هيمنة الدولار تلاحق إندونيسيا.. فمن التالي؟

جاكرتا أرادت أن تصدم جحافل المضاربين على هبوط الروبية فأظهر البنك المركزي مدى انحسار خياراته

فصل السياسة النقدية في آسيا عن نظيرتها الأميركية خطأ كبير في ظل هيمنة الدولار
فصل السياسة النقدية في آسيا عن نظيرتها الأميركية خطأ كبير في ظل هيمنة الدولار المصدر: بلومبرغ
Daniel Moss
Daniel Moss

Daniel Moss is a Bloomberg Opinion columnist covering Asian economies. Previously he was executive editor of Bloomberg News for global economics, and has led teams in Asia, Europe and North America.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

ودعت الأنظمة المصرفية سياسة مد يد العون لتحل محلها سياسة العلاج بالصدمة، إذ بدأت البنوك المركزية في آسيا تركن إلى إجراءات التشديد لدعم العملات المتعثرة. يعني هذا التخلي عن الكلمات المختارة بعناية لتفيد الحذر من دون إرغام المسؤولين على اتخاذ خطوات أكثر جذرية من شأنها معاقبة المضاربين على انخفاض قيمة العملات وإلحاق الضرر بالاقتصادات. غير أن تلك الأخيرة بحاجة إلى سياسات أكثر حدة في الوقت الحالي.

أطاحت قوة الدولار المتصاعدة بتوقعات انتهاء العام على نحو جيد بالنسبة للأسواق الناشئة، لكن الخطر الأكبر يكمن في عدم استجابة الحكومات بشكلٍ كافٍ، فالسماح بإضعاف العملات أكثر مما ينبغي قد يُعرض الاستقرار المالي للخطر، ويُغذي التضخم.

إندونيسيا فهمت الرسالة. وربما كان المغزى من الزيادة المباغتة في سعر الفائدة محلياً في 19 أكتوبر الماضي، هو حدوثها من الأساس. غير أن زيادة واحدة لن تدفع أكبر اقتصاد في جنوب شرقي آسيا إلى الركود. ولسوء حظ جاكرتا، لن تتمخض زيادة سعر الفائدة عن ارتفاع مستدام في قيمة الروبية.

اقرأ أيضاً: قوة الدولار تبقي رفع الفائدة على طاولة بنوك آسيا المركزية

لذا، أخذت السلطات الإندونيسية في 23 أكتوبر الماضي، إجراءات جدية لإبطاء انخفاض قيمة العملة في السوق، بعدما اقتربت من 16 ألفاً مقابل الدولار، وهو أدنى مستوى تصل إليه العملة منذ مطلع 2020. كانت قيمة الروبية قد انخفضت بنسبة 3% الشهر الماضي، ما جعلها الأسوأ أداءً بين العملات الآسيوية بفارق كبير.

إنقاذ العملات المحلية

مع ذلك، كانت الزيادة المؤثرة في رفع سعر الفائدة دليلاً على أن السلطات تركز بشكل مباشر على وقف انخفاض العملة. لقد أعطى محافظ بنك إندونيسيا بيري وارجيو، في وقت سابق من الشهر الماضي، كل الانطباعات التي تشير إلى تأييده معسكر وقف ارتفاع أسعار الفائدة.

يعكس هذا الاضطراب، ضمنياً، احتمالية أن تتخذ السلطات مزيداً من إجراءات التشديد إذا استمر تراجع سعر الصرف. لقد حل الدفاع عن الروبية محل إدارة الأسعار المحلية والنمو كأولوية لدى صانعي السياسة النقدية.

تتجلى التحديات التي تواجهها آسيا بوضوح في إندونيسيا، وإن لم تقتصر على الدولة الأرخبيلية وحدها. فإلى متى ستظل ماليزيا، التي علّقت رفع أسعار الفائدة في أبريل، في مقعد المتفرج من تراجع الرينغيت إلى مستويات لم تشهدها منذ 1998، بينما رفعت الفلبين سعر الفائدة الرئيسي بشكل استثنائي، الشهر الماضي، مشيرةً إلى استعدادها لاتخاذ إجراءات "متابعة" تكميلية؟.

أما بنك كوريا، الذي كان يُنظر إليه باعتباره مرشحاً لخفض تكاليف الاقتراض هذا العام، فبدا أكثر تشدداً في أكتوبر. لقد تباينت قرارات البنوك المركزية الآسيوية من حيث درجة التشديد، وليس التوجه في حد ذاته.

مخاوف أوسع

لا تقتصر المخاوف الاقتصادية على الأسواق الناشئة في آسيا وحسب، بل من الحكمة أن يتأهب المستثمرون لمفاجأة أخرى من محافظ بنك اليابان كازو أويدا.

ذكرت صحيفة "نيكاي"، الشهر الماضي، أن بنك اليابان يدرس إدخال تعديل إضافي على سياسته المتمثلة في ضبط العائدات على السندات الحكومية طويلة الأجل. ويُخيّم التهديد بتدخل وزارة المالية على الأسواق، خصوصاً مع هبوط العملة المحلية دون 150 يناً للدولار لفترة وجيزة الشهر الماضي.

