خبراء الذكاء الاصطناعي ليسوا محقّين بشأنه دائماً

وضع منظومة للتحكم في أعمال الذكاء الاصطناعي مهمة يجب تركها لعلماء الاجتماع والسياسة

مجسم لشخصية العالم ألبرت أينشتاين موضوع على روبوت
مجسم لشخصية العالم ألبرت أينشتاين موضوع على روبوت المصدر: بلومبرغ
Tyler Cowen
Tyler Cowen

Tyler Cowen is a Bloomberg Opinion columnist. He is a professor of economics at George Mason University and writes for the blog Marginal Revolution. His books include “The Complacent Class: The Self-Defeating Quest for the American Dream.”

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يعتبر تراجع الثقة بخبراء ومؤسسات الصحة العامة، أحد التداعيات المستمرة لجائحة "كوفيد-19"، ولا يحتاج الأمر إلى الكثير لتفسيره: فقد أخفقت أميركا في إجراء اختبار "كوفيد" بالطريقة السليمة، وأبقت المدارس مغلقة لفترة طويلة للغاية، وفشلت في تطعيم عدد كافٍ من الأشخاص بالسرعة المطلوبة، كما إنها تسببت بأضرار اقتصادية أكثر مما اقتضى الأمر بكثير. ووسط هذا كله، كان صوت خبراء الصحة العامة، هو المهيمن غالباً.

في دفاعهم عن أنفسهم، يجري تدريب مسؤولي الصحة العامة على وضع مسألة السلامة العامة في مقدمة الأولويات وقبل أي شيء آخر. يعود الفضل في ذلك إلى أن الكثيرين يدركون اليوم أن أي ردّ فعل تجاه أزمة في مجال الصحة العامة، ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار التوازنات الملازمة لأي تدخّل. وكما قلل دكتور أنتوني فوتشي مؤخراً في تصريح لصحيفة "نيويورك تايمز": "أنا لست رجل اقتصاد".

بالمناسبة، أنا رجل اقتصاد، وما أخشاه هو أننا نوشك على الوقوع في الخطأ ذاته مرة ثانية، من خلال الوثوق بالخبراء غير المناسبين، وهذه المرة في مجال الذكاء الاصطناعي.

مخاطر جسيمة

تنتقد مجموعة من ألمع العقول البشرية في هذا المجال، مثل جيفري هينتون، تطورات الذكاء الاصطناعي بشكل علني، وتنادي بوقف البحوث الخاصة به. في وقت سابق من الأسبوع الجاري، ترك هينتون عمله في مجال الذكاء الاصطناعي في شركة "غوغل"، مُبدياً قلقه حيال نشر المعلومات المضلّلة، والبطالة الهائلة، والمخاطر المستقبلية ذات الطبيعة الأكثر تدميراً. من خلال القصص المتداولة، والتحدث إلى أشخاص عاملين على جبهات الذكاء الاصطناعي، أعلمُ شخصياً أن العديد من الباحثين الآخرين يساورهم القلق أيضاً.

هل الذكاء الاصطناعي يتقدم بسرعة مدمِّرة؟

رغم ذلك، فإن ما لا أسمعه هو تحليل أكثر منهجية حول التكلفة والفوائد من تطور الذكاء الاصطناعي. أي تحليل من هذا النوع، يجب أن يتناول سبل تصدي الذكاء الاصطناعي للمخاطر الوجودية الأخرى، مثل تحويل اتجاه كويكب يسير باتجاه الأرض، أو تطوير معالجات أفضل لمواجهة التغير المناخي، أو أساليب علاج السرطان، أو تحسين صحتنا بطريقة أخرى بواسطة الذكاء الصناعي. هذه التحليلات، تفشل غالباً في أخذ المخاطر التي تتعرض لها أميركا والعالم بالحسبان، إذا أوقفنا مؤقتاً عمليات تطوير الذكاء الاصطناعي.

كذلك، لم أسمع مشاركات كثيرة حول الحجج الاقتصادية القائلة إنه في حين أن تحولات سوق العمل باهظة التكلفة، فإن الاستغناء عن العمالة كان أحد الأنماط الأساسية للتقدم المادي عبر التاريخ. يحظى الاقتصاد الأميركي بدرجة كبيرة من الأتمتة فعلياً، ولا يعود ذلك إلى الذكاء الاصطناعي فقط، وهو يتمتع في الوقت الراهن بتوظيف كامل للعمالة. في حال تطلب الأمر ذلك، يمكن للحكومة توسيع مظلة الحماية الاجتماعية لتضم العمال الذين يعانون في أثناء المراحل الانتقالية، عِوضاً عن وقف الابتكارات الموفرة لليد العاملة.

