جيرالد فورد.. أطاح به التضخم رغم تعهده بالقضاء عليه

حاول فورد تجنيد عضو فرقة البيتلز جورج هاريسون وعازف الأورغ الشهير بيلي بريستون في حملته لمكافحة التضخم
حاول فورد تجنيد عضو فرقة البيتلز جورج هاريسون وعازف الأورغ الشهير بيلي بريستون في حملته لمكافحة التضخم المصدر: غيتي إيمجز
Stephen Mihm
Stephen Mihm

Columnist at Bloomberg (http://bloomberg.com/opinion). Author of A Nation of Counterfeiters; Crisis Economics (with Nouriel Roubini). Sleep-deprived father of three.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد سنة من الجدل، بات التضخم أمراً واقعاً، وكذلك المناشدات المتنامية للرئيس جو بايدن من أجل مواجهته باستخدام سلطاته الرئاسية.

حتى هذه اللحظة، يرفض الرئيس هذه الدعوات، ويحرص على التأكيد للأمريكيين أنَّ الأسوأ يكاد ينتهي.

ربما يعود قرار بايدن هذا لما شهده في بداية حياته السياسية كعضو في مجلس الشيوخ خلال فترة صعبة من ولاية الرئيس جيرالد فورد القصيرة.

بعد استقالة نيكسون؛ تولّى فورد رئاسة الولايات المتحدة التي كانت تواجه انقساماً شديداً وتضخماً من رقمين. وكان نيكسون قد سبق وحاول فرض التحكم بالأجور والأسعار على كامل الاقتصاد.

اقرأ أيضاً: التضخم يهدد بعودة السياسة الأمريكية إلى حقبة ريغان

حصدت خطوة نيكسون التي كانت الأولى من نوعها منذ حالة الطوارئ خلال الحرب العالمية الثانية، شعبية في بداية الأمر، ولكن سرعان ما تراجعت الحماسة تجاهها بعد أن رفع القيود، مما أدى إلى زيادة التضخم إلى معدلات قياسية. أمّا فورد الذي أدرك فشل هذا البرنامج، فراح يبحث عن بدائل أخرى.

اقرأ المزيد: التضخم في الولايات المتحدة يبلغ أعلى مستوى منذ عام 1982

حرب فورد "الوطنية"

يروي المؤرخ يانيك ميكزكوسكي أنَّ استراتيجية فورد انبثقت عن الاجتماعات الاقتصادية التي عقدت في سبتمبر عام 1974. فقد حثّه العديد من المستشارين في الدائرة المقربة منه على دراسة برنامج يجنّد الأشخاص العاديين لمحاربة التضخم. أعجب فورد بهذه الفكرة، ودرس حالة اعتماد نهج طوعي "يفضّله غالبية الأمريكيين، ويتماشى مع تقاليد النظام الأمريكي".

رأى فورد ومستشاروه أنَّ الاستراتيجية الأفضل ستكون من خلال تصوير حملة مواجهة التضخم على أنَّها أشبه بالمجهود الحربي الذي يتطلب تضحية وطنية. فإذا تفهّم الأميركيون النضال من هذا المنطلق، فهم بالتأكيد سيؤدون دورهم، أليس كذلك؟ توقَّع فورد أنَّه حين "يشدّ الأمريكيون الحزام طوعياً، وينفقون أقل من السابق؛ فإنَّ الطلب سوف يتراجع، وستبدأ معدلات التضخم بالانخفاض".

مستشارو فورد الذين كانوا على ثقة بهذا البرنامج، انتقلوا إلى العمل المهم المتمثل في إطلاق تسمية عليه.

اقترحوا في البداية الاختصار "آي إف" (IF) الذي يمثّل الحرفين الأولين من مصطلح: "محاربو التضخم" (Inflation Fighters) بالإنجليزية. فأي مؤسسة أو مستهلك يتعهد بالمحافظة على ثبات الأسعار لستة أشهر، يحصل على ملصق يضعه في نافذة العرض، إلى جانب شعار مثل: "إذا كنت تريد أمريكا أفضل، امنح الأولية للمتاجر التي تضع هذا الملصق".

الاستعانة بشركة إعلانات

إلا أنَّ هذه الفكرة بقيت حبراً على ورق. فاستخدام أسلوب "الشرط" هذا في مناشدة المواطنين لاتخاذ خطوات حاسمة، لم يرق لبعض مستشاري فورد الذين اعتبروا الأمر سخيفاً. وقد دفعهم شعورهم بالإحباط إلى الاستعانة بشركة الإعلانات "بنتون آند بولز" (Benton and Bowles) المعروفة بابتكار شخصية "السيد ويبل" (Mr. Whipple)، بائع البقالة الذي يطلب من اثنتين من المتسوقات في إعلان تلفزيوني عام 1960، عدم الضغط على لفائف أوراق حمام تحملانها.

