مزارع ناطحات السحاب .. حل مبتكر لمواجهة أزمة الغذاء عالميا

المزارع الرأسية في طريقها للانتشار عالميا
المزارع الرأسية في طريقها للانتشار عالميا المصور: Tomohiro Ohsumi/Bloomberg
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بدأت المزارع الرأسية المُقامة داخل المباني الشاهقة، والتي تُعرف أيضًا بـ"مزارع ناطحات السحاب"، في الانتشار حول العالم، فشركة "سبريد كو" (Spread Co)، الواقعة بإحدى ضواحي محافظة "كيوتو" (Kyoto) باليابان، تستعد لافتتاح أكبر مزرعة في العالم للخضروات الورقية تشغّلها الروبوتات.

ويعد هذا المشروع هو ثاني مزرعة رأسية للشركة، والتي تختص بزراعة النباتات في طبقات متراصة فوق بعضها داخل المباني، وقد تشكل نقطة تحوّل لهذا النوع من الزراعة، نظرًا لتكاليفها المنخفضة بما يكفي لمنافسة الزراعة التقليدية على نطاق واسع.

وتمثل المزارع الرأسية، التي تنمو فيها المحاصيل في بيئة داخلية دون تربة وفي طبقات فوق بعضها البعض، أحد الحلول المعتمدة منذ عقود لتلبية الطلب المتزايد على الغذاء في مدن العالم التي تتوسع.

ولطالما تمثلت المشكلة في هذا المجال بمحاكاة تأثير المطر الطبيعي والتربة وضوء الشمس بتكلفة معقولة تجعل محصول هذه المزارع منافسًا للمحصول الذي يتم إنتاجه عبر الزراعة التقليدية.

وتُعد "سبريد" إحدى الشركات التجارية القليلة التي تدّعي أنها وجدت حلّا لهذه المشكلة بتوظيف الروبوتات والتكنولوجيا على نطاق واسع.

وفي منشآتها الجديدة بمدينة كيهانا للعلوم (Keihanna Science City)، والتي تُعرف بأنها "سيليكون فالي" (Silicon Valley) اليابان، يُزرع 30 ألف رأس من نبات الخس يوميًا على رفوف تحت أضواء مصابيح "ليد" (LED) مصممة خصيصاً لهذه المزرعة.

وتُزرع رؤوس الخس في غرفة معزولة تحميها من الحشرات والأمراض والأوساخ، كما يتم التحكم في درجة الحرارة والرطوبة لتوفير أفضل الظروف لتسريع نمو الخضروات، والتي تعمل الروبوتات على سقايتها والاعتناء بها وحصادها.

سعر ثابت

يقول "شينجي إنادا" (Shinji Inada)، رئيس "سبريد" ذو الـ 58 عامًا، في مقابلة بمنشأة الشركة الموجودة في "كاميوكا" (Kameoka): "نظامنا قادر على إنتاج كمية ثابتة من الخضروات جيدة النوعية والجاهزة للبيع بسعر ثابت طوال السنة، دون استخدام المبيدات الحشرية ودون التأثر بحالة الطقس".

فاز "إنادا" بـ "جائزة إديسون" (Edison Award)، عام 2016، عن نظام الزراعة الرأسية الذي ابتكره؛ حيث يتوقع أن تقوم المزرعة الجديدة، واسمها "تكنو فارم" (Techno Farm)، بزيادة إنتاج الشركة إلى أكثر من الضعفين، محققة مبيعات تبلغ مليار ين سنويًّا من زراعة حوالي 11 مليون رأس خس.

غير مربحة

ووفقًا لمؤسسة "غرين هاوس هورتيكلتشر أسوسييشن" (Greenhouse Horticulture Association) اليابانية المتخصصة في الزراعة، فإن 60 بالمئة تقريبًا من مشغلي المزارع الداخلية في اليابان لا يحققون أرباحًا نظرًا لارتفاع تكلفة الكهرباء اللازمة لتشغيل منشآتهم.

أما غالبية المشغلين الآخرين، فيحققون أرباحًا بفضل الإعانات المالية الحكومية أو عن طريق تحميل المستهلكين تكلفة إضافية مقابل الخضروات الخالية من المواد الكيميائية التي يقدمونها.

ويقول "إنادا" إن "سبريد" تبيع رأس الخس للمستهلك مقابل 198 ينًا يابانيًا، أي بزيادة تتراوح بين 20 إلى 30 بالمئة عن السعر الاعتيادي للخضروات المزروعة بالطريقة التقليدية.

