هل يصبح دفع الذكاء الاصطناعي لسوق التقنية فقاعة؟

يسعى المستثمرون لركوب موجة الذكاء الاصطناعي في ظلّ مخاوف من أن تتحول إلى فقاعة مثل الموجات التي سبقتها

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تتعدّد الأسباب التي تدعو للتشاؤم حيال سوق الأسهم، فهنالك التضخم وتشديد الاحتياطي الفيدرالي، والصراعات السياسية المستمرّة، والمبالغة في التقييمات، واحتمال حصول ركود اقتصادي، زد على ذلك ترنح المصارف الإقليمية الأميركية، وما كلّ هذه الأسباب إلا غيض من فيض.

أمّا التفاؤل فيكاد يستند إلى ركيزة واحدة هي تقنية ناشئة تشتهر بأنها مبعث قلق من احتمال تسببها بمستويات بطالة هائلة، وسط مخاوف من قدرتها على إخضاع الجنس البشري.

لك أن تخمّن إلى جانب من يقف المستثمرون؟

بطريقة ما، شهدت أسهم التقنية في الولايات المتحدة ارتفاعاً يكاد يكون مدفوعاً حصراً بحماسة المستثمرين تجاه الذكاء الاصطناعي. فقد ارتفعت قيمة الشركات المدرجة في مؤشر "ناسداك 100" بأكثر من 4 تريليونات دولار منذ بداية العام، وهذه زيادة سحرية في الإثراء، حتى بالمقارنة مع المعدلات الجنونية التي سُجّلت إبان الوباء.

لقد ارتفع مؤشر "ناسداك" 31% في ما مضى من العام، فيما أسهمت أسهم التقنية أيضاً بصعود مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بحوالي 11%. استقطبت الصناديق التي تركز على التقنية تمويلاً قياسياً من المستثمرين بلغ 8.5 مليار دولار في الأسبوع الأخير من مايو، حسب بيانات "إي بي أف أر غلوبال" (EPFR Global) التي جمعها استراتيجيون في "بنك أوف أميركا".

بعد صفقات بـ83 مليار دولار.. الذكاء الاصطناعي يسحب البساط من الشركات الناشئة

خشية تفويت الفرص

لطالما شكّل الخوف من تفويت الفرص عاملاً مسبباً في تضخيم الفقاعات المالية، منها فقاعة الإنترنت على سبيل المثال أو أسهم الميم أو العملات المشفرة، وتكثر الأمثلة على ذلك في مجال الذكاء الاصطناعي. إلا أن هذا الخوف من تفويت الفرص سيف ذو حدّين.

قال فينسينت ديلوارد، مدير الاستراتيجيات الكلية العالمية في شركة "ستون أكس فاينانشل" (StoneX Financial): "لا أعتقد أن الأمر يتعلق فقط بالخوف من تفويت الفرص، بل أيضاً بالخوف من الاستغناء عن الناس... لسان حالنا هو: سيستولي الذكاء الاصطناعي على العالم وعلى وظيفتي، والطريقة الوحيدة لأتحوّط منه هي أن أمتلك تلك الروبوتات اللعينة".

ساعد الذكاء الاصطناعي في إحداث تحوّل في مشاعر المستثمرين المحبطة بسرعة خاطفة توازي سرعة الارتفاع الذي سجلته الأسهم. قالت الخبيرة الاقتصادية لورين غودوين المتخصصة باستراتيجيات المحافظ في شركة "نيويورك لايف انفستمينت" (New York Life Investments) إن "أسبوع الذكاء الاصطناعي الكبير" جاء في نهاية مايو، حين توقعت شركة "إنفيديا" (Nvidia) مبيعات تجاوزت بأشواط تقديرات المحللين بفضل الطلب على معالجات الذكاء الاصطناعي من إنتاجها، ما دفع بقيمتها السوقية للتحليق إلى قرابة التريليون دولار، في إنجاز نادر.

لقد توقع الرئيس التنفيذي للشركة المتخصصة بصناعة الرقاقات حصول تغييرات شاملة في مراكز البيانات حول العالم من أجل التكيّف مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي "التوليدي"، من بينها "تشات جي بي تي" وغيرها من الأدوات التي تولّد محتوى جديداً مثل النصوص والصور بناءً على أوامر.

