إلى أين وصلنا في رحلة البحث عن منشأ فيروس كورونا؟

رغم مرور سنوات على جائحة "كوفيد-19" لم يتمكن العلماء بعد من تحديد أين وكيف ومتى بدأ الفيروس

عناصر من الفرق الصحية في الصين يحملون معدات طبية استُخدمت في مكافحة تفشّي فيروس كورونا
عناصر من الفرق الصحية في الصين يحملون معدات طبية استُخدمت في مكافحة تفشّي فيروس كورونا المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لم يحدّد العلماء بعدُ المنشأ الذي انطلق منه كوفيد-19 قبل سنوات متسبباً في أسوأ جائحة يشهدها العالم منذ أكثر من قرن. عُثر على بعض من أقرب الفيروسات ذات الصلة بالفيروس المسبب له، وهو "سارس-كوف-2"، في الخفافيش، على بعد 1600 كيلومتر تقريباً من مدينة ووهان في وسط الصين، حيث ظهر المرض في أواخر عام 2019.

في بادئ الأمر رُبط بين حالات الإصابة وسوق للأطعمة الطازجة وربما الحيوانات البرية التي تُباع هناك. سلّط تحقيق في أوائل 2021 الضوء على احتمال أن يكون بعض الثدييات ناقلاً للفيروس، إذ تنقله من الخفافيش إلى الإنسان. ويوجد مزيد من النظريات ذات الأبعاد السياسية، إحداها أن الفيروس تسرّب بطريق الخطأ من مختبر أبحاث قريب، وهي فرضية أكّدها مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) في فبراير.

تشير نظرية أخرى إلى أن "سارس-كوف-2" دخل الصين من بلد آخر عن طريق استيراد أغذية مجمدة. ووسط كل النظريات والاحتمالات، تتّفق الحكومات والعلماء على أن فك شفرة نشأة الفيروس، أمر أساسي للحَدّ من مخاطر الأوبئة وأي جائحة في المستقبل.

1) لماذا لا نعرف منشأ الفيروس تحديداً؟

قد يكون من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، تحديد أين ومتى وكيف يبدأ العامل الحيوي المسبّب لمرض ما في الانتشار بين البشر. ورغم أن "سارس-كوف-2" يشبه جينياً فيروسات كورونا التي جُمعت من الخفافيش، فقد يكون اتبع مساراً معقداً إلى ووهان، المدينة التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة. يتتبع العلماء أقدم الحالات المعروفة، لكنهم يفقدون المسار، ويتوه منهم الأثر إلى حدّ بعيد لدى وصولهم إلى أوائل ديسمبر 2019. فمكان انتشار مرض جديد ليس بالضرورة هو ذاته الذي انتقل فيه من مملكة الحيوان أو أصاب الإنسان للمرة الأولى. فعلى سبيل المثال، يُعتقد أن فيروس "HIV" المسبب لمرض نقص المناعة المكتسب (إيدز) نشأ بحيوانات الشمبانزي في جنوب شرق الكاميرون.

"الصحة العالمية" تعلن اقتراب نهاية الوباء والصين تشدّد سياسة "صفر كوفيد"

لم يبدأ الإيدز الانتشار بسهولة بين الناس حتى عشرينيات القرن الماضي، عندما وصل إلى مدينة كينشاسا على بعد مئات الأميال. أفاد العلماء بهذا الاكتشاف في 2014، بعد نحو ثلاثة عقود من التعرُّف عليه.

2) من يبحث وراء الموضوع؟

طُلب من منظمة الصحة العالمية في مايو 2020 المساعدة على تحديد المصدر الحيواني للفيروس، وكيفية انتقاله إلى البشر. وشكلت المنظمة فريقاً من 17 عالماً دوليّاً، أحدهم مقيم في الولايات المتحدة، ليشرعوا في مهمة مشتركة على مدى أربعة أسابيع مع 17 باحثاً من الصين. نُشرَت النتائج التي تَوصَّلوا إليها في تقرير مشترك في مارس 2021. وبعد سبعة أشهر شكلت المنظمة مجموعة استشارية علمية أكثر ديمومة للتعامل مع القضايا المتعلقة بمنشأ كوفيد والتحقيقات المستقبلية في هذا الإطار. أصدرت اللجنة تقريراً أولياً في يونيو 2022 يحدّد سير العمل، ولاحظت بيانات رئيسية لم تكُن متاحة للوصول من أجل فهم كامل لكيفية بدء الجائحة.

