هل تبيع بياناتك البيومترية بـ50 دولاراً؟

مبتكر "ChatGPT" يحصل على البيانات عبر جهاز "The Orb" مقابل عملة "ورلد كوين"

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في مكتب صغير داخل مركز دبي المالي العالمي، يصطف 8 أشخاص أمام جهاز كروي لامع. من يأتي دوره، يقف ثابتاً أمام جهاز يُسمى "The Orb"، أو الكرة. داخل الكرة عدد ضخم من أجهزة الاستشعار القادرة على التعرف على الوجوه البشرية في درجات إضاءة مختلفة، وماسح ضوئي لقرنية العين.

تمسح الكرة أعين المتقدمين، وتحتفظ ببصمتها في قاعدة بيانات خاصة، وفي المقابل تمنح كل متقدم عملة مشفرة تُسمى "ورلد كوين" (world coin)، أو عملة العالم، قيمتها 50 دولاراً تقريباً.

في الطابور، موظفون يرتدون القمصان الزرقاء والبناطيل الرمادية، وعمال من شرق آسيا لا يتقنون الإنجليزية، وبينهم سيدة آسيوية شديدة الأناقة، تحمل حقيبة من ماركة شهيرة قد يصل ثمن الواحدة منها راتب العمال الثلاثة وراءها.

الكل متساوٍ أمام سطوة الكرة المصمتة، التي تمسح أعين الجميع دون أن تميز أحدهم بمعاملة خاصة وتوزع القدر نفسه من الأموال عليهم. لا يحدث ذلك في دبي فقط، بل في 35 مدينة حول العالم، تنتشر فيها كرات الأورب"، ويصطف أمامها عرب وأميركيون وأوروبيون وآسيويون يحلمون جميعاً بمستقبل سيكون فيه عملة واحدة عابرة للحدود السياسية والإثنية والجغرافية، يقبلها العالم أجمع، دون أن تسيطر عليها حكومة واحدة.

أحلام سام ألتمان

بين عشية وضحاها، صار رائد الأعمال الأميركي سام ألتمان في قائمة الأكثر تأثيراً وشهرة حول العالم. بعد النجاح الباهر الذي حققته شركته "Open AI" في ابتكار نموذج الذكاء الاصطناعي الأشهر "ChatGPT"، أصبح من العادي رؤية المبتكر الثلاثيني برفقة قادة الدول وكبار السياسيين ورجال الأعمال حول العالم، إذ يهتم الجميع بفهم نظرته للمستقبل، وتأثير الذكاء الاصطناعي على العمل والسياسة والاقتصاد وكافة مناحي الحياة.

مشروع ورلد كوين هو من ابتكار شركة "تولز فور هيومانيتي" التي شارك ألتمان في تأسيسها أيضاً. هي ليست بنفس شهرة "Open AI"، لكنها بالتأكيد أكثر تعبيراً عن أيديولوجية ألتمان وسياسته. خلال حوار حديث مع بودكاست "بانكليس" المتخصص في الكريبتو، يشرح ألتمان الفكرة وراء مشروعه.

كان ألتمان يفكر بعمله في مجال الذكاء الاصطناعي، والمستقبل الذي سيشهد اعتماداً متزايداً عليه، مما قد يلغي الحاجة للعديد من الوظائف. لذا، أصبح ألتمان مقتنعاً بفكرة الدخل الأساسي الشامل، أي إعطاء كافة الناس مبالغ متساوية دورياً، لسد احتياجهم الرئيسية، بعد أن تصل البشرية لمرحلة الرفاهية والاستغناء عن الحاجة للعمل.

لتحقيق هذا الهدف كان أمام ألتمان عدد من التحديات. أولها كيف يمكن بناء منظومة عالمية دون أن تكون خاضعة لحكومة أو جهة مركزية واحدة. وثانيها، كيف يمكن التأكد من أن كل فرد في هذه المنظومة هو شخص حقيقي موجود، وليس محتالاً يسيطر على حسابات عدة، أو حتى ذكاء اصطناعي متنكر ويزعم أنه بشر.

اقرأ أيضاً: سام ألتمان يطلق عملته المشفرة "وورلد كوين"

جهاز "The Orb" أمام أحد البحيرات في أوساكا اليابانية
جهاز "The Orb" أمام أحد البحيرات في أوساكا اليابانية المصدر: حساب "ورلد كوين" على "إكس"

مواجهة التحديات

لمواجهة التحدي الأول، قرر ألتمان تأسيس ما يصفه بأكبر شبكة مالية عالمية بتقنية بلوكتشين، التي ستضمن شفافية البيانات، وعدم القدرة على التلاعب بها بالحذف أو التعديل. وبعد الاستعانة بشركاء متخصصين في العملات المشفرة، درست "تولز أوف هيومانيتي" وسائل متعددة للتأكد من هوية المتقدم للتسجيل فيها. وبعد عدة اختبارات تقنية، وجدت الشركة أن بصمة العين هي الوسيلة الأسهل والأضمن والأكثر دقة للتأكد من هوية كل متقدم.