خبرة تكنولوجية

كل موضوع من هذه الموضوعات معقد تماماً، لدرجة أنه ليست هناك إجابات بسيطة (حتى لو سألنا تطبيقاً للذكاء الاصطناعي!). ورغم ذلك، ينطوي هذا التعقيد على درس من الدروس، يتمثل في أن المعرفة الصحيحة للعواقب الأوسع نطاقاً للذكاء الاصطناعي، غير متوافرة لدى خبراء الذكاء الاصطناعي أنفسهم. إذا كان هناك أمر جدير بالإشارة إليه، فهو تصريحات هينتون حول تأثير الذكاء الاصطناعي على البطالة، حيث قال: "يساعد على الاستغناء عن الأعمال الكادحة، وربما يقوم بما هو أكثر"، ما يجعلني أُقلّل من أهمية تقييمه للأمر.

روبوتات دردشة الذكاء الصناعي تكتب المحتوى لمواقع إخبارية

رغم ذلك، من المعلوم أن هينتون هو أبرز شخصية وراء التطور الأخير الذي شهدته الشبكات العصبية الاصطناعية، وحاز على جائزة توازي جائزة نوبل في مجاله. وهو يشكك بنفسه حالياً فيما إذا كان يجب عليه القيام ببحوثه من الأساس. مَن أنا لكي اشكك في استنتاجاته؟

للتوضيح، أنا لا أشكك في نواياه أو خبرته. لكن أودّ طرح سؤال مختلف: من الذي يُعدّ، حالياً، خبيراً في نمذجة طريقة ستتفاعل من خلالها أنظمة الذكاء الاصطناعي المختلفة مع بعضها بعضاً من أجل وضع ضوابط وآليات تدقيق، تماماً كما تفعل المؤسسات البشرية اللامركزية؟ لا يزال الطريق طويلاً أمام التحليلات، ناهيك عن اختبارها في ضوء البيانات المتوافرة. ستتطلب هذه الأنظمة فهماً متطوراً للعلوم الاجتماعية والسياسية، وليس فقط الذكاء الاصطناعي وعلوم الحاسوب، ومن غير الواضح من يستطيع تحديداً القيام بعملية توليف من هذا النوع، لا سيما في عصر خبراء التخصصات الدقيقة.

من البديهي القول إنه توجد أنواع مختلفة من الخبرة. والمثال على ذلك ما يواجهه أخصائيو الأمن القومي من أخطار جسيمة تهدد أميركا طوال الوقت، ما يضع على عاتقهم تطوير طريقة فهم اصطناعية لأساليب معالجتها. كم واحد منهم استقال من المؤسسة ليصبح "كاساندراس" (شخصية أسطورية إغريقية لها القدرة على التنبؤ بالمستقبل) الذكاء الاصطناعي؟ لم أشهد طوفاناً من الاحتجاجات، وهؤلاء هم الأشخاص الذين درسوا طريقة تضخم التدابير المدمرة بواسطة نظام اجتماعي واقتصادي أوسع نطاقاً. ربما اعتادوا على فكرة أن الأخطار الحقيقية تصحبنا على الدوام.

الأحكام المسبقة

ساعد ألبرت أينشتاين في وضع إطار لحشد الطاقة النووية، وفي عام 1939، كتب إلى الرئيس الأميركي السابق فرانكلين روزفلت يحثه على تصنيع أسلحة نووية. تراجع في وقت لاحق، قائلاً في عام 1954 إن العالم سيكون أفضل بدونها. ربما يكون محقاً، لكن وحتى يومنا هذا، ترى غالبية الأميركيين أن التوازنات مقبولة، ويُعزا ذلك بطريقة جزئية إلى أنها أسفرت عن حقبة من الهيمنة الأميركية، وضمنت أن الزعماء الأميركيين لا يستطيعون الهروب بسهولة من تكاليف الحروب الكبرى. ما زالت حملات نزع السلاح النووي قائمة كحركة شعبية، لكنها لا تلقى دعماً من أي حزب سياسي بارز في أي دولة نووية. (إن وجد شيء في هذا الصدد، فإن أوكرانيا تندم على تخليها عن أسلحتها النووية).

الدرس هنا جلي: غالباً ما يتضح أن خبراء مجالات أخرى أكثر صواباً من خبراء المجال "ذي الصلة" (علامة الاقتباس مقصودة). ومع توافر المعرفة، كما أظهر أينشتاين في عامي 1939 و1954، فإن كافة هذه الأحكام تعد مسبقة.

الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا يغيران 25% من الوظائف عالمياً

عندما يرتبط الأمر بالذكاء الاصطناعي، كما هي الحال مع قضايا عديدة، من المعتاد أن تستند آراء الناس إلى أحكامهم المسبقة، فقط لأنه لا يوجد أمر آخر يعتمدون عليه. لذلك سأعلن أن أحكامي الخاصة بي تتمثل في أن النظم الاجتماعية اللامركزية قوية نوعاً ما، وقد نجا العالم من بعض الاضطرابات التكنولوجية الكبرى في الماضي، وستبقى المنافسات القومية مرافقة لنا على الدوام (ومن ثم الحاجة إلى التفوق على الصين) ويمكن لأصحاب الفكر ببساطة أن يحدثوا أنفسهم بتداعيات مهلكة وشيكة.