دعا المدير العامّ لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الصين مراراً وتكراراً إلى زيادة التعاون في البحث عن منشأ الفيروس، وبعث برسائل إلى قادتها، ومنهم رئيس الوزراء لي كه تشيانغ ووزير الصحة ما شياو وي، طلباً لمزيد من المعلومات. يقول المسؤولون الصينيون إنهم يشاركون في عمل يستند إلى أساس علمي، ويتبادلون المعلومات مع منظمة الصحة العالمية. ويحقّق عديد من وكالات المخابرات الأميركية في الأمر.

3) ما فرضيات ظهوره؟

تمحور الجدل حيال أول ظهور لـ"كوفيد" حول فكرتين متنافستين: تَسرُّب عرَضيّ من مختبر، وانتقال من الحيوانات. ويُتفَق عالمياً على أن الفيروس لم يكن جزءاً من برنامج أسلحة بيولوجية ونُشر عمداً.

وضع العلماء المشاركون في البعثة التي تقودها منظمة الصحة العالمية لعام 2021 أربعة سيناريوهات وفقاً لدرجة الاحتمالية:

  • من محتمَل إلى محتمَل للغاية: انتشار الفيروس عبر أنواع مضيفة "وسيطة".
  • من ممكن إلى محتمَل: انتقل الفيروس إلى البشر مباشرة من مستودع حيواني.
  • ممكن: تسلل الفيروس عبر السلسلة الغذائية عن طريق طعام ملوث أو التغليف.
  • غير محتمَل للغاية: ظهور الفيروس نتيجة حادثة متعلقة بمختبر.

الصين تدرس المرحلة الثانية من خطة "منظمة الصحة العالمية" لمعرفة منشأ فيروس "كورونا"

لعدم العثور على حيوان وسيط كهذا حتى الآن، قال العلماء إن الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث، بما في ذلك الدور المحتمَل الذي ربما لعبته التجارة في الحيوانات والمنتجات الحيوانية والأطعمة المجمدة أو المبرَّدة. من جانبها، قدّمت وكالات المخابرات الأميركية تحليلات مختلفة بخصوص ما إذا كان الفيروس ظهر طبيعياً، أو انتشر جراء حادثة مؤسفة في مختبر صيني. قال كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، في 28 فبراير، إن المكتب سبق وخلص إلى أن الفيروس نشأ على الأرجح نتيجة "حادثة محتمَلة بمختبر" في ووهان.

وفقاً لمكتب مديرة الاستخبارات الوطنية، توافق كل الهيئات أن كل من النظريتين منطقيتين – أن الفيروس ظهر طبيعياً أو أنه انتشر جراء حادثة مؤسفة في مختبر صيني – لكن الآراء منقسمة بشأن النظرية الأكثر ترجيحاً.

4) ماذا نعرف حتى الآن؟

كانت الخفافيش مصدر اثنين من الفيروسات التاجية التي تسببت في تفشّي الأمراض الفتاكة بين البشر خلال العقدين الماضيين، هما: متلازمة التهاب الجهاز التنفسي الحادّ (سارس)، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس).

يعتبر عديد من العلماء أن الثدييات الطائرة هي المستودع الطبيعي المحتمل لـ"سارس-كوف-2" أيضاً (والمستودع الطبيعي هو حيوان يحوي بشكل دائم العامل المسبب للمرض الذي تنتقل منه العدوى إلى مجموعة سكانية مستهدفة محددة).

بعد ظهور "سارس-كوف-2"، حدّدت شي تشنغ لي، التي تُجري دراسات على فيروسات كورونا التي تنقلها الخفافيش في معهد ووهان لعلم الفيروسات، ثلاثة فيروسات وثيقة الصلة بـ"كوفيد-19" جُمعت خلال الخمسة عشر عاماً الماضية. أقربها لكورونا، الذي تبلغ نسبة تطابقه معه نحو 96%، فُصل من خفاش حدوة الحصان، واسمه العلمي "رينولوفوس أفينيس"، وظهر في مقاطعة يونان جنوبيّ الصين في 2013.

