حسابات السوق المعقدة هي سر إخفاق منتقي الأسهم

يصعب تجميع محفظة رابحة في ظل تفوق حفنة من أسهم الشركات الكبرى في الأعوام التي تشبه عامنا هذا

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

دعونا نستعرض مقولتين من أبرز ما جاء بحق قطاع انتقاء الأسهم، الذي لطالما تعرض لانتقادات لاذعة.

أولاهما مفادها أن مديراً واحداً فقط من بين كل ثلاثة مديرين نشطين يمكنه التفوق على صندوق يتتبع مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" برسوم تشغيل لا تُذكر. والثانية هي: يتمتع المديرون النشطون عموماً بمهارة استثمارية بيّنة.

قال هيندريك بسيمبايندر، أستاذ التمويل بجامعة ولاية أريزونا الذي قلبت أبحاثه كثيراً من الأفكار التقليدية في قطاع الاستثمار رأساً على عقب، أن كلا المقولتين صحيح.

شرح كيف يمكن أن يكون ذلك جاء في بحث من بسيمبايندر جعل منه أكاديمياً مثيراً للجدل في أحد أكثر نقاشات "وول ستريت" إشكاليةً. من وجهة نظر أستاذ التمويل، فإن الحجة المقامة ضد استراتيجية الإدارة سالفة الذكر لا علاقة لها بالتلميح بأن هؤلاء المستثمرين المحترفين، وهم الأعلى أجراً في العالم، أشبه بقرود معصوبي العينين يرمون السهام جزافاً، أو بهررة تتلمس ما حولها أياً كان.

قال بسيمبايندر إن رياضيات السوق الغامضة هي ما يفضي لإخفاق غالبية منتقي الأسهم؛ مشيراً إلى مفهوم إحصائي يُعرف بالانحراف، وقد تجلى ذلك بوضوح هذا العام.

تابع بسيمبايندر الذي تحدث من مكتبه في كلية دبليو. بي كاري لإدارة الأعمال في مدينة تمبي بولاية أريزونا: "تصعب المحاججة بأن مديري الصناديق أغبياء بصورة منهجية."

تتعلق أشهر النتائج التي توصل إليها بطبيعة غير متوازنة لتوزع عوائد السوق، حيث شكلت مكاسبا 72 شركة فقط نصف صافي الثروة الناشئة عن الأسهم مقارنةً مع سندات الخزانة منذ 1926. بعبارة أخرى، فإن ضيق السوق، الذي لطالما كان موضع تسخط، هو أحد سمات قطاع الاستثمار خلال السنوات الأخيرة، ويظهر بازدهار أسهم شركات عملاقة تهيمن على أسواقها.

من أمثلة ذلك مجموعات الشركات التي تُعرف بجمع الأحرف الأولى من أسماء مفرداتها، ومنها "FANG" التي تضم "فيسبوك" (Facebook) و"أمازون" (Amazon) و"نتفليكس" (Netflix) و"غوغل" (Google)، وحزمة (FAANG) التي تضم الشركات السابقة إضافةً إلى "أبل"، فيما تزيد مجموعة (FAATMAN) عنهما بإضافة "تسلا" (Tesla) و"مايكروسوفت" (Microsoft).

هيندريك بيسيمبايندر
هيندريك بيسيمبايندر المصدر: بلومبرغ

طبيعة متأصلة

يُعزى ضيق السوق المقترن بازدهار عمالقة التقنية إلى مفهوم "الانحراف"، وهو مصطلح يشير إلى ظهور قيم متطرفة كبيرة في توزع العوائد. يجلب الانحراف مشكلة يكاد يستحيل على معظم مديري صناديق الاستثمار المشتركة تجاوزها، فهو يخلق ما يشبه الشح غير عدد الأسهم الرابحة التي يمكن أن يقوم عليها الأداء المتفوق.

من ثم، يؤدي فشل معظم الأسهم في تلبية المعايير القياسية إلى إخفاق الصناديق التي تحوزها في تلبية المعايير ذاتها. قال بسيمبايندر: "الانحراف طبيعة متأصلة في الأسواق، وعندما يحدث ستكون غالبية النتائج دون وسطيها".

تجلى أثر الانحراف بشكل كبير في 2023، حتى فيما اعتادت السوق على هيمنة شركات التقنية الكبرى منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية. كانت أسهم أكبر 20 شركة قد ساهمت في تضخيم عائدات مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" على مدى أكثر من عقدين، حسبما يقول استراتيجيو بنك "جيه بي مورغان تشيس أند كو".