مديرو الصناديق يخشون من إهدار فرصة الهوس بالذكاء الاصطناعي

قطاع يتضخم

تُرجّح توقعات بلومبرغ إنتلجنس توسّع سوق الذكاء الاصطناعي التوليدي بأكثر من 40% لتصل قيمتها إلى 1.3 تريليون دولار بحلول 2032. قالت غودوين: "هناك دائماً عنصر ما في سوق تضمّ ملايين الأفكار المثيرة، لكن أرني المال، أرني كيف سيؤثر على سير العمل والتجارة وكيف سيحدث تحولاً فيهما... يمكن للناس أن يروا هذا التأثير الآن".

طغت أرباح الأسهم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي على جميع ما سواها في السوق، إذ سجلت الشركات التي ترتبط ثرواتها عن كثب بالسوق الحقيقية أداءً ضعيفاً نسبياً. فقد حققت أسهم القيمة وأسهم الشركات الصغيرة والمتوسطة مكاسب أقل هذا العام، ما يؤشر إلى استمرار الحذر حيال ارتفاع معدلات الفائدة وتباطؤ النموّ الاقتصادي.

حتى أن أحد مؤشرات "ستاندرد آند بورز"، وهو يوزع أوزان الأسهم بالتساوي بدل أن يثقلّ كفة أسهم التقنية التي يمنحها المستثمرون أصلاً قيمةً أعلى، لم يشهد سوى تحسن طفيف هذا العام. ينطبق الأمر عينه على مؤشر "داو جونز" الصناعي الذي يسعى لتمثيل الشركات الأميركية الكبرى. يعني ذلك أن مكاسب مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" العادي ستتبخر في حال عدم احتساب بعض الأسماء، مثل "إنفيديا" و"مايكروسوفت"، اللتين دمجتا الذكاء الاصطناعي في منتجاتهما.

أدى هذا الهوس بالذكاء الاصطناعي إلى ارتفاع في التقييمات لتبلغ المستويات عينها التي كانت قد تسببت بآلام شديدة للمستثمرين في السابق. مثلاً، ارتفع سعر سهم "إنفيديا" إلى 185 ضعف ربح السهم خلال الأرباع الأربعة الماضية، فيما تبلغ نسبة السعر إلى الأرباح في المعتاد 19 ضعفاً لدى الشركات المشمولة في مؤشر "ستاندرد آند بورز 500". كما يُتداول سهم الشركة بسعر يجعل قيمتها السوقية أعلى بـ37 مرة من مبيعاتها السنوية الأخيرة.

بنوك "وول ستريت" تستخدم الذكاء الاصطناعي لتجديد عالم التمويل

معرفة محدودة

في حالة الشركات العادية، تستدعي نسبة السعر إلى المبيعات البالغة 3 وقفة لدى المحللين لإعادة التفكير. قال سام ستوفال، كبير الاستراتيجيين الاستثماريين في شركة البحوث المالية "سي أف أر أي" (CFRA): "إن كنتم تتذكرون، في بداية عام 2000 كان المستثمرون يتهافتون على أسهم التقنية لأنهم كانوا يتجاهلون أنها تُتداول بواقع 60 مرة أعلى من التقديرات المستقبلية للأرباح... للأسف بالنسبة لأولئك الذين استثمروا، تعيّن عليهم انتظار خمس سنوات حتى عاد مؤشر ناسداك إلى نقطة الانطلاق". صحيح أن الشبكة العنكبوتية غيرت العالم بعد انهيار فقاعة الإنترنت، لكنها لم تكن دائماً الطريق السهل لتحقيق الأموال.

فلنتوقف لبرهة ونفكر بمدى محدودية ما يعرفه المستثمرون أو أي أحد بشكل عام عن الذكاء الاصطناعي وطريقة استخدامه في العالم الحقيقي. يمكن لروبوتات الدردشة المشغلة بالذكاء الاصطناعي أن تجري محادثات مشابهة جداً لأحاديث البشر، لكن الأجوبة التي تعطيها ما تزال تشتهر بأخطاء و"هلوسات" تعج بمعلومات مختلقة.

قال أرت هوغان، كبير استراتجيي السوق لدى شركة "بي. رايلي" لإدارة الثروات: "لا يمكن استخدام تلك النتائج السيئة في الوظائف المهمة... رغم الحماسة العالية قد يستغرق الأمر فترةً أطول ممّا كان يُتوقع في البداية".