ربط باحثون هذا الفيروس المعيَّن، المعروف باسم "آر إيه تي جي 13"، بمنجم في مقاطعة موجيانغ هناك، حيث أصيبَ 6 رجال بمرض شبيه بالالتهاب الرئوي في 2012 قبل أن يلقى ثلاثة منهم حتفهم.

رغم أن "آر إيه تي جي 13" و"سارس-كوف-2" قد يشتركان في سلف مشترك، فإنهما ليسا متشابهين بما يكفي للإشارة إلى أن الفيروس المسبب للجائحة مشتقّ من ذلك الموجود في يونان. كما لم يُعثر في العيّنات المأخوذة من الخفافيش في إقليم هوبي، الذي يضمّ ووهان، على "سارس-كوف-2".

في 2007، تَبيَّن أن قط زباد النخيل الذي ظهر في مزارع هوبي مصاب بشكل طبيعي بفيروسات تاجية شبيهة بسارس، وبالمثل خفافيش حدوة الحصان في 2005. كما عُثر على فيروسات تاجية ذات صلة في أنواع أخرى من الخفافيش والبنغول، وهو حيوان ثديي حرشفي يأكل النمل في أماكن أخرى في آسيا، ما يسلط الضوء على الانتشار الواسع الذي قد يكون أسهم في تطور الفيروس.

قال باحثون في دراسة أُجريَت في 2021 صدرت قبل مراجعة النظراء والنشر، إن انتقال مثل هذه الفيروسات من الخفافيش إلى البشر قد يتسبب في 400 ألف إصابة سنوياً في المتوسط في جنوبيّ الصين وجنوبيّ شرق آسيا.

5) ما المعروف عن أولى حالات "كوفيد- 19"؟

بدأت الأعراض لدى أول مريض معروف في 11 ديسمبر 2019، وفقاً لدراسة نُشرت في 18 نوفمبر 2021 في دورية "ساينس". يشير ذلك إلى أن العدوى ربما بدأت قبل أسبوعين. (وجدت الدراسة أن ساكناً آخر في ووهان يُعتقد أنه كان الحالة الأولى لم تظهر عليه في الواقع أعراض "كوفيد" حتى 16 ديسمبر، أي بعد ثمانية أيام مما كان يُعتقد في البداية). لم تجد بعثة منظمة الصحة العالمية أي دليل على انتشار الفيروس على نطاق واسع في ووهان قبل ديسمبر. واقترحت مجموعة من الباحثين، بما فيهم باحثين في جامعة كاليفورنيا بسان دييغو، أن الفيروس انتقل من الحيوانات في حادثتين منفصلتين، ونتج عنه سلالات مختلفة بدأت تنتشر في أواخر نوفمبر 2019.

أشارت مجموعة علماء، بينهم باحثو جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، إلى أن الفيروس انتشر من الحيوانات في مناسبتين منفصلتين، مما أدى إلى ظهور سلالات مميزة لـ"سارس-كوف-2" التي انتشرت في أواخر نوفمبر 2019 في البداية من سوق ووهان حيث تُباع الحيوانات الحية وتُشترى.

