هل تصبح المناطيد مستقبل التجسس الخفي؟

المناطيد لها ميزة واضحة في قدرتها على المراقبة وما حادثة المنطاد الصيني إلا بداية ما هو آت

نفخ منطاد "ثاندرهيد" جزئياً قبل الإطلاق في داكوتا الجنوبية.
نفخ منطاد "ثاندرهيد" جزئياً قبل الإطلاق في داكوتا الجنوبية. المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

ساور القلق روس فان دير ويرف حين سمع أن منطاد تجسس صيني رُصد في سماء الولايات المتحدة، وأنه ربما كان يتجسس على منشآت حساسة.

كان ذلك شعوراً طبيعياً، إلا أن فان دير ويرف كان متحمساً بعض الشيء بشأن ذلك، فهو نائب رئيس قطاع تقنيات الستراتوسفير لدى شركة "إيروستار" (Aerostar) لتصنيع وتصميم حلول الدفاع والفضاء عالية التقنية، بما فيها المناطيد التي تطفو على ارتفاعات كبيرة.

سعى فان دير ويرف لسنوات لإقناع عملاء حكوميين وتجاريين بأن منتجات "إيروستار" توفر مزايا مهمة جداً كمنصات مراقبة. لكن فان دير ويرف يدرك صعوبة إقناع العملاء على الدوام، وشر ح قائلاً: "هناك دائماً من يقول: ها قد أتى مهووسو المناطيد. لكن يبدو أن آخرين يعتقدون الآن أن هذه فكرة جيدة".

رغم كل الضجة التي سببها المنطاد الصيني مشؤوم المصير، إلا أن ظهوره كان بمثابة احتفالية تسليط ضوء على تقنية أمضت العقد الماضي تصقل قدراتها بهدوء.

قال فان دير ويرف: "لا نعتقد أن منطاد الستراتوسفير هو الحل الناجز الشامل لجميع الاستخدامات، لكنه يكون الأنسب في بعض الأحيان".

أهم الاستخدامات

استُخدمت المناطيد في أغراض المراقبة العسكرية منذ 1794 مع إطلاق فرنسا لمنطاد في سماء العدو خلال الحرب مع النمسا. كما استخدمها جانبا الحرب الأهلية الأميركية،

وسخّرت البحرية الأميركية المناطيد لتطارد الغواصات النازية إبان الحرب العالمية الثانية. إلا أن تطوير الطائرات التي تحلق على ارتفاعات شاهقة وطائرات التجسس جعل المركبة الأخف من الهواء تبدو غريبة، فسحبت البحرية الأميركية آخرها في 1962.

الولايات المتحدة: المنطاد الصيني كان جزءاً من برنامج تجسس

أعادت التقنيات الجديدة المناطيد إلى الواجهة مرة أخرى بمرور الوقت. بدأت وكالة "ناسا" في أواخر التسعينيات اختبار مناطيد تتحمل التحليق تحت ضغط هائل، أو المناطيد طويلة الأمد، التي يمكنها أن تحلّق عالياً في طبقة الستراتوسفير لعدة أشهر متواصلة. كما تمكنت مناطيد من التحليق محملة بأطنان على ارتفاعات تزيد عن ثلاثة كيلومترات بفضل البوليمرات الحديثة شديدة التماسك التي تصنع منها.

تجارياً، استعانت "غوغل" بشركة "إيروستار" لتصنيع مناطيد طويلة الأمد لمشروع "بروجيكت لوون"، وهو أسطول من عشرات المناطيد الستراتوسفيرية تتيح الاتصال بالإنترنت للمناطق النائية.

يمكن أن ترتفع أو تهبط مناطيد "بروجيكت لوون" حسب الحاجة للاستفادة من الرياح التي تتحرك بالاتجاه المرغوب عبر ضخ الهواء من أو إلى منطاد أصغر داخل غلافها الخارجي. يعني هذا أنه يمكن لتلك المناطيد أن تزيد أو تخف سرعة تحليقها إلى مقصدها، وأن تبقى لفترة أطول أو أقصر فوق منطقة مستهدفة بعينها.

