تقلبات أسعار النفط الحادة وراءها متداولون يتسلحون بالخوارزميات

مستشارو تداول السلع الذين يعتمدون برامج خوارزمية باتوا مسؤولين عن 70% من تداولات الخام يومياً

رسم تعبيري يصور أحد رعاة البقر يمتطي برميل نفط
رسم تعبيري يصور أحد رعاة البقر يمتطي برميل نفط المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

ربما لم تشهد تجارة النفط اضطرابات مماثلة كالتي تشهدها في الوقت الراهن.

خلال الشهرين الماضيين، كان متوقعاً ارتفاع أسعار النفط إلى 100 دولار للبرميل، لكنها لم تسجل سوى 70 دولاراً، ثم تأرجحت بنسبة تصل إلى 6% في أحد أيام شهر أكتوبر. وحتى الآن في 2023، تأرجحت العقود الآجلة بأكثر من دولارين في اليوم 161 مرة، وهي قفزة هائلة عن الأعوام السابقة.

لا يمكن القول إن تقلبات سوق النفط الحالية ناجمة فقط عن تحركات منظمة "أوبك" أو الحرب في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن عوامل العرض والطلب تواصل تحديد اتجاهات أسعار السلع الأساسية بشكل عام، فإن التحركات اليومية لتداول العقود الآجلة للنفط الخام تتأثر بشكل متزايد بالمضاربة، مما يؤدي إلى تأجيج التقلبات والانقسام بين السوق الفعلية والتعاملات الورقية.

لا تقتصر أسباب تلك التقلبات على المضاربين الأفراد فحسب، بل يلقي المتداولون باللوم أيضاً على مجموعة مبهمة من مديري الأموال المعتمدين على الخوارزميات، والمعروفين باسم "مستشاري تداول السلع".

النفط يواصل خسائره رغم تخفيضات "أوبك+" الطوعية

برز مستشارو تداول السلع باعتبارهم قوة مؤثرة في سوق النفط، على الرغم من أن أسماءهم قد تبدو عادية ولا تعكس تأثيراً قوياً. وعلى الرغم من أنهم يشكلون خُمس المشاركين في الأموال المدارة في سوق النفط الأميركية، فإن بعض المؤشرات أوضحت أن مستشاري تداول السلع شكلوا قرابة 60% من صافي حجم التداول للمجموعة هذا العام، بحسب مجموعة "بريدجتون ريسيرش غروب" (Bridgeton Research Group)، التي تقدم تحليلات حول التداولات التي تجري بواسطة الحاسوب. وهذه هي أكبر حصة تحتفظ بها المجموعة في البيانات التي تعود إلى عام 2017.

اعتماد كبير على الخوارزميات

على الرغم من أنه يصعُب تحديد إجمالي حجم التداولات التي يجري تنفيذها عبر مستشاري تداول السلع، فإن الخوارزميات بشكل عام تُعد مسؤولة عما يصل إلى 70% من تداولات الخام في اليوم العادي، وفقاً لبيانات "تي دي بنك" (TD Bank) و"جيه بي مورغان".

قال إيليا بوشويف، وهو تاجر سابق وشريك إداري لدى شركة "بنتاثلون إنفستمنتس" (Pentathlon Investments) والذي يدرس في جامعة نيويورك: "ستُصاب بدهشة عندما تعلم حجم مراكزهم.. ربما تكون أكبر من شركات (بي بي) و(شل) و(كوخ) (Koch) مجتمعة".

تتسارع تقلبات الأسعار الهائلة لهذا العام بفضل برامج التداول الخوارزمية، وفقاً لمقابلات مع أكثر من عشرة متداولين ومحللين ومديري أموال يعملون في سوق النفط. وامتد تأثير تلك البرامج إلى أسعار السلع الأساسية، بدءاً من البنزين ووصولاً إلى الذهب، وقاموا بتهميش المستثمرين التقليديين، وأثاروا سخط "أوبك"، بل وأثاروا دهشة البيت الأبيض أيضاً.

عادةً ما يُصنف مستشارو تداول السلع باعتبارهم فرداً أو منظمة تقدم المشورة بشأن التداول في العقود الآجلة أو الخيارات أو المقايضات. لكن من هم على دراية بالأمر يقولون إن معظمهم يُعرفون بواسطة استراتيجياتهم في التداول، والتي تعتمد على خوارزميات الحاسوب وقرارات قائمة على قواعد، وتركز على آفاق زمنية محدودة نسبياً.