6) ما الدور الذي لعبته سوق المأكولات الطازجة؟

طُرح عدد قليل من السيناريوهات لسوق هوانان المترامية الأطراف في وسط ووهان، وهي أنه ربما كانت مصدر عدوى، أو زادت انتقال الفيروس من إنسان إلى إنسان، أو كليهما. كانت أول حالة إصابة معروفة بـ"كوفيد-19" لبائعة مأكولات بحرية هناك قبل أن تنتشر العدوى كالنار في الهشيم: فثلث الحالات الـ168 التي حُددت بأثر رجعي في ديسمبر 2019، كانت مرتبطة مباشرةً بالسوق. كما أيّدت التحليلات المكانية التي صدرت قبل النشر في فبراير أن السوق بؤرة ظهور الفيروس، وأظهرت نتائج غير منشورة توصّل إليها باحثون حكوميون صينيون في فبراير، أن عشرات العينات البيئية التي جُمعت من السوق في أوائل 2020 أثبتت وجود "سارس-كوف-2"، وأن ثلاثة فيروسات حية فُصلت ليتبيّن أنها متطابقة تقريباً مع العينات المأخوذة من الأشخاص المصابين. غير أن الباحثين لم يتمكّنوا من العثور على "سارس-كوف-2" في عيّنات حيوانية من السوق، لكنهم قالوا إن بياناتهم تقدّم "دليلاً دامغاً" على انتشار الفيروس في السوق خلال المرحلة المبكرة من تفشي "كوفيد-19".

كيف يغيّر "كورونا" سلاسل الإمداد الغذائي؟

تحوي سوق هوانان 678 كشكاً، وبها أكثر من 1180 عاملاً يتعاملون في منتجات المأكولات البحرية، بالإضافة إلى الفواكه والخضراوات الطازجة واللحوم والحيوانات الحيّة ومواد البقالة. ووجد اختبار أُجريَ بعد إغلاق السوق (أُغلقَ في الواحدة صباحاً في الأول من يناير 2020) تلوُّثاً واسع النطاق للأرضيات والجدران وألواح التقطيع وأدوات التنظيف بما يتوافق مع انتقال الفيروس من المصابين إلى الأسطح.

كانت سلاسل التوريد إلى السوق واسعة النطاق، مع وصول البضائع من بلدان أخرى ومن جميع أنحاء الصين. وكان عشرة من مشغلي الأكشاك يبيعون لحوم الحيوانات البريّة المُربَّاة في الأسر.

أبلغ القائمون على إدارة السوق الفريق الذي تقوده منظمة الصحة العالمية في أوائل 2021، أن جميع الحيوانات الحية والمجمدة التي أبلغ البائعون عن بيعها في سوق هوانان كانت من مزارع مرخصة، وأنه لم يُعثَر على تجارة غير مشروعة في الحياة البرية. وقال الباحثون أيضاً إنهم لم يتمكنوا من التحقّق من التقارير التي تفيد ببيع ثدييات حية في السوق في 2019.

من أصل 336 عينة جُمِعَت للفيروس، لم يكن أي منها إيجابياً، لكن ربما لم تُؤخذ عيِّنات كافية.

7) ما مدى مصداقية ذلك؟

أشارت دراسة نُشرت في يونيو إلى أن المعلومات المتعلقة بالحيوانات التي كانت تُباع، خاطئة. وأوضحت الدراسة المنشورة في دورية "ساينتيفك ريبورتس" العلمية أن الثدييات القابلة للإصابة بفيروس كورونا، كانت تُباع وتُشترى في سوق هوانان وغيرها في أنحاء ووهان من مايو 2017 إلى نوفمبر 2019. وشملت الأنواع الـ38 حيوانات مثل المنك، وقط زباد النخيل المقنع، وكلاب الراكون، وابن عرس، والغرير، وفئران الخيزران.

قالت شياو شياو، من مركز أبحاث حيوانات المختبر في جامعة هوبى للطب الصيني في ووهان، وزملاء لها في الصين والمملكة المتحدة وكندا، إن 17 بائعاً باعوا كلّاً من الأنواع التي صيدت في البرية والزراعات وهي حية، وفي أقفاص ومكدسة وحالتها سيئة.

وأضافوا أنه لم يُظهِر أي من البائعين شهادة منشأة أو حجر صحي، "لذلك كانت تجارة الحياة البرية برمتها غير قانونية بشكل أساسي". بالإضافة إلى ذلك، وفي حين أن جيف الحيوانات التي أظهرت اختباراتٌ أُجريَت عليها بأثر رجعي خلوَّها من الفيروس، كانت من غير أنواع الحيوانات الحية المبيعة، وعلى وجه التحديد لم تشمل كلاب الراكون والحيوانات الأخرى المعروفة بأنها معرضة للإصابة، وفقاً لمراجعة الأدلة العلمية المتعلقة بمنشأ الجائحة والتي نُشرَت العام الماضي. في 2020 نفت الصين وجود أسواق رطبة للحياة البرية في البلاد، لكن البحث الذي نشره باحثون حكوميون صينيون بعد ذلك بعامين حدد 10 أكشاك في سوق هوانان كانت تبيع مجموعة من الحيوانات البرية الحية، "الحيوانات البرية المستأنِسة"، بما في ذلك الغزلان والغرير والأرانب وفئران الخيزران والشيهم والقنافذ والسلمندر والتماسيح.

