كبار السن أكثر قلقاً من التضخم لهذه الأسباب

التضخم الحالي يعيد فترة السبعينيات لأذهان الكثيرين
التضخم الحالي يعيد فترة السبعينيات لأذهان الكثيرين المصدر: بلومبرغ
Virginia Postrel
Virginia Postrel

Virginia Postrel is a Bloomberg Opinion columnist and the author of "The Fabric of Civilization: How Textiles Made the World."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بالنسبة للأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن 50 عاماً؛ فإنَّ التضخم ليس أكثر من مجرد مفهوم نظري، أما بالنسبة لمن ولدوا منّا في أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؛ كان تضخم السبعينيات تجربة تكوينية لا نفضل تكرارها، وكان التضخم جزءاً من طفولتنا مثل "كوفيد" لأطفال اليوم.

كان التضخم دائماً في الخلفية، وينحسر من حين لآخر فقط ليعود أسوأ من ذي قبل، وكان في بعض الأحيان حقيقة مُقلقة، و مرعبة في أحيان أخرى، من حقائق الحياة.

يتذكّر الجميع منذ ذلك الوقت ارتفاع أسعار البنزين بحدة، مصحوباً بنقص وترشيد وطوابير طويلة أمام المحطات، لكنَّ التضخم لا يتعلق أبداً بمنتج أو قطاع واحد، وإنما هو ظاهرة على مستوى الاقتصاد. ارتفعت أسعار الغاز مراراً، لكن، بنفس القدر من الأهمية ، لم تنخفض الأسعار الأخرى، أو تواصل الانخفاض.

في أواخر السبعينيات، عمل توم نونان، الذي كان يبلغ من العمر 20 عاماً، في سوبر ماركت "وين ديكسي" (Winn-Dixie) في لويزفيل بولاية كنتاكي، وكانت وظيفته تغيير بطاقات الأسعار عدة مرات في الأسبوع، وكان يذهب إلى المتجر مع قاطع صندوق وآلة لطباعة التسعير، ويزيل ملصقات الأسعار القديمة، ويطبع ملصقات جديدة بأسعار أعلى. هذه إحدى ذكريات السبعينيات التي تحدث عنها أصدقائي على "فيسبوك" عندما سألت عن تجاربهم.

اقرأ أيضاً: التضخم في الولايات المتحدة يبلغ أعلى مستوى منذ عام 1982

لم يكن كل متجر شديد الاهتمام بالتفاصيل، ولصق الكثيرون الأسعار الجديدة فوق الأسعار القديمة، ويعترف مايك شيفر، مدير تكنولوجيا المعلومات بكلية الحقوق المولود عام 1968، في منشور "فيسبوك": "أتذكر تقريباً أنّني كنت أنزع ملصقات الأسعار لأحصل على سعر أقل (ربما مقابل كتاب؟).. لا أعتقد أنَّني فهمت حقاً كيف تم تحديد الأسعار أو تغييرها في تلك المرحلة".

مقاطعة اللحوم

أتذكر أنَّني كنت أتسوّق البقالة مع والدتي في أوائل السبعينيات، فقد استمر سعر اللحم المفروم في الارتفاع من 89 سنتاً للرطل إلى 99 سنتاً ثم إلى 1.09 دولار وحتى 1.19 دولاراً. وفي أبريل 1973، شاركنا في حملة مقاطعة اللحوم التي استمرت أسبوعاً (مثل العديد من المشاركين، غشت والدتي، واعتمدت في بضع وجبات على اللحوم المشتراة في الأسبوع السابق).

وكانت المقاطعة عبارة عن مزيج سيئ التنظيم من النظرية الاقتصادية، والمسرح الناشط، وصرخات ربات المنازل. وفي الصفحة الأولى لصحيفة "نيويورك تايمز" جاءت كلمات الملصق الاحتجاجي "خفِّضوا قيمة لحوم الشواء في القدور وليس الدولار!"، واستجابة لذلك؛ فرض الرئيس ريتشارد نيكسون ضوابط أكثر صرامة على أسعار اللحوم، وقدّم منتج "هامبرغر هيلبر" (Hamburger Helper) من شركة "بيتي كروكر"- التي أُممت في عام 1971- حلاً طويل الأجل.