عادةً ما يتبع مستشارو تداول السلع الذين يعتمدون على الخوارزميات اتجاهات تحرك الأسعار ويبالغون في جعلها أكثر حدة، وهذا يجعلهم من الفئات المثيرة للاضطرابات في سوق النفط. فعندما تنخفض الأسعار، يتخذون اتجاه البيع، مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار بشكل أكبر. وما يثير قلق المستهلكين بشكل أكثر، هو أن الأمر ذاته ينطبق على ارتفاع الأسعار.

مستشارو التداول وارتفاع الأسعار

يقول بعض المحللين إن مستشاري تداول السلع تسببوا في المبالغة في تقييم النفط بزيادة 7 دولارات للبرميل خلال الارتفاع الأخير. كما يعتقد مسؤولو البيت الأبيض أنهم لعبوا دوراً مهماً في ارتفاع الأسعار خلال 2023، وفقاً لشخص مطلع على الأمر.

حتى أن ارتفاع سعر برميل النفط بمقدار دولار أو دولارين، قد يكون له تأثير على المستهلكين، لأن ذلك يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الوقود في وقت يُعتبر التضخم المدفوع بالطاقة أحد أكبر العقبات التي تواجه محافظي البنوك المركزية العالمية. في أغسطس، مثلاً، ساهم ارتفاع أسعار النفط في زيادة تكاليف البنزين التي شكلت نصف الزيادة في مؤشر أسعار المستهلك الأميركي.

قالت ريبيكا بابين، كبيرة متداولي الطاقة لدى "سي آي بي سي برايفيت ويلث" (CIBC Private Wealth) في نيويورك: "يجب على الاحتياطي الفيدرالي أن يكون على علم بوجود مستشاري تداول السلع وتأثيرهم في الأسواق".

كيف تتأثر سوق النفط العالمية بالصراع بين إسرائيل وفلسطين؟

أوضحت بابين أن "استراتيجيات التداول الخاصة بمستشاري تداول السلع، يمكن أن تتسبب في اضطرابات، والتي تظهر في شكل فترات زمنية تنحرف فيها أسعار السوق بعيداً عن القيم الحقيقية". وقالت إنه على الرغم من أن تلك الانحرافات قد تكون قصيرة الأمد، فإن تقلبات الأسعار التي تلت ذلك "تنعكس في الاقتصاد الأوسع نطاقاً بطرق عديدة ومختلفة".

تقلبات كبيرة.. وربح كبير

في الوقت الذي يلعب فيه مستشارو تداول السلع الذين يعتمدون على الخوارزميات دوراً في توفير السيولة التي تحتاج إليها السوق بشدة، يمكن أن تؤدي استراتيجياتهم للتداول إلى تضخيم تقلبات الأسعار اليومية بشكل كبير. ظهر ذلك بشكل أوضح عندما ارتفعت أحجام تداول مستشاري تداول السلع بسرعة في 2022، حيث سجلت العقود الآجلة للنفط في نيويورك تحركات يومية بأكثر من دولارين أكثر من 242 مرة، وهو ما يُعد أعلى بنسبة 150% عن المتوسط التاريخي المسجل منذ 2000، وفقاً لحسابات "بلومبرغ".

لكن الأمر المثير للدهشة بشأن التقلبات المستمرة في 2023، هو أنها جاءت دون صدمة كبيرة للإمدادات مماثلة لتلك التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا. أثار الصراع بين إسرائيل وحماس حالة من التوتر في الأسواق، لكن لم يكن له حتى الآن أي تأثير كبير على تدفقات النفط. كما تسبب نشاط مستشاري تداول السلع في تقويض ارتفاعات أسعار النفط المدعومة بخفض منظمة البلدان المصدرة للبترول وحلفائها للإنتاج.

لم يكن عدم القدرة على التنبؤ بتقلبات السوق هذا العام أمراً جيداً بالنسبة إلى المتداولين التقليديين، الذين حقق الكثير منهم مكاسب أقل من النفط مقارنة بالعام الماضي عندما حققوا أرباحاً قياسية، وفقاً للمشاركين في الأسواق.