خفافيش كهوف لاوس أقرب أقارب فيروس كوفيد-19

8) هل يمكن أن ينتقل الفيروس عن طريق الطعام الملوَّث؟

يدور خلاف حول هذا. وجد باحثون في الصين أن الفيروس يمكن أن يستمر في ظروف لها صلة بالأطعمة المجمدة والتعبئة والتغليف، وكذلك منتجات سلاسل التبريد، التي تُحفظ في الثلاجات. كما ربطوا بعض الإصابات لدى الأشخاص بالسلع المستوردة، على الرغم من أن درجة الاتصال السطحي أو الحمل الفيروسي المطلوب غير معروفة. تبنّت حكومة الصين هذه النظرية، بل إن بعض المتاجر الكبيرة لديه مبرّدات منفصلة للسلع المستوردة. قالت إدارة الأغذية والعقاقير الأميركية والمراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها في 2021، إنه لا دليل موثوقاً به على أن الأغذية أو تغليفها مصدر محتمل لانتقال العدوى. حدث تفشي فيروس "كوفيد" في 2020 في مصانع للحوم المصنَّعة وبعض مصانع تحضير الوجبات الجاهزة، ما يجعل احتمال تلويث العمال المصابين للمكونات التي يكونون على اتصال بها منطقياً. ووصف رئيس بعثة منظمة الصحة العالمية هذه النظرية بأنها "تستحق البحث"، لكنه أشار إلى أنه في 2019 "لم يكن لـ(كوفيد-19) تَفَشٍّ واسع النطاق في مصانع الأغذية حول العالم".

9) ماذا عن نظرية المختبر؟

بعد اجتماعات مع العلماء في ووهان، بما في ذلك المناقشات بشأن ممارساتهم المتعلقة بالاحتواء الحيوي والسلامة، وجدت البعثة التي شكّلَتها منظمة الصحة العالمية أن من "غير المحتمل للغاية" أن يكون فيروس "سارس-كوف-2" نشأ في أحد المختبرات العديدة في المدينة التي تُجري أبحاثاً على الفيروسات التاجية، وهي عائلة كبيرة تضمّ تلك التي تسبّب نزلات البرد. ورغم أنه من المعروف وقوع حوادث، ما أدى إلى حالات تَفشٍّ نادرة، قال العلماء إنه لم ترد تقارير عن وجود الفيروس قبل اكتشافه في ووهان. استنتج الباحثون الذين حلّلوا التسلسل الفيروسي أنه لا يمتلك التوقيعات (السمات) الجينية لفيروس مصمَّم في المختبر. كما أجرت المعامل في ووهان اختبارات لموظفيها وطلابها بحثاً عن أدلّة على الإصابة، ولم تعثر على أي حالات. قالت دانييل أندرسون، عالمة الفيروسات الأسترالية التي كانت تعمل حتى نوفمبر 2019 في "مختبر السلامة الحيوية-4" (BSL-4) التابع لمعهد ووهان لعلم الفيروسات، وهو الأول من نوعه في بر الصين الرئيسي المجهز للتعامل مع أخطر مسببات الأمراض على كوكب الأرض، إنها لم ترَ شيئاً يثير الشك في أن الفيروس انتشر من هناك.