ينتهي بي كل هذا بالاعتقاد بأن أفضل وسيلة لتوفير السلامة، تتمثل في بنائها ومعالجة المشكلات خلال المسيرة، وبطريقة سريعة أحياناً، عوضاً عن إجراء مناقشات مبهمة على الإنترنت.

أتعاطف نوعاً ما لذلك مع تطور الذكاء الاصطناعي. يساورني الشك في حجج، إذا جرى العمل وفقها بصفة مستمرة، كانت ستعرقل أيضاً تطوير الصحافة المطبوعة أو الكهرباء.

الخصائص الاجتماعية

أعتقد أيضاً أن الذكاء لا يشكل بأي صورة من الصور العامل المهيمن على الشؤون الاجتماعية، والذي يعتبر متعدد الأبعاد لأقصى حد. لذلك حتى الذكاء الاصطناعي المبهر، لن يحظى في الغالب بكافة المهارات المطلوبة لتدميرنا أو استرقاقنا. كما إننا نميل إلى إضفاء خصائص بشرية على الكيانات غير البشرية، وإلصاق النوايا العدائية بها، بينما لا وجود لأي منها.

كما هو متوقع، فإن افتراضاتي لا يوافقني فيها العديد من منتقدي الذكاء الاصطناعي. يرى هؤلاء أن التنسيق عبر مجال الذكاء الاصطناعي في المستقبل مسألة بسيطة نسبياً، وأن العزوف عن المخاطرة والهشاشة أمر ينطوي على أهمية بالغة، واحتمال تنافس الجهات الفاعلة في مجال الذكاء الاصطناعي باعتباره يمثل تهديداً للبشر. يقللون من أهمية المنافسة مع بلدان، مثل الصين، ويطرحون وجهة نظر أكثر إيجابية لما قد تحققه عمليات تنظيم أنشطة الذكاء الاصطناعي. بعض العقلانيين إلى حد التطرف، يشيدون بفكرة الذكاء الاصطناعي المجرد، ومن ثم فهم يرون أكثر مني أن مستقبل الذكاء الاصطناعي يشكّل تهديداً.

"تشات جي بي تي".. روبوت فصيح أم آلة معلومات مضللة؟

إذن، من هم تحديداً الخبراء الأكثر واقعية أو فائدة لدى مناقشة أي مجموعة من الأحكام المسبقة؟ أعترف أن السؤال لا يحمل إجابة شافية، لكنه أمر غير ذي صلة كذلك. نظراً لأن النقاش حول الذكاء الاصطناعي، عندما يرتبط الأمر به، ما زال يتعلق بالأحكام المسبقة بطريقة كبيرة. على الأقل عندما يناقش خبراء الاقتصاد الآثار الواقعة على الحد الأدنى للأجور، فإننا نعلق الأمر على نماذج قابلة للقياس على نحو كبير ودراسات تجريبية. لا تعد مناقشات الذكاء الاصطناعي قريبة من هذا المستوى من الدقة.

الفائدة والتكلفة

بصرف النظر عن طريقة سير المناقشات، ليست هناك وسيلة للتغلب على المعضلة الأخلاقية الحقيقية التي بيّنها هينتون. مع افتراض أنك ساهمت في إحراز تطور تكنولوجي أو اجتماعي كان له تداعيات هائلة، ومعدل الفائدة منها نسبة إلى التكلفة هو 3 إلى 1. سيكون صافي المكاسب مرتفعاً للغاية والتكاليف (الإجمالية) أيضاً. وهذه الأثمان ناجمة عن كفاحك.

كيف يغمض لك جفن بسهولة وأنت تدرك أن جهودك التي تفاخرت بها منذ مدة طويلة، تسببت في وقوع هجمات إلكترونية عديدة وخسارة وظائف ومكابدة للصعاب؟ هل سيخفف عنك مكاسب تحققها لتعوّض ذلك؟ ماذا لو كان معدل الفائدة إلى التكلفة 10 إلى 1؟ ماذا لو بلغ 1.2 إلى 1؟

ليست هناك إجابات موضوعية لهذه الأسئلة القياسية العميقة. ربما تستند طريقة استجابتك إلى نمط شخصيتك. لكن السؤال عن شعورك تجاه عملك، لا يعني إلى أي مدى سيؤثر على المجتمع والاقتصاد. لا ينبغي أن يبدو التقدم وكأنه يحدث في ظل صخب وضغوط شديدة، لكن ذلك يحدث أحياناً.