نظريات المؤامرة تغزو بريطانيا من بوابة رسوم استخدام طرق لندن

خلاف حول برنامج يهدف لحماية البيئة دفع بناشطين وسياسيين ممن يعارضون سياسات تغير المناخ للمغالاة

لافتة توضح لسائقي المركبات أنهم يدخلون منطقة رسوم الازدحام في لندن
لافتة توضح لسائقي المركبات أنهم يدخلون منطقة رسوم الازدحام في لندن المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

نيكولاس أرليت بنّاء سبعيني متقاعد أمضى معظم هذا العام ساعياً لإنقاذ لندن، فقد ساهم بتنظيم مظاهرات، وجعل من منزله مخزناً للافتات ومنشورات الحركة التي ينتمي إليها، كما استخدم سياراته كمنصات للوحات إعلانية تُعبّر عن معارضة شعبية لأمر يعتبره خطراً وجودياً: خطة فرض رسوم على من يقود سيارة كثيفة الانبعاثات في شوارع المدينة.

قال أرليت في أغسطس بينما كان جالساً في حانة قرب منزله في ضاحية ويست ويكام: "لم تشهد لندن قط هجوماً كهذا، فلم تفرض حكومتنا قبلاً ما من شأنه أن يضر كثيراً من الناس بهذا القدر".

في 2019، أصبحت لندن أول مدينة كبرى تُلزم الناس بأن يدفعوا مقابل قيادة سياراتهم على بعض طرقها إن لم تكن تلك المركبات متوافقةً مع معايير الانبعاثات، عبر تحديد منطقة انبعاثات ضئيلة. أثار ذلك بعض الاعتراض في بدايته، لكن تنفيذه بات أمراً يعتبره كثير من الناس قراراً ناجحاً وغير جدلي نسبياً، يهدف لتحسين جودة الهواء على مستوى المدينة.

لكن رغم أن موجة الشعبوية التي كانت وراء "بريكست" (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) ما تزال ملموسةً، فإن مسؤولي المدينة لم يتوقعوا النقد اللاذع الذي ظهر حين أعلن صادق خان، عمدة لندن، العام الماضي عن خططه لتوسيع نطاق منطقة الانبعاثات الضئيلة، لتشمل ضواحي المدينة.

نظريات متطرفة

برز التحالف المناهض لمنطقة الانبعاثات الضئيلة ليس بسبب حماسته فحسب، بل بسبب النظريات المتطرفة التي يطرحها كثير من الناس بشأن دوافع مسؤولي المدينة. صاحب القرار، شكاوى معتادة تصاحب فرض البلدية لأي رسوم جديدة، وكان أصحابها يتهمون الحكومة المحلية بأخذ المال من سائقي المركبات قسراً.

لكن المعارضين سرعان ما بدؤوا يتداولون نظريات مفادها أن توسيع نطاق منطقة الانبعاثات الضئيلة كان خطوة في تنفيذ برنامج واسع للتحكم بالمجتمع. وكما هو الحال مع عديد من الأعضاء البارزين في الجانب الأكثر تطرفاً في الحركة المناهضة لمنطقة الانبعاثات الضئيلة، لم يعبر أرليت عن أفكاره بوضوح، إذ تجنب الحديث عن التفاصيل مُفضّلاً استخدام إشارات مبهمة بأن رسوم الطرق ما هي إلا "جزء يسير من أمر أكبر".

اقرأ أيضاً: سوناك قد يلغي جزءاً من مشروع خط حديدي سريع في بريطانيا

حين بدأ مناهضو منطقة الانبعاثات الضئيلة يظهرون في الفعاليات العامة التي يحضرها خان، كانوا يلوّحون بلافتات تدعم شتى أنواع نظريات المؤامرة التي تصف كل القضايا، بدءاً من العملات الرقمية التي تدعمها الحكومة إلى الخطط لجعل المشي في المدينة أسهل، بأنها أدوات قمع خفية. سهّلت هذه الرسائل على عمدة المدينة أن يعتبر هؤلاء المناهضين كالهوام التي يمكن تجاهلها بلا مشاكل.

