْها بشكل عامّ التعديات الناجمة عن الاستخدامات الأخرى للأراضي.

قال تشانغ داكيان، مسؤول التواصل الدولي في مؤسسة الصين للمحافظة على التنوع الحيوي والتنمية الخضراء، إن "كلّ الحدائق الوطنية الخمس التي أُنشئت تقع في مناطق تتمتع بالمحافظة الجيدة على البيئة بما يكفي، ولا يوجد إلا تعارض قليل مع التطور الاقتصادي"، مضيفاً أنه "في مناطق أخرى سوف تكون المفاوضات أكثر تعقيداً".

كانت الأفيال الآسيوية في مقاطعة يونان في جنوب غرب البلاد قد جذبت الاهتمام الدولي في وقت سابق هذا العام، حين هام قطيع من 15 فيلاً لمئات الأميال نحو الشمال. وعزا خبراء الهجرة الحيوانية الأمر إلى تدمير مَواطن الأفيال بسبب مزارع المطاط. وقال تشانغ إن مناصري المحافظة على البيئة يطالبون منذ سنوات بإقامة حديقة وطنية في المنطقة، ومع ذلك هي ليست مشمولة بالحدائق الوطنية الخمس المزمع إنشاؤها.

أكبر من فلوريدا

تقع إحدى الحدائق التي جرى تصنيفها مؤخراً في هضبة تشينغهاي، التبت النائية وقليلة السكان غربيّ البلاد، وتشكل وحدها أكثر من أربعة أخماس إجمالي المساحة التي جرى تصنيفها ضمن المنظومة الجديدة من الحدائق الوطنية، إذ تمتد حديقة سانجيانغيوان الوطنية على مساحة 190700 كيلومتر مربع، ما يجعلها أكبر من ولاية فلوريدا.

المحمية الوحيدة التي تقع في شرقي البلاد على مقربة من المراكز المدنية الكبرى هي المحمية الأصغر بين الخمس الكائنة في جبل وويي في مقاطعة فوجيان، إلا أنها أصلاً مدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي.

كذلك تتعرض جهود المحافظة على الأجناس التي تقوم بها الصين للانتقاد بما أنها تبالغ في التركيز على "أجناس شهيرة"، وهي حيوانات تُعَدّ أيقونية مثل الباندا العملاق والسعدان الذهبي والنمر السيبيري.

مثلاً، تعود الحملة الشهيرة لحماية الباندا العملاق إلى سبعينيات القرن العشرين، وتنفق الحكومة حالياً نحو 255 مليون دولار في العام على حماية هذا الجنس وحده، فيما بلغت موازنة عام 2021 الخاصة بإدارة الغابات والمناطق العشبية 31 مليون دولار فقط تشمل الحيوانات والنباتات كافة.

تشانغ دنغبينغ هو واحد من حراس موطن الباندا في مقاطعة سيتشوان جنوب غربي الصين، فلمدة أسبوعين من كلّ شهر يستيقظ عند الساعة السادسة صباحاً في المهجع الذي يتشاركه مع ثلاثة من زملائه، يرتدي سترته الواقية من الماء وحذاءه المقاوم للانزلاق ويتوجه إلى الغابة. ويعبّر تشانغ الذي وُلد وترعرع في المنطقة عن سروره لاختيار الجبال حيث يعمل، لتكون جزءاً من الحديقة الوطنية الجديدة للباندا العملاق.

قال تشانغ البالغ من العمر 51 عاماً "إنّ هذا العمل موحش لكنه في الوقت ذاته عمل أفتخر به"، إذ يتطلب عمله تسجيل تاريخ كلّ ما يجده وتحديد موقعه ومشاركة الصور من خلال تطبيق على هاتفه. وأضاف: "شهدت على كلّ التقدم الذي حققناه خلال السنوات العشر الماضية هنا على صعيد حماية موطن الباندا".

على الرغم من أن هذا الدبّ الأسود والأبيض لم يعُد مصنفاً على أنه مهدد بالانقراض، فإنّ الصين أعلنت أنها لن تخفف من جهودها في مجال حماية وتناسل الباندا. وقال المسؤولون إنّ هذه الأجناس تشكل "مظلة" تحمي الحيوانات والنباتات الأخرى التي تعيش في المنطقة نفسها.

