الرأسمالية بحاجة إلى الإصلاح لا الثورات

الاقتصاد الأمريكي بحاجة لنظام جديد
الاقتصاد الأمريكي بحاجة لنظام جديد المصدر: بلومبرغ
Noah Smith
Noah Smith

Noah Smith is a Bloomberg Opinion columnist. He was an assistant professor of finance at Stony Brook University, and he blogs at Noahpinion.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

حين يشكك كبار الاقتصاديين في الرأسمالية وفكرتها، فذلك يعني أن النظام الاقتصادي في خطر، ففي مقال منشور مؤخرًا، استعرض "أنجوس ديتون" (Angus Deaton) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، كتابين لاثنين من خبراء الاقتصاد البارزين هما "راجورام راجان" (Raghuram Rajan) و"بول كولير" (Paul Collier)، ناقشا فيهما مفهوم النظام الرأسمالي وعيوبه ومشاكله الجوهرية.

ففي كتابه، أعرب "راجان" عن أسفه حيال سقوط المجتمعات المحلية، أمام الحكومات القوية والأسواق الضخمة، بينما ناقش "كولير" ميول مبدأ الجدارة إلى تركيز الكفاءات والأموال، في وقت تعدّ فيه مشكلة التفاوت في الدخل والثروة من أبرز المشاكل التي تثير غضب الخبير الاقتصادي "توماس بيكيتي" (Thomas Piketty) المعروف بانتقاده للنظام الرأسمالي. ومن جانب آخر، يزعم بعض منتقدي الرأسمالية أن مشكلة هذا النظام تكمن في السلطة الاحتكارية، بينما يراه آخرون السبب وراء مشكلة التغير المناخي.

يذكر أن بعضًا من هذه الانتقادات التي تطول النظام الاقتصادي المعاصر صحيحة، إلى حدٍّ ما، ولكن إلقاء النقاد باللوم على النظام الرأسمالي أو استغلالهم عدم شعبيته المفاجئة حال دون قدرتهم على تعريف الرأسمالية تعريفًا جيدًا. فمثلًا، هل يُقصد بالرأسمالية الملكية الخاصة؟ أم الملكية الخاصة في القطاع الصناعي؟ أم اقتصاديات الأسواق؟ أم أسواق الأصول العامة والمؤسسات المساهمة مشتركة الملكية؟ في كثير الأحيان يستخدم مصطلح الرأسمالية بديلًا عن خصائص الأسواق الاقتصادية المعاصرة التي تثير الجدل ويرفضها معظم الناس.

وبالتالي، فإن السؤال المهم هنا ليس ما إذا كانت الرأسمالية معيبة حقًا، بل ما الذي يجب القيام به لإصلاح النظام الاقتصادي الأمريكي؟.. إن من أبرز الأفكار التي سادت في الجزء الأكبر من فترة القرن العشرين لإصلاح النظام الاقتصادي إنشاء نظام بديل عن النظام الرأسمالي جديدٍ كليًا من الألف إلى الياء كالاشتراكية أو الشيوعية أو الفوضوية.

الحاجة لنظام جديد

فشل هذا النهج فشلًا ذريعًا للعديد من الأسباب، أهمها أن الأنظمة الاقتصادية تعدّ هياكل معقدة تتطور مع الزمن، وبالتالي من المؤكّد أن إنشاء نظام جديد مختلفٍ تمامًا عن النظام السابق أمر مستحيل يفشل به أفضل الخبراء.

يضاف إلى ذلك صعوبة إجراء تغيير اجتماعي جذري، فالجميع يعلم أن الثورات التي تدعو إلى التغيير والتحسين غالبًا ما تتسم بالعنف والعشوائية وعدم الانضباط، ولا سيما أن ما يهم الأفراد الذين يشغلون المناصب العليا هو الحفاظ على سلطتهم لا توفير الرفاهية المادية لشعوبهم.

ونتيجة لما سبق، نستنتج أن النهج الأنجع لتحسين الأوضاع الاقتصادية ليس الثورات بل بالسعي نحو إصلاح النظام الحالي لا تغييره. ومهما كانت النتيجة التي سيؤول إليها الإصلاح الاقتصادي، فمن الضروري أن ندرك أن النظام الاقتصادي نظام مختلط، أي أن علينا إحداث نوعٍ من التغيير في الأدوار التي تلعبها كل من الحكومة والقطاع الخاص من أجل معالجة القضايا الأكثر إلحاحًا.

وفيما يتعلق بالتعديلات التي يجب تطبيقها على النظام الحالي، فأنا أعتقد أن على الحكومة الأمريكية التركيز بشكلٍ أساسي على تغييرين مهمين، أولهما الاستدامة، وذلك لأنه ما من نظام - سواء كنا نتحدث عن الرأسمالية أو غيرها من الأنظمة – سيستمر فترة طويلة إذا ما ازداد تأثير التغير المناخي على كوكب الأرض وجعله غير ملائم للحياة، ولذا يجدر بنا إيجاد حل لهذه المشكلة البيئية، علمًا بأن التوجّه نحو اقتصاد منخفض الكربون سيتطلب إسهامًا كبيرًا وجهودًا جليلة من القطاعين العام والخاص.

