كالينينغراد الروسية: صورة مصغرة من معاناة أوروبا

بحارة روس يقفون على متن السفينة الحربية من طراز "بارشيم كالميكيا"
بحارة روس يقفون على متن السفينة الحربية من طراز "بارشيم كالميكيا" المصدر: بلومبرغ
Andreas Kluth
Andreas Kluth

Columnist at Bloomberg Opinion. Previously editor-in-chief of Handelsblatt Global; 20 years at The Economist. Author of "Hannibal and Me."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تُشكّل مقاطعة كالينينغراد الروسية - المعروفة حتى عام 1946 باسمها الألماني كونيغسبرغ - صورة مصغرّة لكلّ الأحداث التيّ تردّت في أوروبا. لذلك ليس من المستغرب أن يصبح ذلك الشريط الضيق من اليابسة المُطلّ على بحر البلطيق أحدث نقطة اشتعال تدخل على ساحة الصراع الكبير بين موسكو والغرب.

كالينينغراد منطقة روسية تقع بين بولندا وليتوانيا العضوتين في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ويربط بينها وبين روسيا خطوط السكك الحديدية التي تمر بالضرورة عبر ليتوانيا التي بدأت تطبيق عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد موسكو، بما يعنيه ذلك من منع القطارات الروسية التي تحمل مواداً محظورة مثل الفحم والصلب و المعدات التي تحتوي على تكنولوجيا معينة. لذلك، ربما كان الصدام في هذه المنطقة أمراً حتمياً.

ليتوانيا تصبح أول دولة من الاتحاد الأوروبي تتخلى عن الغاز الروسي

يقول الكرملين إن ذلك يبلغ حد "الحصار". وليس مستغرباً أن يترتب عليه عواقب وخيمة رغم أنّها غامضة حتى الآن. بالطبع، كالينينغراد مدججة بالسلاح حتى الأسنان، فهي المقرّ الرئيسي للأسطول الروسي في البلطيق فضلاً عن الصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية. (لم تؤكد موسكو ما إذا كانت هذه الصواريخ تحمل بالفعل رؤوساً نووية أم لا).

رداً على ذلك، أوضحت فيلنيوس وبروكسل أنّ القيود الجديدة ليست حصاراً بل مجرد امتثال للعقوبات الغربية. وأن على ليتوانيا، بصفتها عضواً في الاتحاد الأوروبي، أن تطبق قواعد الكتلة، بما في ذلك العقوبات التي فرضتها على موسكو. ولم يصبح تطبيق هذه العقوبات ضروريّاً إلاّ بعد أن شنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حرباً شرسة على أوكرانيا.

لم يكن أحد غافلا عن حقيقة أن روسيا إذا أقدمت على الانتقام من ليتوانيا - بهجوم شاملٍ أو حربٍ هجينةٍ - فإنّ حلف الناتو قد يباشر بتنفيذ بند الدفاع المشترك على الفور. فاندلاع شرارة واحدة قد يدخل الطرفين في دوامة الهلاك.

ليس هذا التصعيد حتميا بأي معنى، بمجرّد أن تسترجع كلّ من روسيا والغرب للحظةٍ ماضي كالينينغراد المأساوي في كثير من الأحيان، سيدركون عندها أنّه من الممكن فضِّ الخلاف الرّاهن بطرقٍ أفضل.

يُلخّص تاريخ كالينينغراد إلى حد ما الصدمات التي شهدتها القارة. حيث كانت كلُّ قوة منافسة في المنطقة تُطالب بالسيطرة على كالينينغراد وفرض سيادتها عليها كما كانت تُقاتل على أراضيها.

خلال العصور الوسطى، كانت قبيلة من البلطيق تُعرف بـ"البروسيين" تستوطن هذا الإقليم، الذين لم تكن بينهم وبين الألمان بعيداً عن ناحية الغرب أي علاقة على الإطلاق آنذاك. في القرن الثالث عشر، ظهر الفرسان التيوتون (الناطقون باللغة الألمانية) وأسسوا دولة رهبان عسكرية. في وقت لاحقٍ، أصبحت المنطقة إقطاعية تابعة للعرش البولندي، وسط تقلبات مؤامرة من قبل ليتوانيا والسويد.

وباعتبار أنها كانت دوقية تابعة لسلالة "هوهنتسولرن" - التي تعود أصولها إلى شوابيا لكنّها تُعرف بشكلٍ أفضل بممتلكاتها في براندنبورغ، المنطقة المحيطة ببرلين - منحت "بروسيا" اسمها لاحقاً للمملكة الألمانية التابعة لتلك العائلة. وأصبحت هذه الكلمة رمزاً للنّزعةِ العسكرية المرتبطة بالخوذات المدببة المعروفة بـ"بكلهاوبه" وكعوب أحذية الجنود، والتي ارتبطت لاحقاً بالإمبراطورية الألمانية.