الثقافة والتاريخ

من جهة أخرى، يسكن في الحدائق الوطنية الخمس الأولى في هذه المنظومة بعض من أفقر المجتمعات في الصين. وقال إخصائي حماية الأجناس تيري تاونشيند، مؤسس موقع "بيردينغ بيجينغ" (Birding Beijing)، إنّ تحسين حياة هؤلاء السكان والمحافظة على البيئة الطبيعية في وقت واحد سوف يكونان من المسائل الأساسية التي سوف تركز عليها المنظومة الجديدة. ودعا إلى السماح للمجتمعات المحلية بالبقاء في هذه الأراضي حتى تحافظ المحمية على الثقافة والتاريخ المحليين وتعبّر عنهما.

قال تاونشيند: "السكان المحليون الذين يقيمون هنا منذ أجيال يعرفون هذه المناطق أفضل من أي أحد آخر". وأضاف: "في معظم الأحيان، حياتهم تتوافق مع الاستدامة البيئة وهي مندمجة مع البيئة".

من المستبعد أن يحصل ذلك في معظم الحالات، ففي إطار برنامج شي للقضاء على الفقر جرى بالفعل البدء بعمليات نقل جماعية للسكان خارج بعض الحدائق الوطنية، على أن يُنقَل أكثر من 54 ألف شخص خارج حديقة جبال كيليان الوطنية بحلول عام 2025، لكن بعض السكان المحليين، مثل المزارع السابق تشانغ دنغبينغ، سوف يحصلون على وظائف في الحدائق.

وانغ هوي، وهو مزارع آخر بات اليوم يعمل حارساً للغابة، لا يزال يتذكر كيف كان جيرانه القرويون يصطادون الماعز والغزلان البرية ويبيعونها من أجل كسب رزقهم، ويقطعون الأشجار من أجل إشعال النيران للطهي قبل إنشاء منطقة محمية لدببة الباندا قبل نحو عقد من الزمن. وقال وانغ: "ما عاد الناس يتجرؤون على الصيد"، واليوم معظم العائلات يستخدم الغاز الطبيعي للطهي.

جيش من الحرّاس

تملك الصين موارد بشرية هائلة، ما يمنحها ميزة مقارنة بشبكات الحدائق الوطنية في الدول الأخرى، إذ تضمّ الصين 1.7 مليون حارس على امتداد غاباتها وحدائقها، في حين تضمّ إدارة الغابات الوطنية في الولايات المتحدة ما يوازي فقط 22 ألف موظف بدوام كامل، بمن فيهم أقل من 1800 حارس إنفاذ قانون يغطون منطقة بمساحة مماثلة للحدائق الوطنية الخمس الجديدة في الصين.

قال ني جيوبين، مدير مركز المحافظة على الطبيعة في منطقة جنوب الغرب "الحلّ هو في التعايش بوئام بين الإنسان والطبيعة، وجعل المزارعين المحليين المضيفين الفعليين في المنطقة. أعتقد أن هذه مكافأة يستحقونها".

من أجل دعم جيش حراس الغابات، لجأت الحكومة إلى شركات مثل "هواوي تكنولوجيز" (Huawei Technologies) للاستفادة من ابتكارات مثل شبكة الجيل الخامس والحوسبة السحابية والذكاء الصناعي.

على سبيل المثال، استُخدم نظام مراقبة حرائق الغابات الذي طورته "هواوي" في حديقة الباندا الوطنية منذ فبراير الماضي. وقال يوي كون، رئيس القسم الدولي للأعمال مع الحكومات في "هواوي"، إنّ أجهزة الاستشعار تبلّغ بشكل متواصل عن مخاطر الحرائق في 651 موقعاً إلى أكثر من 140 ألف حارس غابات. وأشار إلى أن هذا النظام أسهم في القضاء على 74 حريقاً قبل أن يندلع.

يمكن لهذا المزيج ما بين الإرادة السياسية والقوة العاملة واستخدام التكنولوجيا، بما فيها تقنية المراقبة عبر الأقمار الصناعية، أن يحوّل مبادرة شي الجديدة للمحافظة على الطبيعة إلى نموذج تحتذى في المحميات الطبيعية الأخرى في الصين، يخلق قوة ضغط قوية وصلبة لمصلحة البيئية الطبيعية.

قال وي فوين، إخصائي المحافظة على الطبيعة في الأكاديمية الصينية للعلوم: "أحلم بأن نتمكن خلال عشر سنوات من مشاهدة كل أنواع الحيوانات من مكان مرتفع في السماء".