يمكن لنموذج "ثاندرهيد" الحالي، الذي طورته "إيروستار"، توفير نفس التقنية لمهام الاستطلاع والمراقبة. قال فان دير ويرف: "يمكنني إبقاء مناطيد (ثاندرهيد) فوق منطقة معينة باستمرار لأسابيع".

كما يمكن توجيه مناطيد "إيروستار"، التي تعمل بالطاقة الشمسية، إلى أي مكان في العالم انطلاقاً من منصتها في ساوث داكوتا، وقد استغرقت أطول رحلة قطعها نموذج "ثاندرهيد" حتى الآن 150 يوماً.

ماذا عن البدائل؟

كي نفهم فائدة مثل هذا الأداء ينبغي النظر للبدائل. على سبيل المثال، تنطلق الأقمار الصناعية ذات المدار الأرضي المنخفض بسرعة تداني 28 ألف كيلومتر في الساعة على ارتفاع 240 كيلومتر فوق سطح الأرض، ما يعني أن بإمكانها أن تغطي كامل سطح الأرض، لكنها تبقى فوق هدف معين لبضع دقائق فقط.

قال آرثر هولاند ميشيل، مؤلف كتاب "عيون في السماء" (Eyes in the Sky)، الذي يناقش تقنيات المراقبة من ارتفاعات عالية: "تتضاعف قيمة المعلومات الاستخباراتية التي تجمعها على نحو هائل اعتماداً على وقت التحليق في نقطة واحدة. إن كان بإمكانك البقاء فوق مرفق حساس لدى عدو لأيام، ستتمكن من رؤية أنماط زمنية، بما يشمل أين يذهب الناس وكيف يتحركون وما هي جداول عملهم".

بينما تشكل الأقمار الصناعية المسايرة لدوران الأرض وسيلة جيدة للمراقبة الثابتة، حيث تُثَبت بشكل دائم فوق بقعة معينة في العالم. لكن المشكلة تكمن في تحليقها على ارتفاع يبلغ 35 ألف كيلومتر تقريباً، وهي مسافة بعيدة جداً لا تسمح بالتقاط صور دقيقة للأهداف التي تراقبها.

بكين تستنكر مزاعم باستخدام منطاد للتجسس على أميركا

تحل الطائرات في المرتبة الثانية بعد الأقمار الصناعية من حيث جودة المراقبة، إذ يمكن أن تصل الطائرات إلى المنطقة المستهدفة بسرعة، وأن تبقى فوق بقعة محددة. لكن قدرتها على التحمل محدودة ولا يمكنها التحليق عبر أجواء معادية.

قال ميشيل: "تتمتع الولايات المتحدة بخبرة كبيرة في إدارة الطائرات ليس فوق بلد معين، وإنما على طول حدودها ومراقبة المنطقة من قطر دائرة المسار نوعاً ما". مع ذلك، لا يجدي هذا الأسلوب نفعاً على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بدولة كبيرة مثل الصين أو روسيا أو الولايات المتحدة.

خصائص متميزة

تستطيع مناطيد الستراتوسفير تذليل عديد من هذه العقبات. يصعب رصد تلك المناطيد عندما تتسلل عبر حدود الدول غير الصديقة، نظراً لتحليقها على ارتفاع أعلى من الطائرات، فضلاً عن تصنيع غالبيتها من مواد شفافة لا يرصدها الرادار.

قال ديفيد ستابلز، أستاذ هندسة الإلكترونيات في جامعة لندن المتخصص في المراقبة الفضائية: "المقطع العرضي الذي يمكن للرادار رصده من المنطاد منخفض جداً". ما يقصده ستابلز بشكل رئيسي هو أنه وفق قراءة هوائي الرادار يبدو المنطاد صغيراً لدرجة أنه يصعب اكتشافه.