اقرأ أيضاً: رئيس أكبر صندوق سيادي في العالم: استعدوا لمخاطر التضخم

عندما كنت طالباً في المرحلة المتوسطة، كنت أتتبع أسعار اللحوم، وأقوم بخياطة ملابسي الخاصة، وكان بيل ميغير مستهلكاً في فيلادلفيا يبلغ من العمر 10 سنوات، ولديه استياء من الأطباق المحلية الشهية، واستمر سعر وجبة "تيستي كاكي" (TastyKake) الخفيفة المفضلة لديه في الارتفاع، وكتب خطاب شكوى لرئيس الشركة، ويتذكر "ميغر"، أنَّ ما أثار دهشته كثيراً هو أنَّه تلقى رداً "يشرح لي التضخم بعبارات بسيطة جداً".

وفي أماكن أخرى عبر الدولة، اكتشفت ماري هودر البالغة من العمر 5 سنوات في تورلوك بولاية كاليفورنيا أنَّ مصروفها الأسبوعي البالغ 5 سنتات لن يشتري بعد الآن قطعة الحلوى التي أصبحت الآن بـ10 سنتات، وكتبت لي في رسالة نصية: "كان عقلي البالغ من العمر 5 سنوات يفكر كيف يمكن أن يحدث هذا؟.. وشرح لي والدي التضخم، وفكر عقلي البالغ من العمر 5 سنوات: لماذا لا يوقفه الجميع؟"، وكانت أفكارها هي أساس استراتيجية "اجلد التضخم الآن" (Whip Inflation Now) التي وضعها الرئيس جيرالد فورد، باستثناء الأزرار التي تحمل الشعار.

التضخم المقلق

إنَّ ما أدى إلى جعل التضخم يسبب القلق بشكل خاص؛ هو أن لا أحد من البالغين المسؤولين كان يعلم ماذا يفعل حياله، وكان آباؤنا عاجزين، وتمكّنا من الشعور بتوترهم، حتى بدلات تكلفة المعيشة لم تحل المشكلة، لأنَّ الأسعار ارتفعت مع ارتفاع تكاليف العمالة، والجميع، بدءاً من أرباب العمل والعاملين إلى المقرضين والمقترضين، تعلّموا احتساب التضخم في خططهم، وهذه التوقُّعات جعلت التضخم مستعصياً أكثر على الحل .ارفع أسعارك، افتعل إضراباً من أجل أجور أعلى، لئلا تتخلف عن الركب.

وما زاد الطين بلة هو "زحف الأقواس"، ومع ضريبة الدخل التصاعدية الحادة؛ فإنَّ بدل تكلفة المعيشة كان يعني شريحة ضريبية أعلى، مما يعني المزيد من التخلف عن التضخم، واستجابة لذلك؛ تفاوضت النقابات للحصول على تأمين صحي ومزايا تقاعدية أكثر سخاءً لا تخضع للضرائب، وهي ترتيبات تمت محاكاتها في العديد من الوظائف غير النقابية، وتسببت في تكاليف قديمة استمرت حتى يومنا هذا.

اقرأ أيضاً: جيرالد فورد.. أطاح به التضخم رغم تعهده بالقضاء عليه

والأسوأ من ذلك، هو أنَّ الأمريكيين العاديين لم يكونوا وحدهم في حالة عجز، بل كان رئيس "تيستي كاكي" عاجزاً تماماً مثل والدينا، وكذلك كان رئيس الولايات المتحدة.

قال مسؤول رفيع في حكومة كارتر لمجلة "تايم" عام 1980: "إنَّه أمر مخيف حقاً" عندما بلغ التضخم 13.5% بعد أربع سنوات من الصعود، وأضاف: "هذا التضخم مخيف لأنَّنا لا نعرف ما الذي يسببه، أو ماذا نفعل حياله، ويذهب الاقتصاديون إلى أجهزة الحاسب الآلي الخاصة بهم، ويقومون بإدخال البيانات، ويحصلون على معلومات تقول إنَّه لا ينبغي أن يحدث أي شيء مثل هذا. إنَّها أشياء مخيفة للغاية".