حين تظاهر حشد منهم في أحد الفعاليات في مارس، قال خان لجمهوره من الحضور إن هناك البعض ممن يعارضون توسيع نطاق منطقة الانبعاثات الضئيلة بسلامة نية، لكنه وصف المعارضة أيضاً بأنها مزيج من الجماعات الهامشية والتهكميين، قائلاً إن "بعضهم ينتمي لأقصى اليمين وبعضهم ممن ينكرون وجود فيروس كورونا أو جدوى اللقاحات، ومنهم من أنصار حزب المحافظين".

بذور العداء

بدأ تنفيذ توسيع المنطقة في 29 أغسطس. يلزم القرار السيارات التي لا تفي بمعايير الانبعاثات أن تدفع رسماً يومياً قدره 12.5 جنيه إسترليني (15.20 دولار) للقيادة على أغلب طرق المدينة طوال العام باستثناء يوم عيد الميلاد. لكن الحركة المناهضة لمنطقة الانبعاثات الضئيلة، بالرغم من فشلها، زرعت بذور عدائها للإجراءات المحلية المرتبطة بالبيئة في الحوار السياسي الأوسع.

بدأ السياسيون المحافظون في بريطانيا يرددون أصداء هذه المعارضة، وقد استخدموا في بعض الأحيان تأطيراً تآمرياً مشابهاً. في تلك الأثناء، بدأت فئة من الناشطين المعارضين لمنطقة الانبعاثات الضئيلة تروّج لخطط متطرفة، مثل تخريب الكاميرات وغيرها من البنى التحتية اللازمة لتطبيق هذه السياسة.

وفي وقت تحاول حكومات عديدة تشجيع اتخاذ إجراءات على نطاق واسع للتصدي لتغير المناخ، قد يمثل الصراع القائم في لندن لمحة للمسار المثير للجدل الذي نواجهه.

اقرأ أيضاً: السيارات الكهربائية وحدها لن تتمكن من حل أزمة المناخ

مع احتدام النقاش حول منطقة الانبعاثات الضئيلة في الأشهر التي سبقت تطبيق خطة التوسيع، بدأ السياسيون المحافظون في بريطانيا رؤية أن معارضة هذه السياسة بطاقة رابحة. على مدى الصيف الماضي، قال ستيف تاكويل، مرشح الحزب المحافظ لمقعد (رئيس الوزراء السابق) بوريس جونسون في البرلمان، إن التصويت لصالح منافسه سيرسل "رسالة جليّة" مفادها أن الدائرة الانتخابية دعمت سياسة حزب العمل في ما يتعلق بمنطقة الانبعاثات الضئيلة. فاز تاكويل بالمقعد في يوليو، وقال في خطاب الفوز إن تبني منافسه "لسياسة منطقة الانبعاثات الضئيلة تسببت بخسارته هذه الانتخابات لأنها مكلفة ومضرة".

جموح بيئي

هاجم رئيس الوزراء ريشي سوناك، في استعراض لسياسته حول المناخ خلال خطابه في 20 سبتمبر، جموح القوى المناصرة للبيئة. أشار سوناك إلى عدد من المقترحات كان بصدد إلغائها، ومنها برامج حكومية لثني الناس عن السفر في العطلات، وفرض ضرائب جديدة على استهلاك اللحوم، وخطط تتيح لصنّاع السياسات "التدخل في عدد الركاب المسموح لك باصطحابهم في سيارتك".

أضحت هذه السياسات، التي لم يصل أي منها مرحلة التنفيذ، تشغل التحالف المناهض لمنطقة الانبعاثات الضئيلة وحلفائه السياسيين. قال سوناك: "إن مضينا على هذا الطريق سنخاطر بخسارة تأييد شعب بريطانيا".