بحسب الموقع الرسمي للشركة، ورلد كوين هي عملة رقمية على شبكة الإيثريوم، تصدرها الشركة دون الحاجة لتعدين. يبلغ الحد الأقصى للمعروض منها 10 مليارات عملة. تقول الشركة إنها خصصت 143 مليوناً منها للتوزيع على المستخدمين الأوائل، حيث منحت الشركة عملات بقيمة 50 دولار تقريباً مقابل بصمة العين، لحث الناس على التسجيل.

أُطلقت ورلد كوين رسمياً في يوليو الماضي، وتضم قاعدة بياناتها الآن أكثر من مليوني مستخدم حسب الموقع الرسمي، من ضمن 3 مليارات مستخدم تستهدفهم. تستضيف دبي جهازي أورب من خلال شراكة بين "ورلد كوين" و"كريبتو أواسيس فينتشرز"، التي قالت لـ"الشرق" إنها اجتذبت أكثر من ألف مسجل منذ إطلاق المشروع.

استباق المستقبل

ليس كل الواقفين في الصف أمام جهاز "الأورب" في دبي يعرفون كل هذه المعلومات بالضرورة.

يتحدث أحد العمال نيابة عن عدد من أصدقائه الذين لا يجيدون الإنجليزية قائلاً إنهم سمعوا عن المشروع على منصة "إكس"، "تويتر" سابقاً، وإنهم مهتمون "بتداول العملات المشفرة"، الأمر الذي يترقبونه كونهم سيحصلون على عملات مشفرة تعادل قيمتها نحو 50 دولاراً بعد التسجيل، ولربما يجنون بعض الأموال الإضافية.

يبدو العمال في حيرة من أمرهم، إذ إنهم ليسوا متأكدين من الخطوات الصحيحة لتسجيل بصماتهم، وحين اكتشفوا أخيراً أنهم في حاجة لتنزيل تطبيق هاتف خاص، تنحوا جانباً لحين تنزيله وتحديث بياناتهم.

أضاف: "هذا المشروع يبدو أنه سيكون مهماً في المستقبل، إيلون ماسك قال ذلك، حتماً سيكون مهماً".

لم يقل إيلون ماسك ذلك، ولكن الإنترنت مليء بالمعلومات المزيفة، ومع ذلك لا ينطبق هذا على البسطاء فقط، ففي مقدمة الطابور، تنشغل سيدة سنغافورية أنيقة مع زوجها بتسجيل بياناتهم على تطبيق المحمول المرتبط بالأورب، تمهيداً لمسح أعينهم. لا يبدو من ملابسها التي تحمل بصمات دور أزياء شهيرة أن الخمسين دولاراً هي هدفها الرئيسي. تعرّف السيدة نفسها بأنها مستثمرة في عدد من شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وتقول إنها تقف في هذا الطابور "لتأمين مستقبلي".

توضح وجهة نظرها: "في المستقبل، سيستولي الذكاء الاصطناعي على العديد من وظائفنا الحالية. 80% من الوظائف التي نشهدها اليوم ستتلاشى، وسيتطلب علينا نحن الذين نعيش الواقع الحالي التأقلم مع شح الوظائف، وربما حتى مع البطالة، لهذا السبب يهمني التسجيل في هذا المشروع لأن الحكومات في المستقبل ستحتاج وسيلة تسمح لها بتوزيع دخل أساسي شامل، وورلد كوين ستمكّن ذلك من خلال هويتها الرقمية".

اقرأ أيضاً: "بينانس" تعتزم إطلاق عملات مستقرة في اليابان

صيحة جديدة

يقول صقر عريقات، الشريك المؤسس في "كريبتو أويسس فينتشرز" إن شركته شهدت تدفق جميع شرائح المجتمع للتسجيل بالهوية الرقمية، "من العمال إلى الموظفين ومؤسسي الشركات وصناديق الاستثمارات، بعضهم ممن كان يعرف كل ما يجب معرفته عن مشروع ورلد كوين، والبعض الآخر ممن لم تكن لديه أي فكرة واضحة غير أنها صيحة جديدة يجب تجريبها، أو جهاز غريب أثار اهتمامهم".

يعتقد عريقات أن اختيار المدينة كوجهة للمشروع بين مدن قليلة حول العالم، والمدينة الوحيدة في الشرق الأوسط، يتعلق بمدى تقبل دولة الإمارات لاعتماد التقنيات والابتكارات الجديدة، وجاهزيتها في خلق بيئة تستقطب كل الشركات الجديدة والمبتكرة.