خالية من المبيدات الحشرية

يدفع المستهلكون تكلفة إضافية لشراء هذه الخضروات لأنها خالية من المبيدات الحشرية، ولأنها تمثّل بديلًا للخضراوات العضوية التي غالبًا ما تكون أغلى ثمنًا وتحتاج أن تُزرع في تربة مزارع خارجية.

ويقول "ياسوفومي ميوا" (Yasufumi Miwa)، الخبير في معهد "اليابان للأبحاث" (Japan Research Institute)، إن مواسم الصيف الحارة والرطوبة العالية في اليابان من العوامل التي تجعل النباتات العضوية أكثر عرضة للحشرات والأمراض.

أرخص من النباتات العضوية

من المتوقع أن يتزايد الطلب بشكل كبير على الخضروات المزروعة داخليًّا

ويقول "تاكومو أوكوما" (Takumu Okuma)، المتحدث الرسمي باسم "أويسيكس را دايتشي إنك" (Oisix ra daichi Inc)، الشركة المورّدة للأغذية عبر الإنترنت: "يتطلب إنتاج الخضروات العضوية من المزارعين جهدًا إضافيًا، ويعتبر المستهلكون الخضروات الخالية من المبيدات الحشرية آمنة ويجدون فيها بديلًا للخضروات العضوية الأغلى ثمنًا".

ظهرت المزارع الرأسية صغيرة الحجم في اليابان، منذ سبعينيات القرن الماضي، وأصحابها هم أشخاص استغلوا ارتفاع أسعار الأغذية الطازجة في المدن اليابانية، إذ تستورد البلاد 60 بالمئة من الأغذية التي تبيعها للمستهلكين.

وبحسب مؤسسة غرين هاوس، لم يبدأ قطاع الزراعة الرأسية بالتوسع السريع إلا بحلول عام 2010 عندما اعتُمد استخدام مصابيح "ليد" الموفرة للطاقة، بالإضافة إلى إنشاء برنامج حكومي لتقديم الدعم للزراعة المبتكرة.

أسس "إنادا"، وهو تاجر خضروات سابق، شركة "سبريد" عام 2006، وافتتح أول منشأة له في السنة التالية في مدينة "كاميوكا" (Kameoka) الواقعة في محافظة "كيوتو" (Kyoto). وأمضت الشركة سنوات في تحسين أنظمة الإضاءة وإمدادات المياه والتغذية وغيرها من التكاليف، ليحقق المصنع أول أرباحه في عام 2013.

تكنو فارم

نجحت مزرعة الشركة الجديدة، "تكنو فارم"، التي افتُتحت في نوفمبر 2018، في رفع كفاءة الزراعة بشكل أكبر، إذ تُنتج 648 رأسًا من الخس لكل متر مربع سنويًا، مقارنة بالـ 300 رأس التي تنتجها مزرعة الشركة في "كاميوكا"، والـ 5 رؤوس التي تنتجها أي من المزارع الخارجية.

وتستهلك المزرعة 110 ملليلتر فقط من الماء لكل رأس خس، ما يشكل 1 بالمئة من كمية الماء اللازمة في الزراعة الخارجية، إذ أن الرطوبة المنبعثة من الخضروات تُكثَّف ويعاد استخدامها في "تكنو فارم".

وتمتلك تكنو فارم ميزة أخرى، وهي أن معدل الطاقة التي يستهلكها رأس الخس الواحد أقل، لأن المزرعة الجديدة تستخدم مصابيح "ليد" موفرة للطاقة، التي تتطلب طاقة أقل بنسبة 30 بالمئة.

وتتعاون "تكنو فارم" مع شركة الاتصالات "إن إن تي ويست" (NNT West) لتصميم برنامج ذكاء اصطناعي يحلل بيانات الإنتاج، الأمر الذي قد يُسهم في زيادة كمية المحاصيل التي تنتجها المزرعة.

ولم تفصح "سبريد" عن تكلفة إنتاج الخس في مزارعها، لكن شركة الأبحاث اليابانية "إنوبلكس" (Innoplex) تقدر تكلفة زراعة الرأس الواحدة من الخس في مزرعة "كاميوكا" بحوالي 80 ينًا (71 سنتًا)، وهذه التكلفة هي ضمن الأقل في العالم.