بحلول ذلك الوقت، تغلغل التضخم في الثقافة الشعبية، وفي الشارة الافتتاحية لمسلسل "ماري تايلور مور"، ألقت ماري عبوة من اللحم في عربة التسوق بنظرة اشمئزاز مستسلمة، وشعرنا بألمها، وفي المسلسل الخيالي "ذا جيفرسونز"، خسر "كينغ جورج" إمبراطوريته (التنظيف الجاف) لصالح "دارك نايت انفليشين" (فارس التضخم المظلم)، وأنقذه قرض مصرفي - ربما بفائدة مكوّنة من رقمين.

التضخم صديقنا

في "ساترداي نايت لايف"، ألقى الممثل دان أيكرويد وهو يتقمص دور جيمي كارتر حديثاً بجانب المدفأة عام 1978، حث فيها الأمريكيين على محاربة التضخم بحرق 8% من أموالهم، وفي أكثر أدوار أيكرويد المتميزة والمتمثلة في شخصية كارتر؛ نصح الجميع بالنظر إلى الجانب المشرق.

قال "التضخم صديقنا.. ألا ترغب في امتلاك بدلة بقيمة 4000 دولار، وتدخين السيجار بقيمة 75 دولاراً، أو قيادة سيارة بقيمة 600 ألف دولار؟ أعلم أنني

سأفعل! "، وتعهد بأنَّه في "عالم المستقبل المتضخم سيكون معظم الأمريكيين من أصحاب الملايين، وسيشعر الجميع وكأنَّه شخص مهم".

لحسن الحظ؛ نحن لا نعيش في هذا العالم المتضخم بعد أن تمكّن "الفيدرالي" في عهد بول فولكر من القضاء على التضخم، على حساب أسعار فائدة مزدوجة الأرقام، وأعلى معدل بطالة منذ الكساد الكبير، وعندما سُئل بعد عقود عن تسمية أهم إرث للتضخم العظيم، أجاب: "لا تدع التضخم يتأصل، فبمجرد حدوث ذلك؛ سيكون هناك الكثير من المعاناة لإيقاف الزخم".

اقرأ أيضاً: التضخم وليس "أوميكرون".. الهاجس الأكبر للبنوك المركزية

استغرق الأمر عشر سنوات تقريباً من معدلات التضخم المنخفضة لإقناع الجمهور بأنَّ التضخم لن يعود مرة أخرى، وواصلت أسعار الفائدة طويلة الأجل بناء علاوة تضخم كبيرة، وفي وظيفتي الأولى بعد التخرج من الكلية في صحيفة "وول ستريت جورنال" في مكتب فيلادلفيا المغلق الآن؛ حصلت على بدل تكلفة معيشة بنسبة 9%، كان ذلك في عام 1983 عندما انخفض التضخم إلى 3.1%، لكنَّ عقد النقابة منذ الأيام الخوالي السيئة كان ما يزال سارياً، وقبل بضع سنوات فقط؛ كانت نسبة 9% تجلعنا متخلفين عن ركب التضخم، خاصة بعد الضرائب.

كان أهم بند في التخفيضات الضريبية لعام 1981 هو ربط "الأقواس الضريبية" بالتضخم، ومعدلات الضرائب تأتي وتذهب، لكنَّ الربط مستمر، مما يمنع زحف الأقواس حتى لو عاد التضخم، مثلما حدث العام الجاري.

كتب الناقد التلفزيوني في "لوس أنجلوس تايمز"، روبرت لويد، في تقييم لمسلسل جديد على منصة "إتش بي أو" بعنوان "ستيشن إيلفين" (Station Eleven): "حقيقة أنَّ كبار السن يقلقون بشأن أشياء لا يقلق بشأنها الشباب، لأنَّهم مروا بها؛ هي بالطبع قصة كل جيل".

قد تعتقد أنَّنا كبار السن نبالغ في قلقنا من عودة التضخم. لكنَّك لم تكن هناك.