أشار إلى أن "الإمارات تدرك أن هذه التقنيات الصاعدة ستغير كل عالمنا بشكل كبير، ولهذا تحرص على جذبها واستقطابها. كما أن الإمارات تحرص على العمل على بناء تشريعات مخصصة لهذه التقنيات الجديدة بهدف توفير بيئة خلاقة تسهل وتوضح عمل هذه الشركات والتقنيات".

حقل ألغام

في حين تفتح دبي أبوابها لورلد كوين، فإن دولاً حول العالم لا تسمح بتداولها على الإطلاق. وفي أغسطس الماضي، أوقفت الحكومة الكينية عمليات شركة "تولز أوف هيومانيتي" لتوزيع العملة في البلاد، متعللة بانعدام الوضوح بشأن استخدام الشركة لبيانات مواطنيها، وتخوفها من سيطرة شركة واحدة على كم كبير من المعلومات دون توضيح معايير الأمن السيبراني لحمايتها من التسرب.

تؤكد الشركة أن آلية التعرف على هوية المستخدمين منفصلة كلياً عن محافظ عملاتهم المشفرة ولا يمكن للشركة التحكم فيها، كما أن خطة الشركة هي أن تصبح قاعدة بيانات الهويات مستقبلاً لامركزية، ولا قدرة لأحد على التحكم أو التلاعب فيها.

رغم ذلك، تواجه ورلد كوين اتهامات متكررة بأنها تستهدف الدول الأكثر فقراً، وأنها تجمع الكثير من المعلومات عن المستخدمين دون أن تفضح عن ذلك، وتقلل من مخاطر الاحتفاظ بكل هذه البيانات الحيوية في مكان واحد. وتتعرض العملة لانتقادات حتى من بعض أكثر المؤمنين بالعملات الرقمية وتقنيات بلوكتشين.

"فكرة إعطاء بصمة عيني لشركة خاصة ليس عليها رقابة تجعلني أتردد في المشاركة"، بحسب جواد أشرف، المدير التنفيذي لشركة "فيرتشوا" المتخصصة في ألعاب بلوكتشين وتقنيات الميتافيرس. أضاف في حديثه لـ"الشرق" أن عملية جمع المعلومات التي تنفذها "ورلد كوين" هي "حقل ألغام للخصوصية"، وأن الكثير من الذين يتطوعون بمسح أعينهم هم من الفئات الأكثر تعرضاً للاستغلال، ولا يعرفون حقاً ما هي مخاطر إعطاء مثل هذه البيانات.

على الجانب الآخر، يقول أحمد غيبة، أحد المسجلين في قاعدة بيانات ورلد كوين من دبي، إنه لا يشعر بالقلق على خصوصيته، وإن هناك شركات أخرى بالفعل لديها الكثير من معلوماته البيومترية.

"أبل مثلا لديها بصمة وجهي والعديد من المعلومات عني، ولم يسبق أن تعرضت لمشكلة بسبب ذلك"، حسب وصفه.

إلا أن جواد يرى أن هناك دولاً بالفعل، مثل فنلندا، نجحت في تجارب منح مواطنيها دخلاً أساسياً شاملاً دون الحاجة لكل التعقيدات التقنية، ومسح أعين المستخدمين، واستخدام بلوكتشين. أضاف: "المعلومات التي يجمعونها شخصية جداً وحساسة جداً لدرجة أن أي اختراق لهم سينتج عنه كوارث لا يمكن توقعها".

في حواره مع بودكاست "بانكليس"، يقول سام ألتمان إن عملة ورلد كوين تجتذب من يحبونها بشدة، ومن يكرهونها بشدة، وأنه يتفهم أوجه الانتقاد. ولم ترد "تولز فور هيومانيتي" على أسئلة "الشرق"، مكتفية برد صغير أنها "أسئلة هامة مبنية على معلومات مضللة". بينما تستمر الشركة في العلن تأكيد شرعيتها، تشدد على أنها لن تسيء استخدام هذه البيانات، وأنها تأمل أن تستخدم حكومات العالم هذه المنظومة مستقبلاً في توزيع دخل أساسي شامل لشعوبها.

لا أحد يستطيع التنبؤ بمستقبل ورلد كوين، أو مدى نجاح رؤية سام ألتمان للعالم. الأكيد سعر العملة انهار سريعاً من نحو 3 دولارات تقريباً وقت طرحها، إلى قرابة دولار ونصف في سبتمبر الحالي، في حين لا تتجاوز قيمتها السوقية 200 مليون دولار. الأكيد أيضاً أن مشروع ألتمان يثير تساؤلات سياسية واقتصادية بشأن الخصوصية ودور القطاع الخاص ومستقبل العملات المشفرة ستظل مثيرة للجدل، يتجاوز ورلد كوين نفسها.