الأسرار الصناعية لن تبقى مخفية إلى الأبد

التقدم الذي حققته شركة هواوي في مجال أشباه الموصلات هو مجرد جزء من تاريخ طويل من انتشار أو سرقة الملكية الفكرية

معالج "كيرين 9000" الصيني الذي صنّعته شركة "سيميكوندوكتور مانيوفاكتشرينغ إنترناشيونال" الصينية
معالج "كيرين 9000" الصيني الذي صنّعته شركة "سيميكوندوكتور مانيوفاكتشرينغ إنترناشيونال" الصينية المصدر: بلومبرغ
Howard Chua-Eoan
Howard Chua-Eoan

Senior Columnist @opinion covering the nexus of business and culture. Ex News Director of Time magazine.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يبدو أن الصين أنتجت معالجاً يضاهي بعض أكثر أشباه المواصلات الغربية تطوراً. وبينما قد ينزعج الخبراء العسكريون ومؤيدو العقوبات في الولايات المتحدة من ذلك، لا يجب أن يمثل التطور مفاجأة كبيرة. فالاحتفاظ بالأسرار الصناعية لفترة طويلة أمر مستحيل، حيث عرف الصينيون أنفسهم قبل ألف عام ما نطلق عليه حالياً خسارة حقوق الملكية الفكرية عبر التجارة والسرقة والحرب، فلا يملك أحد حق فرض الاحتكار على الابتكار.

التقدم المُحرز في التكافؤ التقني مع الغرب انكشف في عملية تفكيك - أجريت لصالح "بلومبرغ" - لأحدث هاتف ذكي أطلقته "هواوي تكنولوجيز" يستخدم رقاقة أنتجتها شركة "سيميكوندوكتور مانيوفاكتشرينغ إنترناشيونال"، ومقرها في شنغهاي. ما يزال مُعالج "كيرين 9000" (Kirin 9000) متأخراً بجيلين عن أكثر منتجات الغرب تطوراً. فمع سمكه البالغ 7 نانومترات، قريباً سيتفوق عليه المعالج الأكثر نحافة بسمك 3 نانومترات الذي ستستخدمه شركة "أبل" في هاتف "أيفون" المقبل. مع ذلك، يعكس ذلك اختراقاً يتيح تسرب الدراية الفنية عبر العقوبات الأميركية الصارمة.

طريق "الحرير"

يحفل التاريخ بأمثلة على انتشار التكنولوجيا رغم محاولات الحكومات احتكارها، في الأغلب للإضرار بالصين، فقد طوّر الصينيون إنتاج الحرير من دودة القز قبل آلاف السنين، وتمكنوا من حماية سر تحويل اليرقات إلى قماش لمئات السنين، لكن حكام الصين احتاجوا إلى خيول آسيا الوسطى لشن الحروب وإحكام السيطرة على أرضهم (كما شرحت جيسيكا راوسون في كتابها الذي يعد مرجعاً "الحياة الدنيا والآخرة في الصين القديمة" (Life and Afterlife in Ancient China)، لم تحتو تربة وادي النهر الأصفر على قدر كافٍ من عنصر السيلينيوم اللازم لقوة عظام وعضلات سلالات الخيول المعدة للحروب). لذلك؛ قايضوا الحرير بالحيوانات المناسبة، وسرعان ما خلقوا طلباً على النسيج خارج البلاد، ونظراً لأن الحرير كان عاملاً أساسياً لتلبية احتياجات الصين العسكرية من الخيول، حُفظت أسراره بحزم وشدة، وكانت عقوبة كسر هذه القيود تصل إلى الإعدام.

الهواتف الذكية والحوسبة ترفع مبيعات "هواوي" المعاقبة أميركياً

رغم ذلك، أدت مكاسب التجارة إلى نقل الخام إلى الغرب براً وبحراً عبر ما يعرف باسم "طريق الحرير"، لينتج عنها أول عجز تجاري في العالم. يشير أحد التقديرات إلى أن الإمبراطورية الرومانية أنفقت ما يعادل 1% من ناتجها المحلي الإجمالي على النسيج. وهناك اعتقاد سائد أن الاحتكار الصيني للحرير انتهى على يد الإمبراطور البيزنطي جستينيان الأول في القرن السادس، عندما هرّب راهبان نسطوريان معهما بيض دودة القز في صناديق من الخيزران، فضلاً عن شتلات التوت التي تتغذى عليها. لكني أشك أن التجار كانوا قد جلبوا المعرفة بتربية دود القز إلى الغرب قبلها بكثير، فتلك الأمور تتسرب. وبذلك، حدثت الطفرة في إنتاج الحرير عندما جعله جستينيان جزءاً من سياسته الصناعية. فأتقن البيزنطيون إنتاجه.