على النقيض من ذلك، حقق مستشارو تداول السلع مكاسب هائلة، ليسجلو ثلاثة أعوام متتالية في سلسلة مكاسبهم في أسواق الطاقة، وفقاً لما ذكره ستيفن روزمي من "بريدجتون".

قفزة في الأصول

يوسع العديد من مستشاري تداول السلع نشاطهم، حيث توضح شركة "كابيتال فاند مانيجمينت" (Capital Fund Management)، ومقرها باريس، أن أصول مستشاري تداول السلع الخاضعة للإدارة قفزت إلى 3.8 مليار دولار في يوليو 2023، بعدما كانت 2.4 مليار دولار في ديسمبر 2021. جاءت شركتا "أمابا كابيتال أدفيزور" (Amapa Capital Advisors LLC) و"سكايلر كابيتال مانجمنت" (Skylar Capital Management) ضمن مستشاري تداول السلع الذين ارتفعت قيمة أصولهم المدارة بمقدار الضعفين أو الثلاثة في أقل من عامين، وفقاً لتقارير شركة استشارات تداول السلع "أي إيه إس جي" (IASG). وتشير "باركلي هيدج" (BarclayHedge) إلى أن أكبر شركات استشارات تداول السلع في قطاع الطاقة هي "مان إيه إتش إل" (Man AHL) و"غريشام" (Gresham) و"لينكس" (Lynx) و"ألفا سيمبلكس" (AlphaSimplex)، لكن من الصعب تحديد أحجامها بشكل دقيق.

البشر في مواجهة الآلة

الأمر الجيد في خدمة مستشاري تداول السلع القائمة على الخوارزميات، هو أنها غير خاضعة للتحيزات أو التقلبات، فهي قائمة بشكل رئيسي على الرياضيات، وذلك وفقاً للأشخاص العاملين على تلك البرامج. هذا النهج يمثل بالطبع أزمة للكثيرين في مجال السلع، حيث تُعد هيمنة الإنسان على الطبيعة والأسواق أمراً أساسياً.

يقول برينت بيلوت، الذي تخلي عن عمله في تداول النفط لدى أكبر بنك أميركي "جيه بي مورغان" لصالح إنشاء خدمة استشارات تداول السلع الخاصة به في 2016، إن "كل متداول يظن أنه الأفضل، كل منهم يظن أن لديه الأفضلية".

وكالة الطاقة تتوقع تحوّل سوق النفط إلى فائض في الإمدادات بداية 2024

لم تكن الثقة في الآلة أمراً طبيعياً بالنسبة إلى "بيلوت". فعلى الرغم من أنه شيد ست خوارزميات، فإنه وجد نفسه يتداول معهم في البداية. وبعد كل شيء، كانت لديه أعوام من الخبرة التي لا يملكها الحاسوب.

عندما غزت روسيا أوكرانيا في أوائل 2022 وارتفعت العقود الآجلة لخام برنت بنسبة 35% لتُتداول فوق 120 دولاراً للبرميل، أراد "بيلوت" بشدة توجيه خوارزمياته للاستفادة من تقلبات السوق. نهض "بيلوت" في صباح قارس البرودة في بلدة جاكسون بولاية وايومنغ للاطمئنان على خوارزمياته، لكنه قرر عدم التدخل. وقال إنه في أعقاب الغزو، أعادت شركته "كايلر كابيتال" (Cayler Capital)، %25 إلى المستثمرين. وهذا يُقارن بنسبة 1% لمؤشر "بلومبرغ" لصناديق التحوط. قال "بيلوت" إن "الأرقام لا تكذب".

برنت بيلوت
برنت بيلوت المصدر: بلومبرغ

ليست "تداولات عالية التردد"

لا تُعتبر خدمات مستشاري تداول السلع جديدة، فهي موجودة منذ الأيام الأولى لتداول العقود الآجلة. كان من المفترض أن يقوم هؤلاء بالتسجيل في الرابطة الوطنية للعقود الآجلة (National Futures Association) في الولايات امتحدة منذ عام 1984. وعادةً ما يتمتعون بحواجز دخول أقل من صناديق التحوط، التي يمكنها تداول مجموعة متنوعة من الأوراق المالية وتتطلب مزيداً من رأس المال الأولي.