لكن خلال مسيرتها، اعتُبِرت كونيغسبرغ مركزاً للحضارة الأوروبية في أبهى صورها. كمركز تجاري تابع للرابطة الهانزية، حيثُ تعدّدت فيها اللّغات، إلى جانب اللّهجات الجرمانية والبلطيقية والسلافية المسموعة في الشوارع. لفترة من الوقت، كانت البؤرة الشرقية للـ"تنوير" في القارة، حيث تعمّق إيمانويل كانط، فيلسوف ألماني (لم يغامر أبداً في حياته وابتعد بأكثر من بضعة أميال من مسقط رأسه) في "العقل الخالص" و"السلام الدائم" بين الأمم.

وكما لو أن ذلك نفي لأفكار كانط، وجدت المنطقة نفسها خلال القرن العشرين قريبة من مركز ما أطلق عليه المؤرخ تيموثي سنايدر "بلاد الدم" - للإشارة إلى مسرح القتال بين هتلر وستالين. في مؤتمر بوتسدام عام 1945، استولى ستالين على كونيغسبرغ وضمّها بذلك إلى الاتحاد السوفيتي، كما أعاد تسميتها تكريماً للزعيم الشيوعي ميخائيل كالينين بعد وفاته.

لم يكن تغييراً بالغ الأهمية بالنسبة إلى وضع كالينينغراد. فقد كانت ليتوانيا وبيلاروسيا المجاورتان أيضا جزءاً من الاتّحاد السوفيتي، وسرعان ما أصبحت بولندا حليفاً رسمياً في حلف وارسو.

مصير كالينينغراد اليوم

انهار الاتحاد السوفيتي بعد ذلك، وفي غضون بضع سنوات، انضمت كلٌّ من بولندا وليتوانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. تُركت كالينينغراد عالقة، كلوحة غير ملائمة مع التاريخ، تختبئ ندوبها تماماً وراء مشهد المدينة البائس في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. فبالنسبة إلى بوتين، ربما تبدو هذه المنطقة شبيهة بمجموعة ضخمة وثابتة من حاملات الطائرات خلف خطوط العدو.

ما هو الموقف الآن؟ من المؤكد أن كالينينغراد ليست معرضة لخطر المجاعة – فالقيود التي فرضتها ليتوانيا لا تؤثر إلا على نصف الحمولات المشحونة عبر السكك الحديدية حتى الآن، ولا يزال بإمكان روسيا تزويد المنطقة المعزولة جواً وبحراً. ومع ذلك، لا يستطيع بوتين أن يبدو ضعيفاً في هذا الموقف ويترك هذا الحدث دون أي ردٍّ.

المضحك المبكي في الأمر أن هذا النزاع لم يكن ضرورياً، وكذلك الحرب في أوكرانيا والكثير من النزاعات الأخرى التي يتحمل بوتين مسؤوليتها، كما تثبت قصة كالينينغراد. حيث قبلت ألمانيا بعد انتهاء الحرب، وسط صيحات الاحتجاج من قبل لاجئيها من بروسيا الشرقية، خسارة كونيغسبرغ نهائياً وكذلك بالنسبة إلى الكثير من المناطق بدءاً من الألزاس في الغرب وصولاً إلى سيليزيا في الشرق. واتّبعتها جميع الدول الأخرى التّي انضمت لاحقاً إلى الاتّحاد الأوروبي، حيث تخلّت عن أي مطالب إقليمية كانت تتخيل أنها تراكمت على مدى آلاف السنين.

في الواقع، هذا هو النهج البديل الذي تقدّمه اليوم فكرة "أوروبا". وهو احترام الحدود بين الدول بغض النظر عن مدى تعسّفها عبر التاريخ، وأن تجعلها بلا أي مغزى تدريجياً من خلال التعاون المتناغم بين الدول. إنّها باختصار عكس نظرة بوتين للعالم اليوم.

كل ما على بوتين فعله لحلّ مشكلته في كالينينغراد هو الاعتراف بحدود أوكرانيا والدول الأخرى – وأن يكف عن العدوان. وحتى ذلك الحين، يتعيّن على ليتوانيا والاتّحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي مواصلة الضغط على روسيا، وتحمّل عواقبه إذا لزم الأمر.

التضحية لا مفرّ منها في حرب الطاقة الغربية ضد روسيا

هجوم روسي على ميناء أوكراني يدمر محطة تصدير زيوت نباتية