بعد أسبوعين، وفي المؤتمر السنوي لحزب المحافظين، تناول مارك هاربر، وزير الدولة للنقل، فكرة مشابهة، فيما سخر من التخطيط لتنفيذ أفكار إقامة أحياء تشجع على المشي كوسيلة لتقليل استخدام السيارات. وبينما كان يردد أصداء نقاشات غرف دردشة أصحاب نظريات المؤامرة، بدا أن هاربر يشير إلى مبدأ ما تسمى مدن الـ"15 دقيقة" كوسيلة لتقييد الحريات الأساسية.

اقرأ أيضاً: ما هي مدن الـ15 دقيقة ولماذا أصبحت مركزية بنظريات المؤامرة؟

وقال إن "الشر الذي لا يجدر بنا تقبله هو فكرة أن المجالس المحلية بإمكانها أن تحدد عدد مرات ارتيادك للمتاجر"، وأن بإمكانها "تقنين من يستخدم الطرق، وتوقيتات ذلك، وأن تشرف على كل هذه الأمور عبر كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة". كما وعد هاربر باتخاذ إجراءات، لكنه لم يبين كيفية ذلك.

انضمام الساسة

رداً على طلب بتقديم مزيد من الإيضاح، أحالت وزارة هاربر "بلومبرغ بزنس ويك" إلى تعليقاته في البرلمان يوم 16 أكتوبر، التي دافع هاربر فيها عن توصيفه السابق، مستنداً إلى مقترح من مجلس مقاطعة أوكسفوردشير يهدف لتقليص حركة المرور عبر فرض غرامة على القيادة في طرق معينة خلال أوقات تقييد الحركة، ولمنح السكان المحليين تصاريح تتيح لهم القيادة على هذه الطرق بلا رسوم لمرات محدودة كل عام.

اقرأ أيضاً: تقرير: لندن ثاني أعلى مدن العالم تكلفةً في قيادة السيارات

راقب أرليت وحلفاؤه بسعادة الساسة على مستوى البلاد وهم ينضمون إلى قضيتهم. بعد الخطاب الذي ألقاه ريشي سوناك في سبتمبر، قال أرليت إن الانسحاب من التزامات الحكومة بـ"صافي الانبعاثات الصفري" كان هو "الفرصة الوحيدة في متناول حزب المحافظين للاحتفاظ بالسلطة" في الانتخابات العامة المقرر عقدها في مطلع 2025 على أبعد تقدير. قال: "أدرك سوناك أننا، الشعب، من سينقذ سباقه السياسي".

وعوضاً عن إنكار أن البشر تسببوا بتغير المناخ، يجادل منتقدو سياسات المناخ بشكل متزايد بأن المقايضات الاقتصادية والاجتماعية لا تستحق عناءها. لقد كتبت بعض مراكز الأبحاث التي تركز على قضايا المناخ في تقرير صدر في يونيو 2022: "ما يزال بإمكان الحجج التي توضع في إطار مناصرة البيئة أن تروج للجمود أو التقاعس، إذ تستخدم عادةً ستار البراغماتية المالية ومنطق السوق الحرة والمخاوف حول الحرية الشخصية".

هناك علامات على أن تلك الحجج لها وزنها، إذ إن ألمانيا تعطل تنفيذ خطط لاستحداث مزيد من معايير البناء الصديقة للبيئة، فيما قالت حكومة بولندا إنها تقدمت بشكاوى للاتحاد الأوروبي بشأن الحظر الذي ستفرضه على المركبات التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي في 2035.

انتشار المزاعم

لا يتطلب التقاعس في التعامل مع المناخ تفكيراً مؤامراتياً. لكن من يروجون لأفكار متطرفة يجدون جمهوراً جاهزاً بين من يميلون للتشكيك في السياسات البيئية. تدور تصورات غريبة على وسائل التواصل الاجتماعي عن عيوب المركبات الكهربائية، وعن تعهيدات وهمية من الحكومة لتركيب المضخات الحرارية، وعن مخطط سري من المنتدى الاقتصادي العالمي لدفع الناس ليقتاتوا على الحشرات.