فيما أظهرت بيانات جمعتها بلومبرغ أن نحو 70% من أسهم الشركات المدرجة في مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" جاءت متأخرة عنه خلال النصف الأول من هذا العام، وهي النسبة الأكثر انخفاضاً على مدى ستة أشهر منذ 1999.

أدى شح الأسهم الرابحة هذا العام، والذي عادةً ما يُنسب إلى قلة الشركات المستفيدة من طفرة الذكاء الاصطناعي، إلى موسم شحيح بالنسبة للصناديق الرابحة كما قد يتوقع المرء. كتبت سافيتا سوبرامانيان، الخبيرة الاستراتيجية لدى "بنك أوف أميركا"، في مذكرة في أغسطس، أن 36% فقط من صناديق الاستثمار المشتركة الأميركية التي تستثمر في الأسهم القيادية تفوقت على مؤشراتها خلال يوليو.

تداعيات "الانحراف"

هناك أيضاً بعض الأدلة على هذا الارتباط، وفقاً لأبحاث أجرتها شركة "ستاندرد أند بورز غلوبال" على مدى عقدين. فقد تفوق المديرون النشطون على المؤشرات خلال السنوات التي تخلفت فيها الأسهم القيادية عن أداء المؤشر. استبعد كريغ لازارا، رئيس "إس أند بي داو جونز "التنفيذي" زيادة معظم المديرين لحيازاتهم من الأسهم القيادية... إذ تميل معظم المحافظ النشطة لأن تكون أقرب بكثير لتساوي مكوناتها من حيث الوزن".

يُظهر بحث جديد أعده بسيمبايندر بمشاركة مايكل كوبر من جامعة يوتا وفانغ تشانغ من جامعة ساوثرن ميثوديست مدى انتشار هذا التأثير بمرور الوقت. فقد وجد الثلاثي أن 41% فقط من إجمالي 7883 صندوقاً مشتركاً أميركياً منذ 1991 تفوق على صندوق مؤشر "إس أند بي 500" في كل عام ميلادي منذئذ.

بينما لم يحقق ذلك سوى 30% فقط من الصناديق المشتركة على مدى العقود الثلاثة، حسبما كتب الأكاديميون في بحث عنوانه ​​"أداء صناديق الاستثمار المشتركة على المدى الطويل" ونشر في نشرة "جورنال أوف فاينانشال إيكونوميكس" (Journal of Financial Economics). تُعد تلك النسب أعلى من المعدلات المعلنة عادةً لأن البحث يقارن الصناديق النشطة بصناديق المؤشرات الفعلية، التي تتكبد تكاليف ونفقات تداول، وليست مؤشرات نظرية.

هبوط أسهم التقنية يخفي طفرة هائلة لـ"ستاندرد آند بورز 500"

قد يكون التفسير التقليدي لهذه البيانات هو أن انتقاء الأسهم خدعة، وأن ادعاء امتلاك مهارات استثمارية خاصة على الأرجح مجرد وهم. بالتالي، يعزز بحث بسيمبايندر حجة الإدارة السلبية، خاصة في ظل ما تتقاضاه من أتعاب، ما يجعل امتلاك حصص في صندوق مؤشر يبدو رهاناً أفضل من أي وقت مضى. غير أن البحث لا يثبت أن مديري صناديق الاستثمار المشتركة يعملون عشوائياً، فكما تبرز قلة من الأسهم فترفع من أداء المؤشرات بشدة، يحدث الأمر ذاته في قطاع إدارة الأموال.

مكاسب مطلقة

يظهر بحث بسيمبايندر الأداء الإجمالي لجميع صناديق الاستثمار المشتركة مقارنةً بصندوق مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" المتداول في البورصة مع مرور الوقت. وفقاً لحساباته، فقد حققت صناديق الأسهم الخاضعة للإدارة النشطة عائدات بلغت 294% على مدى تاريخها، وهو ما يعادل عائدات "مؤشر ستاندرد أند بورز 500" تقريباً، فيما سجل أوسطها ​​95% فقط.

بمعنى آخر، جنى العمالقة غالبية الأرباح، حيث حقق 442 صندوقاً من عينة البحث برمتها عوائد تجاوزت ضعف عائدات مؤشر "سباي" (SPY)، فيما جنى 160 صندوقاً ثلاثة أضعاف ذلك. لقد سجلت الصناديق سالفة الذكر أرباحاً قبل احتساب الأتعاب، وهي طريقة أنقى لقياس المهارة، بلغت 394% في المتوسط.