مع ذلك، فإنهم ليسوا متداولين "عالي التردد" للعقود الآجلة. فمستشارو تداول السلع لا يحققون مكاسبهم من سرعة التداول، وبدلاً من ذلك فإنهم يجنون المال في الغالب من المؤشرات التي تغذيها اتجاهات السوق. إنهم نشطون في مجالات الأسهم والسلع على حد سواء، من خلال العقود الآجلة والخيارات المتعددة.

مع ذلك، تختلف أسواق السلع الأساسية عن الأسهم في كثير من الجوانب المهمة. فعلى سبيل المثال، تطورت سوق الأوراق المالية كوسيلة لزيادة رأس المال، فيما كانت أسواق العقود الآجلة للسلع الأساسية تقليدياً مكاناً للمنتجين والمشترين للتحوط من مخاطر الأسعار.

من رحم الانهيار

كيف أصبح مصطلح "مستشاري تداول السلع" مهيمناً إلى هذا الحد؟ مثل العديد من الظواهر الحديثة، تبدأ الإجابة من أعماق الجائحة.

في ظل اجتياح عمليات الإغلاق للعالم خلال 2020، انهار استهلاك الوقود بأكثر من الربع. واندلعت الفوضى في أسواق النفط الخام، حيث انخفض سعر النفط الأميركي القياسي لفترة وجيزة إلى سالب 40 دولاراً للبرميل، وكان المستثمرون في موقف جديد تماماً. وسرعان ما انسحبت بعض الاستثمارات التي تبنت وجهات نظر طويلة الأجل استناداً إلى قواعد العرض والطلب.

قال دانييل غالي، كبير استراتيجيي السلع لدى شركة "تي دي سيكيوريتيز" (TD Securities)، إن "هذه الأسواق الهابطة بدت كأنها تحمل في طياتها انقراضاً للصناديق التقليدية، الأمر الذي أفسح الطريق لتفوق "الخوارزميات" والتي يُعد أغلبها من مستشاري تداول السلع. لقد منح الغزو الروسي لأوكرانيا موطئ قدم آخر لهذه الشركات، حيث دفعت التقلبات الشديدة في سوق العقود الآجلة العديد من المستثمرين التقليديين المتبقين للتراجع، وتراجع الاهتمام بعقود النفط الرئيسية إلى أدنى مستوى له في ستة أعوام.

هل يحدث توازن بين العرض والطلب بسوق النفط في 2024؟

هذا الأمر تزامن مع انهيار مصدر آخر لتداول العقود الآجلة والخيارات، وهو التحوط من إنتاج النفط. خلال ذروة توسع النفط الصخري قبل نحو عقد، كانت شركات الحفر تثبت أسعار العقود الآجلة للمساعدة في تمويل نموها. لكن في أعقاب انهيار الأسعار الناجم عن الجائحة، ركزت صناعة النفط الأميركية مجهوداتها بشكل متزايد على إعادة الأموال إلى المستثمرين وتجنبت التحوط، مما قد يحد من اتجاه الشركات للنمو في ظل السوق الصاعدة.

بحلول الربع الأول من العام الجاري، انخفض حجم النفط الذي كان المنتجون الأميركيون يتحوطون منه باستخدام عقود المشتقات المالية بأكثر من الثلثين، مقارنة بما كان عليه قبل الجائحة، وفقاً لبيانات "بلومبرغ إن إي إف".

تهدد الموجة الأخيرة من صفقات منتجي النفط الأميركيين بتسريع وتيرة الانخفاض في التحوط. وربما يستمر مستشارو تداول السلع في ملء الفراغ الذي يخلفه المتداولون التقليديون في السوق.

بطريقة ما، فإن نهضة خدمات مستشاري تداول السلع لا تزال في بدايتها. وهذا أمر واضح بالنسبة إلى "بوشويف"، من جامعة نيويورك، الذي قال إن طلابه ينظرون إلى العمل في الصناديق باعتبارها "وظيفة الأحلام". وقال إن "خدمات مستشاري تداول السلع تُعد مثالاً لكيفية دخول التكنولوجيا إلى مساحاتنا، وستنقرض مثل الديناصورات بعد فترة إذا رفضتها".