اقرأ أيضاً: أزمة الإسكان في لندن الأسوأ خلال عقد

يبدو مستبعداً أن يستمر فرض رسوم الطرق في لندن بجذب اهتمام الناس خارج المدينة. في اليوم الذي بدأ فيه تطبيق سياسة منطقة الانبعاثات الضئيلة، تظاهر بضع مئات على مسافة تُتيح بلوغ أصواتهم مسكن سوناك الرسمي، احتجاجاً على تمرير ما سموه "الخيانة العظمى".

يُفترض أن تلك المجموعة كانت تأمل بإقناع حكومة المملكة بالتدخل بشكل ما، لكن سوناك لم يتدخل، بل إن سياسة منطقة الانبعاثات الضئيلة لم ترد في خطابه في سبتمبر.

لكن المحتجين المناهضين لهذه السياسة باتوا جزءاً من حركة أكبر، فقد انضموا في سبتمبر لفعالية "مسيرة من أجل الحرية"، وهي بمثابة حدث شامل لمظالم المجموعات الهامشية. اختلط فيها المشككون بلقاحات فيروس كورونا، بأتباع نظرية المؤامرة "كيو أنون" (QAnon)، وبالغاضبين من المؤامرات المزعومة المنسوبة للمنتدى الاقتصادي العالمي.

أربكت الرسالة المشوشة التي بثتها تلك الفعالية حتى بعض من شاركوا فيها. انزعج شاهزاد شيخ، وهو صحفي أعد سلسلة مقاطع فيديو رائجة انتقد فيها سياسة منطقة الإنبعاثات الضئيلة، من دمج تلك القضية مع قضايا خيالية، وقال: "في رأيي، هذا يضعف الرسالة".

إصرار على الهدف

بدأ آخرون يحاججون بأن أفضل طريقة لنقض سياسة منطقة الانبعاثات الضئيلة لن تأتي عبر السياسة. انتشرت نصائح على مجموعات عبر "فيسبوك" حول كيفية تدمير الكاميرات المخصصة لتنفيذ فرض الرسوم، إلى جانب روابط لخرائط تشير إلى أماكنها. أضاف نشطاء مناهضون لهذه السياسة منشورات تحتفي بتخريب الكاميرات اليومي، وتمجد من يتنكرون في زي ديناصورات ليضايقوا العمال المنتدبين لإصلاحها.

وأشار النشطاء المناهضون لهذه السياسة، الذين يركزون على تخريبها، لأنفسهم باسم "بليد رانرز"، تشبهاً بالمسؤولين عن تتبع الروبوتات وتدميرها في فيلم بهذا الإسم أخرجه ريدلي سكوت في 1982. نطاق هذه الحملة ليس واضحاً، وكذلك فرصة أن تتمكن مثل هذه الأعمال من تعطيل النظام فعلاً.

اقرأ أيضاً: دراسة: سكان لندن أقل تضرراً من التضخم مقارنة بباقي المدن البريطانية

قال مسؤولو المدينة إن الحملة لم تكن فعالة، فيما أرسلوا أيضاً عدداً متزايداً من السيارات المجهزة بكاميرات لدعم النظام الذي يعتمد على كاميرات ثابتة. قالت شرطة العاصمة إنه كان هناك 795 جريمة تتعلق بسياسة منطقة الانبعاثات الضئيلة، لكنها قبضت على شخص واحد فقط في ما يتعلق بعملية التخريب المستمرة التي بدأت في مايو.

في البداية، نأى أرليت عن النشطاء المتطرفين من مناهضي منطقة الانبعاثات الضئيلة، لكنه بحلول أكتوبر بات يحجم عن معارضتهم. قال: "إنهم أناس يشاهدون حياتهم تُسلب"، واعتبر أن الكاميرات تمثل "رمزاً للقمع"، متوقعاً أن يستمر تخريبها طالما استمرت تلك السياسة. قال: "أي شخص ساذج بما يكفي ليعتقد أن (بليد رانرز) ستختفي، فإنه يخادع نفسه... أنا لا أؤيد ذلك، لكنني أتفهمه وأحييه".