لطالما كان تصحيح مسار أسعار الفائدة أمراً صعباً في عام كهذا. على سبيل المثال، تمحورت سياسات البنوك المركزية في 2022 حول كبح جماح التضخم. ومع انطلاق أسعار الفائدة من مستويات متدنية للغاية، لم يكن أمام السلطات خيارات سوى زيادتها أكثر فأكثر.

مع ذلك، كانت الخطوة التالية المتمثلة في تحديد المستوى الذي يمكن عنده تثبيت تكاليف الاقتراض هي الأصعب. بدأ معدل التضخم بالتراجع في معظم الاقتصادات آنذاك، لكن ليس إلى الحد الذي يمكن معه تبرير خفض سعر الفائدة، ما يضع البلدان التي تعاني وطأة شح الاحتياطي الأجنبي، على حافة الخطر. وكان التوجيه المسبق، الذي يعتبر فن الإعلان عن نواياك مسبقاً لتحاشي تعكير صفو الأسواق، أداة مفيدة للغاية إبان حقبة أكثر اعتدالاً. لكنها باتت الآن محل شك كبير.

تحوّل صادم

ولكن وارجيو أسقط قنبلته الشهر الماضي. لم يتوقع رفع سعر الفائدة في إندونيسيا سوى اقتصادي واحد فقط من بين 31 خبيراً اقتصادياً شملهم استطلاع "بلومبرغ". بل هناك ما هو أكثر من ذلك، إذ يتناقض مع ما أخبر به وارجيو تلفزيون "بلومبرغ" في 6 أكتوبر، عندما قال: "سيتعين علينا تثبيت سعر الفائدة لفترة من الوقت".

بدا التصريح قاطعاً إلى حدٍ كبير، على الرغم من أن محافظي البنوك المركزية يبغضون اعتبار التوقعات وعوداً. لكن يبدو أن ثمة ما أثار قلقه بشأن الروبية، ودفعه إلى اعتماد مثل هذا التحول بلا شك، خاصة بالنظر إلى إقراره في المقابلة سالفة الذكر بأن الظروف المحلية ربما تكون أكثر اتساقاً مع خفض سعر الفائدة.

اقرأ أيضاً: بنوك مركزية آسيوية تستعين بأدوات غير تقليدية لحماية العملات

ثمّن وارجيو أهمية التواصل حينما زاد بنك إندونيسيا اتصالاته الرسمية بشكل أكبر في 2018، وقال للصحافيين في مارس من ذلك العام إن الأمر لا يتعلق فقط بالعلاقات العامة. لكن، قد تكون أفضل أيام زمن التوجيه المسبق قد انقضت بالفعل، وربما سيكشف التاريخ أن هذا التوجه كان وليد انخفاض معدلات التضخم في أعقاب الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007 و2009، ما لم يستهدف المسؤولون فعل أمر مختلف تماماً. من هذا المنطلق، قد يساعد الاضطراب في إيصال رسالة مفادها أن الأمور سيئة للغاية، ونحن نفعل عكس ما أخبرناكم به.

عملية اتخاذ القرارات

غير أن إلقاء اللوم على تواضع الاتصالات الرسمية أمر مختلف. ينبغي ألا يعتمد المستثمرون أبداً على مصادر من البنوك المركزية بشكل كامل لتكوين آرائهم. نادراً ما تخدم مباغتة السوق كثيراً مصالح صناع السياسات على المدى البعيد، إذ يُرجّح أن المتداولين أدمنوا تلقي المساعدة طيلة العقد ونصف العقد الماضيين. لكنهم بحاجة إلى استخلاص تقييماتهم الخاصة، وإذا كانوا قد نسوا كيف يفعلون ذلك، فعليهم أن يتعلموه مرة أخرى بسرعة.

قد تتسم عملية اتخاذ القرار بالمرونة عندما يتعلق الأمر بالعملات، إذ أوضح بنك إندونيسيا أن الهدف من رفع سعر الفائدة هو تثبيت قيمة الروبية. كما قال وارجيو في مكالمة مع المستثمرين بعد رفع سعر الفائدة، إن "حركة الأسواق العالمية سريعة للغاية. نحن بحاجة إلى مراجعة قراراتنا مجدداً من شهر لآخر. لكن هدفنا يظل واحداً، وهو تحقيق استقرار الأسعار والنظام المالي ونظام الدفع لدعم نمونا الاقتصادي".

كان اتخاذ البنوك المركزية في آسيا قراراً بتثبيت سعر الفائدة مؤقتاً في وقت مبكر من العام الجاري أمراً مؤسفاً. لقد انطوى التراجع عن الزيادات السريعة على مخاطرة كبيرة، فيما لا يزال الاحتياطي الفيدرالي أبعد ما يكون عن الانتهاء من تشديد سياسته النقدية. كما سادت فكرة خاطئة بأن السياسة النقدية في آسيا انفصلت عن بنك الاحتياطي الفيدرالي، وما دام الدولار الأميركي يشكل العملة الاحتياطية بلا منازع، ستشعر آسيا بالقلق حيال قوة الدولار أو ضعفه.

ربما يشهد الأثر الاقتصادي للصين في المنطقة نمواً واضحاً، كونها أكبر شريك تجاري للعديد من الدول الآسيوية، لكن عندما يتعلق الأمر بالعملات، لا تزال هناك قوة عظمى واحدة فقط. تعامل مع الدولار كيفما تشاء، لكن هيمنته ستسود في نهاية المطاف.