كما أن حركة المناطيد أبطأ، إذ تتراوح سرعاتها بين 65 و80 كيلومتر في الساعة، ما يمنحها ميزة فعلية فيما يخص تجنب الرصد.

وضح ستابلز أن: "رادارات الدفاع الجوي تبحث عن طائرات سريعة الحركة مصنوعة من المعادن"، بحيث تغير سرعة الهدف تردد الإشارة المرتدة. يمكن لمشغلي الرادار استبعاد الأهداف بطيئة الحركة مثل العواصف الماطرة وأسراب الطيور عبر تجاهل كل ما يعكس تردده تغيراً طفيفاً. لكن هذا يجعلهم يتجاهلون الترددات التي تشير إلى المناطيد أيضاً. قال أستاذ هندسة الإلكترونيات: "يفوت مرور جسم بطيء الحركة وسط كل هذا التشويش".

استخبارات الإشارات

إن قررت دولة ما فجأة أنها تريد رصد أنظمة المناطيد المحلقة على ارتفاعات عالية، كما فعلت الولايات المتحدة، فإنها بحاجة إلى مراقبة كل ما يعكس تغييراً طفيفاً في تردد الإشارات المرتدة، وأن تحاول تمييز الأهداف المحتملة وسط قدر كبير من التشويش، وهذا يعني أن يظهر الرادار مراراً أهدافاً غير حقيقية.

قال الرئيس جو بايدن في خطاب بشأن إسقاط المنطاد في 16 فبراير: "لا دليل لدينا على زيادة مفاجئة في عدد الأجسام المتحركة في مجالنا الجوي. لكننا نرصد الآن مزيداً منها، ومردّ ذلك جزئياً لخطوات اتخذناها لزيادة عدد الرادارات وإحكام الرصد.".

ما الذي كشفه المنطاد عن عمليات التجسس الصينية؟

يمكن التضحية بالمناطيد عالية الارتفاع بشكل أو بآخر لكونها بلا طيار. حتى إن رُصد منطاد وأًسقط، فلن يشكل ذلك واقعة دولية بجسامة سابقاتها المتعلقة بطائرات التجسس، مثلما حدث حين أسرت السلطات السوفييتية فرانسيس غاري باورز قائد طائرة التجسس الأميركية "يو-2" بعد إسقاطها في 1960، أو عندما احتجزت الصين طائرة استخباراتية تابعة للبحرية الأميركية بعدما صطدمتها مقاتلة صينية وحققت مع طاقمها في 2001، ما أشعل فتيل نزاع دولي بين البلدين.

قال ميشيل: "نعم، تسبب منطاد الصين بواقعة دولية، لكن رد الفعل لا يُقارن حتى بما كان سيحدث إن أطلقت الصين طائرة تجسس مأهولة فوق الولايات المتحدة".

قد يكون امتلاك مركبة جوية يمكنها الاقتراب من هدفها أكثر من القمر الصناعي أمراً مهماً بشكل خاص للصين، إن كانت تحاول التجسس على أحدث تقنيات الاتصالات الآمنة في أميركا.

تعمل تقنية التقليل من احتمال اعتراض أو كشف الجسم الطائر عبر بث إشارات لاسلكية بطاقة منخفضة للغاية بحيث تُخفي الإشارة عمداً في التشويش الآتي من المحيط.

انحفاض تكلفة مناطيد الستراتوسفير هي أهم ميزاتها وهي ما قد يغير قواعد اللعبة. شرح ميشيل قائلاً: "علينا أن نعد أنفسنا لحقيقة أن هذه ستصبح تقنية متاحة بازدياد للأصدقاء والأعداء على حد سواء، وينطبق ذلك على الدول والجهات غير الحكومية".

قال ستابلز: "الناتج على أرض الواقع كان إتاحة استخبارات الإشارات لبلدان متوسطة الترتيب عبر العالم".

لقد ساهم ذلك، إلى جانب تقديم دعاية مجانية لمناطيد التجسس، في زيادة احتمال أن يحلق أحدها في سمائنا قريباً. لكننا ربما لن ندري به.