الصين تتهم الولايات المتحدة بتضخيم نظرية تسرُّب فيروس كورونا من مختبر

10) هل واجه ذلك التقييم انتقادات؟

نعم. قال رئيس منظمة الصحة العالمية في 2021 إنه لا يعتقد أن التقييم الذي أجراه الفريق الذي تقوده المنظمة كان شاملاً بدرجة كافية، وإن الأمر يحتاج إلى مزيد من البيانات والدراسات للوصول إلى استنتاجات أقوى. أصدرت دول عدة، منها الولايات المتحدة، بياناً مشتركاً في اليوم ذاته يدعو الصين إلى أن تكون أكثر شفافية وتسمح بزيادة وتيرة الوصول إلى المختبرات. اتهم الرئيس الأميركي جو بايدن الصين بعرقلة تحقيق أميركي في منشأ الفيروس، وهو اتهام ترفضه بكين. كرّرت مجموعة من العلماء والأطباء البارزين، دعوات إلى مزيد من الوضوح بشأن منشأ الفيروس. لاحظت المجموعة الاستشارية العلمية لمنظمة الصحة العالمية أنه لا بيانات جديدة متاحة لتقييم أن المختبر كان سبيلاً لانتقال "سارس-كوف-2" إلى البشر، وأوصت بمزيد من التحقيقات في هذا المسار وكل المسارات الممكنة الأخرى. أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" بأن عمل وكالات المخابرات الأميركية تمخّض عن نتائج متضاربة، إذ انضمت وزارة الطاقة إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي في استنتاج أن تَسرُّباً من مختبر، هو التفسير الأكثر ترجيحاً لظهور "كوفيد-19". وخلص عدد قليل من الوكالات الأخرى إلى أن الانتقال الطبيعي هو الأكثر ترجيحاً، في حين لم تحسم وكالة المخابرات المركزية (CIA) أمرها بعدُ بهذا الصدد.

11) لماذا لم يخضع المختبر لمزيد من الفحص؟

الأمر حساس للغاية، فبعدما طالت سهام النقد الصين، واتُّهمت بأنها تستّرت في البداية على نطاق الأزمة، وافقت إدارة بكين على التعاون مع تحقيق منظمة الصحة العالمية بعد مفاوضات على مدى شهور. زار الفريق الدولي المختبر رغم أن تفويضه الرسمي لم يأتِ على ذكر إجراء أي بحث على مختبرات ووهان على وجه التحديد، أو أي دور قد تكون لعبته.

قال تيدروس أدهانوم غيبريسوس، حينذاك، إن الفريق – الذي شاركت الصين في تنظيمه – رفض نظرية تسرب الفيروس من مختبر بسرعة شديدة. بعد صدور تحليل هذا العام، الذي أشار إلى احتمال أن تكون كلاب الراكون وسيطاً حيوانياً، قال غيبريسوس إن البيانات التي جمعها الباحثون الصينيون كان من الممكن ومن المفترض مشاركتها قبل ثلاث سنوات.

أشار تقرير يونيو 2022 للمجموعة الاستشارية العلمية إلى أن يونغوي يانغ، نائب مدير معهد بكين لعلم الجينوم في الأكاديمية الصينية للعلوم، وعضوين آخرين في اللجنة، لم يوافقوا على التوصية بإجراء مزيد من الدراسات بشأن فرضية أن حادثاً في مختبر ربما أدى إلى تسرب الفيروس. وإذا كان حادث المختبر هو المصدر، فستكون له تداعيات هائلة على الصعيد العالمي، بما في ذلك القواعد التنظيمية لعلم الفيروسات وممارساته، وفقاً لرينا ماكنتاير، أستاذة الأمن الحيوي العالمي بجامعة نيو ساوث ويلز في سيدني.

