قطاع البتروكيماويات الأوروبي يتجه إلى شفير هاوية

تستورد أوروبا المواد الأساسية لصنع البلاستيك من الخارج بما أن ارتفاع أسعار الطاقة يزيد تكلفة الصناعة المحلية

شعار شركة الكيماويات الألمانية العملاقة "بي إيه إس إف" على رايات ترفرف أمام مقر الشركة في ألمانيا
شعار شركة الكيماويات الألمانية العملاقة "بي إيه إس إف" على رايات ترفرف أمام مقر الشركة في ألمانيا المصدر: أ.ف.ب عبر غيتي إيميجز
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

كانت الفرقة الغنائية السويدية "آبا" ما تزال الأشهر في أوروبا حين استخدمت مصانع البتروكيماويات الأوروبية قدراً يسيراً من لقيمها المفضل لآخر مرة. كان ذلك في 1975 متزامناً مع سقوط سايغون الذي أسدل الستار على حرب فيتنام، وكانت أوروبا ما تزال تلعق جراحها جرّاء أزمة النفط الأولى. اليوم، بعد مرور زهاء نصف قرن، دخلت هذه الصناعة في أوروبا مرحلة الاحتضار.

إن ظننت أن ذلك نتيجة انتصار في الحرب على البلاستيك، فأنت مخطئ، إن أوروبا ما تزال تستهلك كميات مهولة من اللدائن الرغوية والطلاء والأصباغ، وكافة المنتجات الأخرى المصنوعة في المعامل البتروكيميائية، لكن كل ما كان هو أنها استبدلت إنتاجها محلياً باستيرادها.

العمل بخسارة

تستهلك صناعة البتروكيماويات كماً كبيراً من الطاقة بطبيعتها، ولكن في أوروبا فإن سعر الغاز الطبيعي أغلى بخمس مرات منه في الولايات المتحدة. لذا فإن شراء الإثيلين، الذي يعدّ مركّباً أساسياً لصنع البلاستيك، من تكساس وشحنه عبر الأطلسي لمعالجته في أوروبا أرخص حالياً من إنتاجه محلياً. هذا بالضبط ما أبلغتني شركات بتروكيماويات أنها تفعله. نتيجة لذلك، تواجه أوروبا خسارة أحد أنشطتها الاقتصادية وتآكل الميزان التجاري للتكتّل الأوروبي في مجال البتروكيماويات، ما سيسفر في نهاية المطاف عن فقدان وظائف وتهديد أمن الطاقة.

أولاً، فلنستحضر بعض الحقائق لنضع الأمور في سياقها. يستهلك الفرد الأوروبي حوالي 150 كيلوغراماً من البلاستيك في السنة، أي أكثر من ضعفَي المتوسط العالمي وهو 60 كيلوغراماً، بحسب وكالة البيئة الأوروبية، إذ تنتشر استخدامات البلاستيك في كلّ المجالات، من تغليف الطعام إلى مواد البناء، ومن الهواتف النقالة إلى الملابس.

لننتقل إلى البيانات: يستند قطاع البتروكيماويات بشكل أساسي على مادتين، الغاز الطبيعي والنافتا، وهي إحدى المنتجات الفرعية من تكرير النفط وتشبه البنزين إلى حدّ ما. بحسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية، فإن استهلاك النافتا في أوروبا سينخفض هذا العام إلى أدنى معدّل له منذ 48 سنة، ليصل إلى 34.2 مليون طن. وقد انخفض الاستخدام إلى أقلّ من 18.5% مقارنةً بمرحلة ما قبل كورونا، وما يقارب 40% دون الحدّ الأقصى الذي بلغه قبل عقدين.

نظراً للانخفاض الكبير في نسب معالجة البلاستيك، فإن الآلات الأساسية في هذه الصناعة التي تُحوّل النافتا والغاز إلى مواد كيميائية أساسية، وهي تسمى "كسارات البخار"، تعمل بمعدلات غير اقتصادية. عادةً ما تشغّل الشركات كسارات البخار بأقصى طاقة ممكنة خلال العام بسبب تكاليف تشغيلها الثابتة الضخمة، لذا فإن أي نسبة دون 90% تعتبر مقلقة، أما 85% فهي سيئة و80% تكون كارثية. لكن في الفصول الماضية، تعمل هذه الوحدات بمعدلات تبلغ ما بين 65% و75% من طاقتها، وهذا مستوى يسبب خسائر.