أما بالنسبة للتحدي الرئيسي الثاني فهو العمل على تقليل الشعور بعدم الأمان المادي لدى المواطنين الأمريكيين، ولذا من الضروري لنا أن ننظر إلى العوامل الأساسية التي من شأنها تحقيق الأمن والاطمئنان المادي لدى المواطنين بدلًا من التركيز على الأرقام الاقتصادية الإجمالية أو الناتج المحلي الإجمالي أو الثروة التي يملكها 1 بالمئة فقط من السكان.

يوضّح المخطّط المبين أدناه بعضًا من أبرز بنود الإنفاق التي تثقل كاهل ميزانيات الأسر الأمريكية.

وكما نلاحظ، فإنه رغم أن ارتفاع الأسعار الاستهلاكية في العموم أبطأ من ارتفاع دخل الأفراد، إلا أن مصاريف الرعاية الصحية والتعليم ورعاية الطفل ارتفعت أسرع منه:

كما هو مبيّن في الشكل أعلاه، تعد الرعاية الصحية الخدمة الأعلى تكلفة على الرغم من استحالة الاستغناء عنها، علمًا بأن الفاتورة الطبية الكبيرة تعد أسرع وسيلة لخروج الفرد من الطبقة الوسطى، كما توضح التحليلات أن نفقات الرعاية الصحية هي السبب الرئيسي في إشهار الأفراد إفلاسهم، ولا سيما بعد أن خفّضت شركات التأمين القيمة التي تغطيها من التكاليف الصحية ليتحملها المريض نفسه.

يضاف إلى ما سبق، أن ملايين الأمريكيين لا يزالون غير مؤمَنين صحيًا، وقد تؤدي جهود الحزب الجمهوري التي تسعى إلى إلغاء نظام الرعاية الصحي الذي وضعه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى تفاقم هذه المشكلة، وفي الوقت ذاته، لا تزال تكاليف الرعاية الصحية تأخذ بالارتفاع لتمتص حصة متزايدة من الاقتصاد الأمريكي.

ما من شيء يشير إلى إمكانية انخفاض المنحنى

تتمثل الطريقة الواضحة في معالجة هذه المشكلة في أن تحذو الولايات المتحدة الأمريكية حذو الدول المتقدمة الأخرى في حل هذه المسألة، بالإضافة إلى ضرورة توفير الحكومة تأمينًا صحيًا شاملًا لمواطنيها، بحيث يقل الشعور بعدم اليقين الذي ينهش تفكير عدد كبير من الأمريكيين ويتاح المجال لفرض ضوابط صارمة وفعالة على التكلفة.

إن الرعاية الصحية ليست الشيء الوحيد الذي يحتاجه الأمريكيون، فهم أيضًا يرغبون في بانخفاض تكاليف التعليم ورعاية للأطفال، ولا سيما مع انتشار عمل كلا الوالدين لتوفير مصدرين للدخل.

ومع ازدياد أهمية الحصول على شهادة جامعية لدورها في الارتقاء وتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للفرد، بات ارتفاع الرسوم الدراسية عقبة كبيرة أمام الحصول على الشهادات العليا. تساعد خدمات رعاية الأطفال التي تدعمها الحكومة وزيادة الإعفاءات الضريبية الخاصة بالأطفال، الوالدين على البقاء في مكان العمل، مع إمكانية اتخاذ العديد من الخطوات لتمكين المواطنين ذوي الدخل المنخفض والمتوسط من الحصول على الشهادات العليا.

أخيرًا، وعلى الرغم من عدم ارتفاع تكاليف الإسكان بذات وتيرة ارتفاع أسعار الرعاية الصحية أو رعاية الأطفال، إلّا أنها تجاوزت معدّل نمو الدخل منذ أزمة الكساد الكبير وبلغت مشكلة ارتفاع أسعارها في بعض المدن مستويات خطيرة. لذلك فإن من شأن وضع خطة وطنية لتوفير السكن بتكلفة معقولة، مثل الخطة التي قدمتها مؤخراً السناتور "إليزابيث وارين" (Elizabeth Warren)، أن تساعد في منع تفاقم الأزمة أكثر من ذلك.

السؤال الآن: هل يمكننا القول إن زيادة الاستدامة البيئية وخفض تكاليف خدمات الرعاية الصحية ورعاية الأطفال والتعليم والإسكان حلول تكفي لجعل الأمريكيين يشعرون بأن النظام الرأسمالي - أو الاقتصاد المختلط إذا ما أردنا أن نكون أكثر دقة - يعمل لصالحهم من جديد؟ الجواب عن هذا السؤال قد يكون نعم. فخلافًا للمهمة الصعبة المتمثلة في بناء نظام سياسي واقتصادي جديد كليًا، تبدو هذه الإصلاحات ممكنة ومفهومة بدرجة معقولة، لذا من الأفضل لنا أن نحاول في البداية معالجة المشاكل الراهنة قبل اتخاذ القرار بتفكيك النظام الرأسمالي.