بعد تساؤلات عن منشأ "كورونا".. مختبرات الفيروسات تستحقّ مزيداً من الإشراف

12) ما أكثر الاحتمالات المرجحة إذاً؟

قالت ماريتجي فنتر، رئيسة المجموعة الاستشارية العلمية التي تقودها منظمة الصحة العالمية وعالمة الفيروسات في جامعة بريتوريا في جنوب إفريقيا، للصحفيين في 2022، إن أقوى دليل لا يزال هو "انتقال العدوى عن طريق الحيوان". وهذا يتفق مع آراء 20 من كبار العلماء، ومن بينهم جيريمي فارار، مدير "ويلكم ترست" (Wellcome Trust)، وخوان لوبروث، كبير الأطباء البيطريين السابق في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، وهي الآراء التي عبّروا عنها في رسالة لدورية "ذا لانسيت" في 2021. و"سارس-كوف-2" هو تاسع فيروس تاجي موثق يصيب البشر، والسابع الذي تسنّى تَعرُّفه في العشرين عاماً الماضية. وجميع فيروسات كورونا البشرية السابقة لها أصول حيوانية المصدر. وقالت مجموعة من العلماء الذين يدرسون تطور الفيروسات، إن ظهور فيروس "سارس-كوف-2" يحمل عديداً من سمات الوقائع السابقة لانتقال الفيروس إلى الإنسان عن طريق الحيوان، ولا سيما فيروس "سارس"، الذي انتقل إلى البشر في منطقتين من مقاطعة غوانغدونغ الصينية في 2002 و2003. وفي كلتا الحالتين كان لأسواق بيع الحيوانات الحية ضلع في انتقال الفيروس إلى البشر. باعت أسواق غوانغدونغ حيوانات قط الزباد وكلاب الراكون المصابة -من الثدييات المعروفة بأنها معرضة للإصابة بفيروس "سارس-كوف-2"- والتي كانت تُباع أيضاً في أسواق ووهان في 2019. وكانت هناك شبكة كبيرة من المزارع التي تزوّد أسواق ووهان بالحيوانات البرية، بمن في ذلك من موردين موجودين في المناطق التي يُعرَف أن الخفافيش فيها "مستودع طبيعي" لفيروسات كورونا. ومن المحتمل أن يكون بعض الحيوانات أُصيبَ قبل طرحه في الأسواق. وقالت بعثة منظمة الصحة العالمية إن مزيداً من البحث يجب أن يشمل تَتبُّع هذه المنتجات إلى مصدرها واختبار الحيوانات الأخرى هناك، وكذلك محيطها والأشخاص الذين يعيشون في مكان قريب.

13) هل يمكن أن تكون الجائحة ظهرت في مكان آخَر؟

أظهرت دراسات عديدة أن العينات الحيوية والبيئية التي جُمعت في 2019 من إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم، تحتوي على آثار لـ"سارس-كوف-2" أو الأجسام المضادة للفيروس. لاحظت المجموعة الاستشارية العلمية لمنظمة الصحة العالمية، أن أساليب كل من تلك الدراسات تتطلب مزيداً من التأكد والتحقُّق، وبالتالي فإن أهمية هذه النتائج وفحواها لا تزال غير واضحة. وأشار المسؤولون الصينيون أيضاً إلى أن الفيروس ربما ظهر من فورت ديتريك، مختبر أبحاث الجيش الأميركي في ولاية ميريلاند، داعين إلى إجراء تحقيق هناك.

14) ما وجهة نظر الصين؟

يقول المسؤولون الصينيون إنهم يشاركون في عملٍ مبني على العلم، كما شاركوا معلومات مع منظمة الصحة العالمية. وفي الوقت نفسه، تحاول الحكومة الصينية تحويل التركيز بعيداً عن كل من نظرية التسرب من مختبر وسيناريو بيع الحيوانات الغريبة المصابة بالفيروس في سوق ووهان الرطبة. عوضاً عن ذلك، دفعت الصين بنظريات بديلة مستندة إلى دعم علمي محدود، مثل أن الفيروس دخل الصين عبر الأطعمة المجمدة أو التغليف، أو أن الفيروس المسبب للمرض ظهر من فورت ديتريك، مختبر أبحاث الجيش الأميركي.

15) ما المرحلة التالية؟

كان من المقرر أن تجتمع المجموعة الاستشارية العلمية لمنظمة الصحة العالمية في يونيو الماضي، لكنها أرجأت المرحلة الثانية من تحقيقها، حسبما ذكرت دورية "نيتشر" العلمية في فبراير 2023. وقال مسؤولو منظمة الصحة العالمية إنهم ما زالوا يسعون للحصول على معلومات عن منشأ "كوفيد-19"، رغم أن الأمر يزداد صعوبة بمرور الوقت.