موجة بقيادة شركات كبرى

يستمدّ المتفائلون ثقتهم من نضج الشركات التي تقود فورة التقنية هذا العام، ومنها "أبل" و"أمازون" و"ميتا بلاتفورمز" التي تختلف أيما اختلاف عن شركات اليونيكورن غير المدرّة للأرباح التي تصدرت المشهد الحالم خلال الفقاعات السابقة، أما هذه الشركات الكبرى فتمثّل أرستقراطية التجارة الأميركية.

في نهاية التسعينيات، كانت الشركات تُقيّم استناداً إلى عدد الزيارات والنقرات التي يحصدها موقعها الإلكتروني، "وذلك غير منطقي من وجهة نظر اقتصادية"، حسب كريس هارفي، كبير مسؤولي استراتيجيات الأسهم في "ولز فارغو"، الذي مضى يقول: "لكن حين ننظر إلى الشركات التي تعتبر قيادية في مجال الذكاء الاصطناعي، نجد أن لديها ميزانيات جيدة".

الفارق الآخر هو في القدرة الشرائية لعملاء موجة الذكاء الاصطناعي هذه، والذين يجوز وصفهم بأنهم أمناء صناديق عالم المال والأعمال الأميركي. ارتفعت المبالغ النقدية المتوفرة في ميزانيات الشركات خلال فترة الوباء، وما تزال على ارتفاعها.

لقد وصلت المبالغ النقدية وما يوازيها لكافة الشركات على مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" إلى 574 دولاراً للسهم الواحد في الربع الأول من العام، استناداً إلى بيانات جمعتها بلومبرغ. برغم الانخفاض مقارنةً بالذروة التي بلغتها عند 659 دولاراً في نهاية 2021، إلا أنها ما تزال أعلى بحوالي 30% من المستوى المسجل في الربع الرابع من 2019، مباشرة قبل الوباء. يعتقد البعض أن جزءاً من تلك النقود المتراكمة ذهبت لدعم مشاريع الذكاء الاصطناعي.

فجوة بين القطاعات

في غضون ذلك، يُرجح أن يتجاوز الإنفاق الرأسمالي على الذكاء الاصطناعي الحدود التقليدية لقطاع التقنية. قالت جنيفر تشانغ، مديرة المحافظ في شركة "شافر كولن" لإدارة رأس المال إن شركات الرعاية الصحية والصيدلانية تتحدث عن استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي لتقليص الوقت الذي تستغرقه بحوثها.

إلا أن الذكاء الاصطناعي التوليدي لن يأتي بمنفعة متساوية لكافة القطاعات، لأن بعضها غير مستعد للقيام بـ"التغييرات الكبرى" اللازمة، حسب أندرو ماكفي، الباحث في معهد ماساتشوستس للتقنية والمؤسس الشريك لشركة الذكاء الاصطناعي "ووركهيليكس" (Workhelix). قال: "حين تنظر إلى إنفاق الشركات الأميركية على التقنيات الرقمية، ترى أنه يزداد باستمرار، فشهيتنا مفتوحة على الأمور الرقمية"، إلا أن التقنية حسب قوله "لا تساعد على موازنة كفات الأداء، إذ يزداد تباين الأداء في قطاع تلو الآخر اتساعاً أكثر فأكثر بدل أن يضيق".

فيما تحاول الشركات ركوب موجة الذكاء الاصطناعي، على المستثمرين أن يتوقعوا سماع كثير من المغالاة في تبني تسمية "الذكاء الاصطناعي". قال كام هارفي، أستاذ العلوم المالية في جامعة "ديوك" والشريك في شركة إدارة الأموال "ريسيرتش أفيلياتس" (Research Affiliates): "رأينا في السابق كيف تبدأ الشركات بتغيير أسمائها حين يدرج أمر ما، كي تتبنى تسمية جديدة تضيف إليها ما يؤشر على الذكاء الاصطناعي مثلاً، كما تتطرق إليه في مؤتمراتها وعلى مواقعها الإلكترونية وبياناتها الصحفية".

أضاف: "يمكن أن نشهد صعوداً سريعاً جداً، ثمّ انهياراً سريعاً أيضاً، وهذا ليس مجرد كلام، تكفي مراجعة الأمور التي أثارت ضجيجاً في السابق لمعرفة أن هذا ما يحصل بالضبط".