تبدو النتائج معقولة في بعض جوانبها، ذلك أن قطاع الصناديق نشطة الإدارة ضخم بما يكفي لامتلاك جميع الأسهم، ومن المنطقي أن يقترب أداؤها من أداء السوق نفسها. كما يخلق عدم عدالة توزيع الأرباح بين مديري الصناديق بفعل قوانين الانحراف خلفية اقتصادية تجعل السخرية من مستثمري الأسهم عالية القيمة أمراً سهلاً لأنهم لا يستطيعون مجاراة مؤشر متحيز منهجياً.

قال بسيمبايندر: "بمجرد أن تتبين أن العوائد على المدى الطويل تظهر انحرافاً، ستدرك أن الاتجاه الصعودي أكبر بكثير مما كنت ستعتقده لولا ذلك... هذا ما يجد فيه جزء من المديرين النشطين مصدر إلهام".

كان الانحراف في 2018 الذي رصدته الورقة البحثية المؤثرة خطير جداً، كونه يمتد على اتساع السوق الأميركية بأسرها على مدى عقود عديدة. في حين وصف البعض الاستنتاجات التي خلص إليها بسيمبايندر بأنها تهويل للواقع، إلا أنها أكسبته داعمين مهمين أيضاً. فقد عينت شركة "بايلي غيفورد" (Baillie Gifford) الأسكتلندية، التي تدير 293 مليار دولار، أستاذ التمويل البارز كمستشار بعد نشر بحثه، الذي يقول إنه دعم غريزة فهم السوق لدى الشركة للقيام برهانات كبيرة.

تركز السوق

في الاقتصاد المعاصر، قد يكون مرد الانحراف إلى طبيعة القطاعات المهيمنة مثل التقنية التي تقضي بأن الفائز يستأثر بجميع المكاسب. أخذاً بهذا المنطق قد يصبح تركز السوق، ومن ثم العقبة التي تواجه منتقي الأسهم، أسوأ حسبما استنتج بسيمبايندر خلال السنين الأخيرة.

"وول ستريت" تريد أن تبيع مؤشراً خاصاً.. لك وحدك

غير أن تركز السوق يرجع كذلك جزئياً إلى التأثيرات الحسابية المملة للتقلبات على المدى البعيد. على سبيل المثال، إذا ارتفع سعر سهم (أو حصة في صندوق) 10% في شهر ثم انخفض 10%، فإنه لا يزال منخفضاً بنسبة 1%. وإذا انخفض بواقع 10% ثم ارتفع بنفس القدر، فهو قد انخفض 1% أيضاً. بينما لو تقدم السهم 10% لشهرين متتاليين، فهو قد ارتفع بواقع 21%. لذا يميل الرابحون لتمديد فترات التقدم بمرور الوقت.

أحصى عالما البيانات المالية، ماكسيم وفلاديمير ماركوف، مدى اعتماد أسواق الأسهم العالمية على أكبر الرابحين فيها يين 2006 و2021، ووجدا أن مؤشرات الأسهم الصغيرة كانت أكثر اعتماداً على الرابحات فيها مقارنةً بمؤشرات الشركات الكبرى، خاصة في قطاع التقنية وبفارق كبير عن القطاعات الأخرى.

كما أظهر مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" انحرافاً أكبر مقارنةً بمؤشرات الشركات الكبرى الأوروبية واليابانية، وفقاً لما خلص إليه بحث عالمي البيانات المالية الذي كان مشروعاً خاصاً لهما نشراه عبر الإنترنت هذا العام. يعمل فلاديمير ماركوف لدى "بلومبرغ"، مالكة مجلة "بلومبرغ بيزنس ويك".

يعتقد لازارا من "ستاندرد أند بورز" أن هذا النوع من الرياضيات يجعل المديرين النشطين أفضل حالاً حين يستثمرون في محفظة شاملة تتجنب نحو خمسين من الأسماء الأقل تفضيلاً لديهم بدلاً من المراهنة على الأسماء الخمسين التي يفضلونها عما سواها.

يتفق مارتين كريمرز، أستاذ المالية بجامعة "نوتردام" الذي قدم استشارات للمديرين النشطين، مع النتائج التي توصل إليها بيسمبايندر. قال: "ستكون نسبة صغيرة فقط من الأصول وراء معظم الأداء المتفوق. وهذا يعني أنه عليك أن تكون أكثر تركيزاً حتى تكون ناجحاً كمدير نشط في تلك البيئة... كما يتطلب الأمر مزيداً من الشجاعة واليقين".