تراجع هوامش ربحية الكيماويات يفاقم معاناة شركات النفط

تأقلم مع الواقع

يقرّ المديرون التنفيذيون في القطاع بشكل شخصي أنهم لا يمكنهم خسارة مزيد من المال لفترة أطول، لذا يبدو أن إغلاق المعامل سيكون حتمياً في 2024. استخدمت وكالة الطاقة الدولية لغة دبلوماسية الأسبوع الماضي لتعبر عن ذلك، فقالت: "أصبح صعباً بشكل متزايد توقع كيف يمكن لقطاع البتروكيماويات في القارة أن يتعافى ليستعيد قوته السابقة". بعدما أمضيت الأسابيع القليلة الماضية أتحدث إلى مديرين تنفيذيين في القطاع استنتجت أن إجابتهم هي أن القطاع "لن يتعافى أبداً".

بدأت الشركات الأوروبية تتأقلم مع هذا الواقع، فحين التقت شركة "بي إيه إس إف" (BASF)، التي تعدّ مرادفاً للكيماويات في أوروبا، مع مستثمرين قبل بضعة أسابيع، كان مسؤولوها التنفيذيون مستعدّين للحديث عن أي شيء بخلاف ما يتعلق بموطن شركتهم. أبرز ما تضمنته الشرائح التقديمية كان بناء معمل جديد في جينجيانغ في الصين بقيمة 10 مليارات دولار، وجاء في الشرائح: "لقد تسارعت أنشطة البناء، ويتواجد حالياً أكثر من 15 ألف عامل بناء في الموقع يومياً".

على امتداد شركات الكيماويات الأوروبية، ارتفعت نسبة الإنفاق على مشاريع جديدة في آسيا بنسبة بلغت حوالي 50% على مدى 15 عاماً مضت، بحسب تقديرات "مجموعة جيفريز المالية"، وهي بنك استثماري.

كيف يُترجم ذلك على صعيد الاقتصاد؟ قبل الوباء، كان الميزان التجاري الكيميائي الأوروبي مع بقية العالم على فائض يبلغ حوالي 40 مليار دولار. لكن في العام الماضي، انخفض الفائض إلى 2.5 مليار دولار. فنياً يُرجح أن يحقق الميزان التجاري نوعاً من التعافي في 2023 إلا أن التوقعات لعام 2024 تبدو قاتمة.

أسعار البلاستيك تتراجع من ارتفاعها القياسي ما يخفف من حدة التضخم في أمريكا

آسيا وأميركا

مع ذلك، فإن كان القلق يعتري صنّاع السياسات الأوروبيين إزاء ما يحدث فهم لا يُبدون ذلك، فليست هناك مؤشرات على هلع سواء في بروكسل أو برلين أو مدريد أو لندن، وقد تستطيع أن تستشف بعض القلق في باريس، ولكن ليس أكثر. إذ أن معظم الدول الأوروبية تنشغل بمحاولة إنقاذ قطاع طاقة الرياح البحرية، ولكن ماذا عن شركات البتروكيماويات التي تنتج الراتنج والبلاستيك اللازمين لصنع شفرات عنفات الرياح؟

سبق أن خسرت أوروبا قطاعات أخرى لصالح آسيا، فقد انتقلت صناعة الحديد والقماش والسفن إلى الشرق. ولكن هذه المرة المنافسة ليست محصورة بالصين، ولكن أيضاً مع الولايات المتحدة نظراً لثرائها بالهيدروكاربونات، ويشهد الإنتاج المحلي فيها ازدهاراً في عهد الرئيس جو بايدن.

إن سياسات الصناعة والطاقة مهمة في هذا الصدد. وإذا ما كانت أوروبا ترغب بأن تحافظ على بعض من قوتها الصناعية القديمة، فعلى صنّاع السياسات أن يعلنوا دعمهم لصناعة البتروكيماويات، حتى وإن كانت هذه الخطوة لا تلاقي استحسان الناخبين المؤيدين لقضايا المناخ. حالياً هناك كثير من الشركات، وبالتالي من رؤساء الشركات، مقابل كل طنّ من البلاستيك يُنتج، لذا يجب أن يبدأ تخفيض النفقات عند أعلى الهرم.