كشف أسرار الورق والخزف والشاي

انتهى احتكار الصين لصناعة الورق بوتيرة أسرع كثيراً- في 6 قرون فقط- لكن بشكل أكبر، بعدما خسر جيش الإمبراطور معركة في آسيا الوسطى أمام جيش الخلافة العباسية المتوسع. كان من ضمن أسرى الحرب جنود من صُناع الورق، نقلوا أسرارهم إلى الشرق الأوسط، ومنها انتشرت إلى الغرب. (يلف غموض أكبر بأصل استخدام البارود في الأغراض العسكرية والأسلحة النارية، لكن ربما انتقلت التقنية غرباً عبر ذات الطرق المارة في آسيا الوسطى).

أطلق الخزف شرارة ثورة في الصحة والنظافة نظراً لسهولة تنظيفه، وكان مطلوباً بشدة خارج العالم الصيني، لدرجة أن اسم الصين أصبح مرادفاً للأدوات الصحية والأواني. منذ القرن الثاني عشر، استغل الأباطرة الصينيون الخزف كما استغلوا الحرير، لكسب نفوذ على الدول المجاورة التي رغبوا في صداقتها، سواء لأسباب تتعلق بالمكانة أو السياسة. في غضون ذلك، باع التجار صحوناً وأواني مصممة لأسواق محددة في العالم الإسلامي وأوروبا. وفي القرن الثامن عشر فقط، تمكنت مصانع في مدينتي مايسن الألمانية وليموج الفرنسية من تحديد نوع الطمي المطلوب واكتشاف تقنيات الحرق اللازمة لإنتاج الخزف الصحيح.

الصين تسعى لتوسيع حظر استخدام "أيفون" في الشركات والوكالات الحكومية

قصة الشاي معروفة بشكل أكبر، لكنها مليئة ببقايا الاستياء الجيوسياسي إلى يومنا هذا. كما حدث مع الرومان، واجه البريطانيون عجزاً تجارياً هائلاً نظراً لهيمنة الصين على منتج واحد، في هذه القصة هو الشاي. فضلاً عن ذلك، لم يشعر الأباطرة في بكين بالحاجة إلى تحرير سياساتهم التجارية لتهدئة المخاوف الأجنبية، وهكذا قرر البريطانيون تصحيح اختلال العجز التجاري وحل الأزمة بتهريب الأفيون -مادة مخدرة ممنوعة- إلى الصين، وغيّر ذلك المعادلة التجارية على الفور، فأدت الاعتراضات الصينية إلى شن بريطانيا حربي أفيون، بدءاً من 1838، لفتح أبواب البلد باسم التجارة الحرة، وبنهاية القرن، أدت آثار الإذلال والركود المحتومة إلى سقوط حكم عائلة تشينغ.

العقوبات لن تمنع انتقال التكنولوجيا

لذا تدخل الصين سباق أشباه الموصلات بكثير من الغضب الناجم عن إرث من الإجحاف والظلم (بحقها)، ولن تجدي المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة. ويفضل الوطنيون الصينيون الإشارة إلى أن الدولة تعين عليها اكتشاف طريقها إلى تكنولوجيا الحرب الذرية للتغلب على احتكار واشنطن وموسكو المشترك للقنبلة الذرية. في الفترة الحالية، يُنظر إلى هيمنة إدارة بايدن على أشباه الموصلات على أنها أحدث محاولات الغرب لوقف مسار الصين المُقدر لها بلوغ الريادة والانفراد بها. فتفاقم غضب بكين نتيجة لمحاولاتها غير الصائبة التي امتدت لألف عام لتحقيق الاكتفاء الذاتي، كما لو كانت "المملكة الوسطى" (اسم الصين بلغة الماندرين) ستنجح دون بقية دول العالم.

قد لا تتمكن الصين بعد من إنتاج رقاقات متطورة بكميات كبيرة، ولا صنع أشباه الموصلات الأحدث التي يستخدمها الغرب في المنتجات الاستهلاكية. ومجدداً، لن نندهش إذا تمكن الصينيون من إتقان صنعها، لا سيما بعدما جمعت الحكومة تمويلاً قيمته 40 مليار دولار لدعم صناعة الرقائق المحلية، حسب وكالة "رويترز". وتستطيع الولايات المتحدة دوماً تشديد نظم عقوباتها وتعزيز إجراءات الحماية لإبطاء وتيرة انتشار التكنولوجيا، لكن ستكشف التجارة- كعادتها - عن أسرار هذه التكنولوجيا.