انتهى الأمر باختيار الشعار الفائز، وهو: "اضرب التضخم الآن" (Whip Inflation Now)، واختصاره "وين"، أو (WIN) بالإنجليزية، وتعني الفوز.

في 8 أكتوبر 1974، ألقى فورد خطاباً اعتبر فيه التضخم "عدو الشعب الأول"، وكرّر الدعوة إلى مكافحته. ثم أخرج زراً مطلياً باليد يحمل أحرف "فوز" (WIN)، وعلّقه على طية صدر سترته.

للأسف، نصيحة فورد للأمريكيين فُهمت على أنَّها تعني "اشتروا أقل، ادخروا أكثر". وبعد أسبوع، ألقى خطاباً حثَّ فيه الأمريكيين على "التسوق بحكمة، والبحث عن صفقات جيدة، واختيار السلع الأرخص ثمناً، والأهم التفاخر بالبحث عن الصفقة الجيدة".

استجابة جيدة.. ولكن!

في البداية، حققت هذه الدعوات استجابة إيجابية فاقت التوقُّعات. فقد وجّه نحو ربع مليون أمريكي عدة رسائل إلى البيت الأبيض دعماً للبرنامج، كما تبنّى الفكرة عدد من الشركات. كما أنَّ سيرك رينغلينغ وإخوانه، وبارنوم وبيلي، تقدّم بطلب إلى البيت الأبيض بعد أن تحمس لجعل برنامج "وين" موضوع عرض السيرك لذلك العالم. إلا أنَّ فكرة تكريس برنامج سيرك كامل لمؤشر أسعار المستهلك، والحدّ من التضخم، للأسف لم تبصر النور.

اعتبر العديد من أعضاء حكومة فورد حملة "وين" مناورة سياسية غريبة. وقال وزير الخزانة ويليام سيمون: "في كلّ مرة كانت تطرح فيها مسألة (وين)، كنا في مجلس السياسة الاقتصادي نخبِّئ رؤوسنا حرجاً". من جهته، وصف ألان غرينسبان، رئيس مجلس إدارة مجلس المستشارين الاقتصاديين في إدارة فورد هذا البرنامج بـ"الدرك الأسفل من صنع السياسات الاقتصادية في الإدارة".

الأسوأ من ذلك أنَّ فورد طبق أيضاً شعار "اشتر أقل، ادخر أكثر" على صعيد التوظيف في البرنامج، فقام بتوظيف متطوعَين اثنين فقط بدوام كامل، وموظَّفين اثنين بدوام جزئي. وقد فاق الاهتمام الهائل بالبرنامج طاقتهم لدرجة أنَّهم أخفقوا في إيداع التبرعات الطوعية المرسلة لدعم المبادرة.

الصراحة والثقة

إلا أنَّ المشكلة الأكبر هي أنَّ فورد لم يكن صريحاً بالكامل مع الشعب. فالتضخم ليس أمراً يمكن معالجته من خلال زرع حديقة أو التسوق في متجر للأغراض المستعملة. فحين زعم الرئيس أنَّ مثل هذه الإجراءات المتواضعة يمكن أن تحدث فرقاً، فقد أثار الشكوك حول البرنامج برمته.

في معظم التقييمات حول كارثة "وين"، نادراً ما يتم ذكر أنَّ فورد قدّم في الوقت عينه عدداً من المقترحات المدروسة والتفصيلية على صعيد السياسات، تشمل تغييرات كبرى في مجال إنتاج وتنظيم قطاع الطاقة، ورفع الأطر الناظمة فيما يخص تصدير الحبوب، ومراجعة القوانين المتعلقة بها، وإدخال تعديلات إلى قانون الضرائب، بالإضافة إلى مجموعة من الإجراءات الأخرى.

هل كانت هذه الإجراءات ستساعد في الحدّ من التضخم؟ هذا الأمر قابل للنقاش. إلا أنَّ القليل من اقتراحات فورد تحوّل إلى قوانين، وذلك يعود بجزء لا يستهان به إلى تبديد الرئيس معظم رصيده السياسي على حملة العلاقات العامة هذه التي تم إعدادها وتطبيقها بشكل سيئ.

بالتالي؛ لم "يقاوم" فورد التضخم جيداً كما في الأغنية الشهيرة (whip it good) لفرقة السينثبوب "ديفو" في نهاية العقد، بل في الختام؛ فإنَّ التضخم أطاح به.