أمّا معهد اليابان للأبحاث فيتوقع أن تقترب تكاليف الإنتاج في مزرعة "تكنو فارم" الجديدة من قيمة تكاليف الإنتاج في المزارع الخارجية في غضون 5 أعوام.

إلا أن الظروف الجوية القاسية والتغيّر المناخي والعوامل المعيقة للزراعة التقليدية، تساعد الزراعة الرأسية على منافستها بشكل أسرع من المتوقع، وقد أدى الصيف الأشد حرًا الذي شهدته اليابان سنة 2018، والذي صاحبته أمطار وزوابع وفيضانات، إلى ارتفاع أسعار الخس المباع في المتاجر لأكثر من ضعف السعر الذي تبيع "سبريد" به محصول الخس لديها.

التغير المناخي

يقول "ديكسون ديسبوميير" (Dickson Despommier)، الأستاذ الفخري في قسم الصحة العامة والصحة البيئية في "جامعة كولومبيا" (Columbia University)، والذي دعم فكرة الزراعة الرأسية منذ تسعينيات القرن الماضي: "يؤثر التغير المناخي على إنتاج الأغذية في كل مكان تقريبًا، كما أن تكاليف زراعة وبيع المحاصيل تؤثر على الجميع، وإذا لم نفعل شيئًا الآن للتقليل من وتيرة التغير المناخي، قد تغدو الزراعة الرأسية الأمل الأخير لجميع سكان المدن في الحصول على الغذاء".

تقع الكثير من المزارع الرأسية حول العالم في مناطق ذات مناخ غير ملائم لزراعة الخضروات، وتتسم بارتفاع تكاليف نقل المحاصيل الطازجة المستوردة إليها، أو في أماكن خلق فيها التخوف من التلوث طلبًا على أغذية "نظيفة"، كما هو الحال في الصين.

خس من أنتاركتيكا

في أنتاركتيكا، حيث تحول الظروف الجوية دون وصول شحنات المؤن معظم فصل الشتاء، تمكن علماء في محطة "نويماير 3" (Neumayer Station III) الألمانية، في العام 2018، من حصاد أول محصول من الخس والخيار والفجل المزروعة داخليًّا لإطعام طاقم المحطة.

وفي الفضاء، يزرع رواد الفضاء على متن "محطة الفضاء الدولية" (International Space Station) بعض المحاصيل الغذائية في مزرعة مصغّرة يسمّونها "فِجي" (Veggie).

واستهدفت عدة مشاريع تجارية في هذا المجال دولًا غنية في الشرق الأوسط لتكون مرشحة رئيسية للزراعة الرأسية نظرًا للكلفة العالية لاستيرادها المحاصيل الطازجة.


وبدأت شركة "الإمارات لتموين الطائرات" (Emirates Flight Catering) في دبي العمل على بناء مزرعة رأسية مساحتها 130 ألف متر مربع لتموين شركات الطيران، وذلك بالتعاون مع شركة "كروب وان هولدينغز" (Crop One Holdings) ومقرها كاليفورنيا، بتكلفة 40 مليون دولار.


كما ظهرت مزارع أخرى ضمن تصاميم مبانٍ كالأبراج المكتبية والشقق شاهقة الارتفاع ففي منطقة "غينزا" (Ginza)، إحدى مناطق التسوق في طوكيو، أنشأت شركة "إيتويا" (Itoya) لبيع المستلزمات المكتبية بالتجزئة، مزرعة رأسية في الطابق 11 في مبناها المكون من 12 طابقًا، بهدف تزويد مقهى المبنى وبشكل حصري بالخس بتكلفة أقل من أسعار خضروات المزارع الخارجية.

منافسة البيوت الزجاجية

لعل أحد أكبر التحديات التي تواجه الزراعة الرأسية على نطاق واسع هو النمو الهائل للزراعة في البيوت الزجاجية خارج المدن، فهي تعتمد على العديد من التقنيات المماثلة.

وينتج مصنع "ثانيت إيرث" (Thanet Earth) ملايين الحبات من الطماطم والفلفل والخيار سنويًّا في البيوت الزجاجية، ومع أن هذه المزارع تحتاج مساحة أرض أكبر، إلا أنها تعتمد على ضوء الشمس، مما يقلل من تكاليف الطاقة، وتصف "ثانيت إيرث" (Thanet Earth) نفسها بأنها أكبر مجمع للبيوت الزجاجية في البلاد.